الحرية هي الشرف
في أحد الأيام حشر عدد كبير في زنزانتنا بعد أن تم نقل مجموعة كاملة من زنزانة مجاورة ولم نفهم سبب هذا الافراغ المفاجئ وبصورة كاملة للزنزانة. كنا نتوقع كالعادة وجبة جديدة من المعتقلين السياسيين، لكن هذا لم يحصل. حتى رجع صوت مفاتيح الزنزانات يصلصل بحقد من بعيد الى ان بات قريبا جدا ليفتح الزنزانة المجاورة لتبتلع ضحية جديدة لم نكن بحاجة الى عناء كبير لنكتشف جنسه، صوتها كان الهوية. كانت هذه المرة الاولى والوحيدة التي عاصرنا فيها اعتقال سياسي لأنثى. ماجدات وحرائر وحفظ شرفهن من الأعداء والغزاة ترنيمة روتينية اليوم سوف نختبرها في معمل انتاج الأمن الثوري. في المساء ذهبت الى الأعلى حيث ذهبنا قبل لتبدأ حكايتها.
رغم كل الذي حصل لنا، ومع مرارة تجربتنا الا اننا كنا نأمل بأنها ستحظى بمعاملة أحسن من التي ذقناها منهم، لأنها انثى وامرأة شابة ورجال الامن السياسي في الاول والاخر اناس شرقيون مثلنا و يمنعهم الحياء وشيمتهم القبلية العربية وسوف يعاملوها بما انها امرأة لها حتى لو كانت معتقلة سياسية. لم نكن نطمع بأكثر من هذا لها. تمنينا لها ليلة لا تسبح فيها عارية في الفضاء كما فعلوا بنا، ولم تجرؤ احلامنا أن تبعد الهراوات عنها، لأننا كنا على يقين انها طعام يومي لكل معتقل ولن يدخروها لأحد مهما كان عمره أو جنسه. لم نتخيل ابدا انا كنا نختزن حلما سخيفا آخرا ستبعثر أشلاءه صراخ سيدة ما عرفنا لها اسما ولا عنوانا الا كونها تفكر بحرية ممنوعة.
بقامة متوسطة ووجه بين الاستدارة القليلة والاستطالة تعلوه سمرة مشوبة بخوف كثير يلتف عليه شعر أسود منسدل بنعومة الى حد الكتفين هو كل ما بقي في الذاكرة من نظرة متلصصة طويلة سرقتها من كوة الزنزانة وهم يقتادوها خارجا الى غرف التعذيب. عرفنا فيما بعد ومن كلام بعض الحراس الأمنيين الذين عقدنا معهم صداقات دردشة بسبب طول الاقامة كيف أنهم عذبوها مثلنا تماما. رواياتهم كان يؤيدها صرخات مرعبة تشق سكون الليل تنزل علينا من بعد طابقين فتصدع أركان قلوبنا. صرخات تتوسل الجدران مرة واخرى السماء، ولكن الصمم اصاب الكون كله حتى نحن كنا نحاول ان نحشو آذاننا بالصمت. العجز والعار كان يطوف فوق رأسنا يظللنا بكومة من سحاب ثقيل من الدهشة واحساس بخواء، خواء لو قرعت فيه كل طبول الاحتجاج لن تسمع له صوتا ولا صدى. خواء وضياع وعدم جديد انتحرت فيه خرافة أخرى. لو كان لذرة رمل تطيح بها رياح خمسينية أمل في الثبات لكان لخرافة القبيلة التي تصون أعراض النساء حينئذ فرصة للنجاة؟ حرائر واعراض ماجدات وقبيلة فخورة بسكانها الذين يملؤون المقابر و حضارة سبعة آلاف عام ودين عفة وشيمة غض الابصار وعروبة وسخافات كثيرة اخرى كلها انتحرت، لأني لا اجرؤ على القول انها لم تكن حية يوما لتموت. وطن يعشق وأد الحرية ويقتل كل من قرر أن يختار طريقه باسم أشياء كثيرة دين او شرف او مبادئ حزب وثورة.
عفتك يا صديقتي هو عشقك للحرية التي صارعت به الوحوش بكل ما عندك وانتصرت لأنك ما زلت خالدة في القلوب والعقول ويفخر الكل بذكرك، اما هم يكفيهم من العار أنهم لا يجرؤون على ذكر أفعالهم هذه ولو كانوا في مخادع نومهم.