رحلة المحكمة
مثقلا بملل حشوت فيه فأضحيت كأني لفافة محشوة بسأم سمج قبيح، قضيت أشهر تسعة منتظرا الخروج من هذه الحفرة التي صار الوقت فيها جامدا بلا حراك. سأم رسم بريشة بشاعته تجاعيدا على جسدي وغرز في احشائي كائنا يتلوى في عروقي مقرضا جفناي في اليقظة والمنام ويتقلب معي في كل سكون وحركة، حركة!! عذرا اي حركة هذه حتى مشاعر الالم توقفت وبدأت ذكريات العالم الاخر تغادرني مع اوجه الذين التقيتهم من الغرباء، بل حتى من الذين اعرفهم. نسيان مثل طمى سيل جارف بدأ يطمر الاشياء كلها وكان علي ان اكف عن التفكير فيما وراء الجدر، لأنه كان كابوسا يقض مضجعي ويجرفني الى سعير. فقط من عاش في هذه الصناديق المغلقة ولا احد سواه يعلم ماذا يعني هبوب رياح الماضي العاتية. في هبوبها لن يرى احد غيره الاشياء كيف تتطاير في كل الارجاء لا تجد مأوى لها تلوذ به الا ابواب مؤصدة وطرقا مسدودة فترجع تدور وتدور حتى تفنى رهقا ولا تسكن بسكون الريح بل تخر الى القاع تتلوى الما وتشكو داءً بلا دواء.
وعند غبش طرقنا زوار الفجر مندفعين بصخب لا يوائم اشراق الفجر اجبرونا ان نرتقي سلالما كثيرة صعودا ونزولا، حتى حشرنا في عربة مغلقة ضمتنا الى عتمتها بعيون سملت بخرق قاتمة و اكف شبكت بالحديد واحدة الى الاخرى ومن ثم الى عمود افقي يمتد على طول العربة الصندوق. اجلسنا على صفيح معدني يشع ببرودة الموت في لهيب اواخر حزيران، وزحفت بنا الزنزانة السيارة في رحلة طويلة نحو مدينة متخمة بأسماء سلام لم تنعم به ابدا، ولم تخذل عادة العرب في تسمية الاشياء بضد حقيقتها. وصلنا إليها والشمس معلقة في كبد السماء تطرق الحديد بعنف كأنها تبحث عن الخبيئة التي يواريها فيصرخ من لفعها سخونة، بينما تواصل طرقها المجنون وكنا نأمل ان يُفتح الباب لكنه ظل موصدا. يزداد الطرق منا بأقدامنا مع ارتفاع حماوة الحديد ونحن نرنو بعيون مغمضة الى فرد منهم يولج مفتاحا في الاقفال لنغادر صخب الشمس وصرخات الحديد. كان هناك بابان في هذه الزنزانة الجديدة المتحركة باب مغلق علينا وباب اخر يجلس عنده الحرس الذين فتحوا كوة صغيرة من اعلى الباب تسرب منها ضوء سطع بشدة من وراء العصابة التي غلفت عيوننا.
– ضاع المفتاح انتظروا الى ان نجده!
صفقوا الباب الخارجي بقوة وهم يرعدون ويزمجرون، وضاع الضوء والهواء مع المفتاح ايضا. بدأت أنوفنا تفتش عن بقاياه المندثرة بلا جدوى، فار العرق من أجسادنا واستعر الحديد غضبا من لسعات الشمس. ارتعشت أصواتنا موقنة أننا قطعنا نصف تذكرة الى الغربة الاخيرة. رحيل لم يكن يخطر على بالنا انه سيكون بهذه الطريقة الفظيعة، لن ابالغ لو قلت لكم ان اجسادنا تصببت كل السوائل التي فيها ولا زلت اذكر كيف ان العرق كان ينهمر من ارنبة انفي كأنها صارت صنبور ماء. حينها كلنا تمنينا امنية واحدة وبصوت عال، الموت اعداما لا ضير فيه لكن لنشم جرعة هواء واحدة ولتقطع بعدها الرقاب. اقتربنا من الاغماء وتلاشى كل شيء ولم نعد نقوى على الحركة وتمايلت اجسادنا الى الامام تترنح من الضعف، بل اوشكت على كامل الانهيار.
فجأة هب علينا نسيم ثلجي او هكذا حسبنا الهواء اللافح وهو يلامس البلل الذي كنا قد غمرنا به. نفخ الروح فينا من جديد وانهى لذة قطيع وحوش ثملة برغبة سادية لم ينتهي تعارفنا بها بعد فقد كان علينا أن نلتقيها في قادم الايم والسنوات مرات ومرات في سلسلة طويلة حلقاتها وجع والم شبعى بالنكد والاسى والانين.
أوقفنا بمواجهة حائط آخر من حيطان كثيرة تأملتنا بصمت وانكسار ونحن ندير قفانا لهراوات في هذه المرة وغيرها وهي تنزل على أجسادنا بقسوة تتكسر ولا يرحمها حاملها، يدفعها مهشمة ويسحب أخرى، ومع ذلك كنا لازلنا نملك الجرأة لنسأل انفسنا والعجب يتملكنا لماذا يحملون كل هذا الكم من الحقد والضغينة لأناس لا يعرفون حتى اسمائهم. اكثر ما في الحروب مدعاة للقرف ان ترى عدوا يفتك بك فقط كي يستمر هو في عبودتيه لا غير.
زججنا في زنزانة لا تكفي لان يمتد فيها احد وفي آخرها كان مرحاض ومثل طفل يحظى بلعبة جديدة، انتشينا فرحا به، فهذه اول مرة يصبح في قبضتنا بعد أن حجزنا عنه طويلا سلاسل وأقفال. وسط هذه الدهشة والفرح اغتسلنا بماء وفير نراه لأول مرة أزاح عنا رهق رحلة مرة. فتحت الأرض ذراعيها بلا وسائد ولا أغطية ولا حتى فراش واستقبلت غفوتنا عليها تنتظر مخاضا جديد بالشجى ولن يكون الأخير.