17 نوفمبر، 2024 5:16 م
Search
Close this search box.

شعر المتنبي : قراءات نقدية خاطفة

شعر المتنبي : قراءات نقدية خاطفة

1 – المتنبي عبقري بالقوة ولهذا تلاقفه الدهر…!!
إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ*** فَلا تَقنَعْ بمــا دونَ النّجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ****كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
المتنبي : أبو الطيب ، أحمد بن الحسين الجعفي الكندي ولد في الكوفة ( 303هـ – 915م ) ، وقتل بالقرب من النعمانية،عند دير العاقول سنة (354هـ – 965م) ،في موضع اسمه (الصافية).

المتننبي تعرفه مَنْ هو المتنبي ! والمُعرّف لايحتاج الى تعريف ، فالتعريف به تصغيرٌ لنا.
بدأ حياته ملعلعاً صارخاً غير آبهٍ بهذا ولا ذاك ، يقول المعري في (معجز أحمد) : ” إنّ أول شعر قاله في صباه من (العراقيات) :
أبلى الهوى أسفاً يوم النوى بدني*** وفرق الهجر بين الجفن والوسن
روحٌ تردد فـــــي مثل الخلال إذا ***أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
كفى بجسمي نحولاً أنني رجـــــلٌ *** لولا مخاطبتي إيـــــاك لم ترني”
انتهى ما ذكره المعري. ولي التحليل الآن:

المتنبي جشّم نفسه خمسة أشطر ، ليصل إلى الشطر السادس ، وهو بغيته ، ومراده ( لولا مخاطبتي إيـــــاك لم ترني ) ، فالرجل منذ طفولته كان يتطلع إلى زلزاله الكبير، وبركانه الرهيب ، لِمَ لا ؟! وكان محلهُ فوق محل الشمس ،والدهر لشعره منشد ،عرفته الخيل والليل ..والقرطاس والقلم،بيّن الله به الأقدار ، فملأ الدنيا وشغل الناس…. كلّ ُ هذا صحيح وأكثر منه ،والدّرّ ُدرّ ٌ برغم من جهله، ولكن الصحيح أيضاً وأصح منه ، كان فنـّه أكبر من عقله ،وخياله أوسع من فكره، وطموحاته الدنيوية دون همّته الآبدية، وإنْ زعم ، فما تزعّم ! ، وهذه من خفايا هبات الطبيعة للإنسانية وجمالية لطفها للخالدين، وقد ارتجلت بيتاً من الشعر حول هذه اللمحة لحظة تطرقي إليها إبان تأليفي كتاب ( للعبقرية أسرارها …) ، ، فخاطبت متنبينا قائلاً:
لقد طلبتَ من الأيّام ضيعتها *** لكن أبى الدهرُ إلا يوهب الخَلدا

مهما يكن من أمر، مبالغات المتنبي لم تكن سوى الترفع عن خبث الجسد للسمو إلى جمال الروح ، وليكن بعدها ما يكن – يا دنيا:

وإنّي لَمِنْ قَوْمٍ كأنّ نُفُوسَـهُمْ *****بها أنَفٌ أن تسكنَ اللّحمَ والعَظمَا
كذا أنَا يا دُنْيا إذا شِئْتِ فاذْهَبي ** ويا نَفسِ زيدي في كرائهِها قُدْمَا
فلا عَبَرَتْ بي ساعَةٌ لا تُعِزّني ****ولا صَحِبَتْني مُهجَةٌ تقبلُ الظُّلْمَا

ألم تقرأ بربك الأبيات ؟!
مثل هكذا رجل ، لا يمكن له أن يعيش مع مجتمعه إلا بالقوة ، لذلك كان متنبينا محسوداً ، مكروهاً ، مذموما حتى من قبل الملوك الذين خصهم بمديحه الذي رفع شأنهم في الحياة ، وخلدهم في الممات كسيف الدولة وكافور وعضد الدولة ، وتذكر بعض الرويات ، أن العضد البويهي ، هو الذي أوعز للفاتك الأسدي بقتل المتنبي ، أو على الأقل التغاضىي عن محاسبته ، نواصل مسيرة المتنبي القوية بإرادته الصلبة ، فقوله الآتي ، وهو مما نظم في بدايات حياته – أي من العراقيات – دليل أخر على تطلعه لفرض قوته جبراً ، ونجح :
أيُّ محـــــــلٍّ أرتقي *** أيّ ُ عظيــم ٍأتّقي
وكلُّ ما قدْ خلقِ اللـ ****ـــهُ ومـا لمْ يُخلق ِ
مُحتقرٌ في همّتـــي *** كشعرةٍ في مفرقي

ومع ذلك ،الشرخ الواسع ، والهوة السحيقة الفاصلة بين واقع الحال،والخيال المحال،ومحاولة جمع النقيضين ، والسلوك بمظهرين متضادين ، جعله عاثرا مُعثـَّرا في سلوكه الاجتماعي ، نظرة إعجاب وموضع إستهزاء ، فمدَّ غربته بتغربه،حتى رأى الناس غير الناس ،والدنيا غير الدنيا ، والزمن غير الزمن ،أراد أن يطوّع الزمن كما يشاء ،أو أن تجري الرياح كما يشتهي !! وإلا:

