خلافاً لما يعتقده الكثيرون من أنَّ تنظيمات حزب الدعوة تحتوي على عددٍ كبيرٍ من المنظِّرين وما لا أعرف من هذه الأوصاف التي باتت تطلق جزافاً على كلِّ من يحسن أن يلقي خطاباً من خلف المنصة، فإني أعتقد أنَّ الشيخوخة الطاعنة قد أدركت هذا الحزب، ليس الآن، بل في مراحل تأريخيةٍ متقدمةٍ قبل استلام السلطة في العراق، غاية الأمر أنَّ لدى عناصر هذا الحزب طاقةً عجيبةً في استثمار تأريخ التضحية، وهو تأريخٌ لا يعتبر الموجودون حالياً امتداداً حقيقياً له في جميع الأحوال، فليس أمامك من رموزهم البارزين الآن إلا الجعفري والمالكي وعلي الأديب، وهؤلاء الثلاثة جميعاً لم تتبلور قيادتهم للحزب إلا في ظروفٍ شاذةٍ للغاية نتيجة الفراغ القيادي الذي عاناه الحزب بعد غياب القادة الأوائل من المشهد القيادي لهذا الحزب، أي إنَّ قيادتهم لم تكن وليدة الصراع الذي خاضوه تنظيراً وممارسةً إبان المراحل التي شهدت الحراك الفكري والثقافي والسياسي للحزب على أرض العراق، وحتى لو فرضنا أنَّ لهم بعض النشاطات البسيطة في تلك الفترة، فإنها لا ترقى إلى مستوى أن يُبَشَّر بهم بصفتهم قادة الحزب في المستقبل، بل إنَّ هناك اعتراضاً كبيراً يبديه بعض الأشخاص الذين لا يستهان بمكانتهم الفكرية والثقافية ممن أسهموا في بلورة النظرية السياسية لهذا الحزب خلال بعض الفترات الحرجة من حياته داخل العراق وخارجه، يبدون الآن امتعاضهم من أن يكون مآل قيادة الحزب إلى الجعفري أو المالكي أو الأديب، وهم يصرون على حقيقة أنَّ هؤلاء الثلاثة بالذات ما كان لهم أن يرتقوا إلى الصفوف المتقدمة في قيادة الحزب لولا اتصافهم ببعض الأخلاقيات التي تجافي التوجه العام للمبادئ التي تبنوها منذ البدء.
على أية حال، فإنَّ الأمر كان واضحاً منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها عناصر هذا الحزب إلى العراق أنهم تخلوا تماماً عن جميع ما كان يُكتب أو يقال في منشورات الحزب ولوائحه الرسمية، أو في أروقته الداخلية خلال فترات الصراع قبل الثمانينيات، بل كان مجرد الحديث مع أحدهم من شأنه أن يثير التقزز والاشمئزاز نتيجة ما يطرحونه من الأفكار والآراء التي لا يمكن إلا أن تتصادم مع الضمير الديني والوطني، حتى أنَّ موقفهم من الاحتلال كان مخزياً بالفعل، إذ اعتبروه تحريراً، بل كانوا يدعون إلى محاكمة كلِّ من يدعو إلى مقاومته ثقافياً أو إعلامياً أو عسكرياً، لولا أنَّ المقاومة كان لديها من القوة الرادعة ما يجعل من مسألة التحرش بها مخاطرةً حقيقيةً يقدم عليها هؤلاء، أما موقفهم من البعث، فقد كانوا منذ البدء يعلنون أنَّ موقفهم من البعثيين لا يتسم بالحدية المطلقة، الأمر الذي يعني أنهم كانوا لا يمانعون مطلقاً من إدراجهم في الحكومة بل في تنظيمات حزب الدعوة لو اضطرَّ الأمر، أي إنهم كانوا يلوِّحون للبعثيين بأنَّ عليهم أن يتفقوا تماماً مع حزب الدعوة على تبني مشروعٍ سياسيٍّ موحدٍ في إدارة العراق، بمعنى أنهم كانوا منذ البدء يشيرون إلى إمكانية قيام هذا التحالف بين البعثيين والدعاة، على أساس أنَّ هؤلاء الأخيرين قد تخلَّوا مطلقاً عن الثوابت التي كانت هي السبب في عدم الاندراج مع البعثيين ضمن هذا المشروع الموحد، فكما أنَّ البعثيين كانوا يتبنون شعاراتٍ كثيرةً لا يلتزمون بها من الناحية العملية، فكذلك حزب الدعوة الآن، يرفع هذه الشعارات التي يكون مستعداً للتنازل عنها في جميع الأوقات، هذا هو المبدأ الأساس الذي يجعل مسألة التحالف مع أيِّ خصمٍ كائنٍ في التأريخ أو محتملٍ في المستقبل أمراً سهلاً ومتاحاً، وعلى هذا الأساس، فإنَّ ما قام به المالكي مؤخراً لا يشكل صدمةً أو مفاجأةً من أيِّ نوعٍ بالنسبة إلى من كان يلاحظ اندراج فكر الدعاة الجدد في هذه الاستراتيجية البراغماتية التي يتبناها الحزب الآن علانيةً جهاراً، بل إنهم يعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الفكرية والنظرية التي يفتخر بتبنيها جميع الدعاة الآن على وجه التقريب.