أذمُّ إلى هذا الزّمـــان ِ أهيلهُ ****فأعلمهمْ فدمٌ وأحــزمهمْ وغدُ
وأكرمهم كلبٌ وأبصرهمْ عمٍ ****وأسهدهمْ فهدٌ وأشجعهمْ قردُ

ماذا بقى – يا قارئي الكريم – من كلام بعد هذا الكلام ، كي نُطالب بكلام أمّا بعد هذا التغرّب النفسي الذي أجّج هياج المتنبي وتمرّده ، وأدلع همّته بغربته وتنقله…
.
وللمتنبي قول رائع يصب في هذا المعنى، ولا أراه الا ما رأى نفسه بهذا البيت ،ولو أنـّه رمى به غيره :

إذا ساءَ فعل ُالمرءِ ساءتْ ظنونُهُ*** وصدّقَ ما يعتادُهُ من توهّم ِ

ولاريب ، أن العباقرة والمفكرين والشعراء هم أكثر الناس تفكيرا وتوجسا وتخيلا , ومن هنا نتفهم بسهولة قوله الرائع الآخر:

ذو العقل ِ يشقى في النعيم ِبعقلهِ *** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ

للتغرب النفسي ظروفه الذاتية والموضوعية التي تتفاعل حيويا في عقل ووجدان العبقري في لحظات معينة – قد تطول ، وقد تقصر – لتنعكس على شكل إبداع أو كآبة أو تصرف ما ، وإذا زادت شدّته ،وطالت مدته ، قد يؤدي إلى حالة جنون أو فسحة مجون ! أو مغامرة طائشة ، أو محسوبة بدقة ترمي للمعالي ، والنفوذ والخلود ، فعندما كبست أنطاكية، وقتل مهره الذي وصفه ، طالعنا طامحاً بمطلغ من أروع مطالع قصائده ، بل القصائد العربية ، إذ غرف من ( وافره) :

إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ*** فَلا تَقنَعْ بمــا دونَ النّجومِ
فطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقِيرٍ****كطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِ
ستَبكي شَجوهَا فَرَسي ومُهري** صَفائحُ دَمْعُها ماءُ الجُسُومِ
قُرِينَ النّارَ ثمّ نَشَأنَ فيهَــا ***** كمَا نَشأ العَذارَى في النّعيمِ
وفارَقْنَ الصّياقِلَ مُخْلَصاتٍ ***** وأيْديهَــا كَثيــراتُ الكُلُومِ
يرَى الجُبَناءُ أنّ العَجزَ عَقْلٌ ***** وتِلكَ خَديعَــةُ الطّبعِ اللّئيمِ
وكلّ شَجاعَةٍ في المَرْءِ تُغني****ولا مِثلَ الشّجــاعَةِ في الحَكيمِ

هذا ليس بكلام مَن يسير بدنياه بهدوء ، أو تعقل جبان ، وإنما هو طموح يُفرض بالقوة ، ونكرر معه قوله:

وكل شجاعة في المرء تغني***ولا مثل الشجاعة في الحكيم

بربك قل لي إذا نتغاضى عن جبن الفرد ، وتعقله المزعوم ، وسكوته المنافق ، وشيطانه الكامن ، فكيف بنا ، وإلى أين سيرمينا الموج الهادر في الزمان الغادر ، عندما يخذلنا القادة الصغار ، طمعاً ببقاء مهزوم ،لتخمة كرش ، أوهش بش !! ، ويقف معهم العقل الجمعي أبان غيبوبته ، وغفوته ، وقد انتبه عبقرينا إلى هذه الثغرة في الحياة ، ولك أن تقول حكمة ، فما يدريك ، ويدرينا:

يموت راعي الضأن في جهله *** ميتة جالينوس فــــي طبِّه
وربما زاد على عمــــــــــــره ***وزاد في الأمن على سِرْبه

قلّة نادرة من البشر يلتفتون إلى ما نذهب إليه ، والندرة النادرة من يشير إليها ، وأنا منهم ، لك أن ترضى ، ولك أن تأبى !! أما أنا فسأسير على الدرب الذي فرضته الطبيعة عليَّ ، وجبلته بي، وما الدهر إلا عفطة عنز !! ، تعبت ، ومؤلفاتي الخمسة التي وعدتك بها ، والتي سأزفّها في السنة القادمة إلى القارئ العربي الكريم ، تنتظرني صابرة مجاهدة ، وما أنا – أناتك !! أكرر الأنا ، رغم أنفهم – سوى إنسان قوي بإرادته وإصراره وأمامي بحر الظلمات الذي يموج به عراقنا الحبيب دون شراع سليم ، ولا ربان حكيم ، ولله الأمر من قبل ومن بعد ، لعلهم يعقلون!!

2 – المتنبي عبقري بالقوة الفكرية والشعرية ، ولهذا تلاقفه الدهر:

عجيب أمر هذا المخلوق المتنبئ يريد أن يجمع النقيضين بين يديه ، والدنيا تأبى هذا الأمر لأبنائها ، بل هي عاجزة على أن تحوزه لنفسها ، فكيف تمنح لغيرها ما لا تملك لنفسها:

أريدُ من زمني ذا أنْ يبلّغني *** ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ

يا عمي على كيفك ، ورّطتنا يا أبا الطيب !! – راح نحكي معك بالعراقي الفصيح – الدنيا لا يستقيم فيها هذا الحال ، من يومك وما قبل ، وإلى يومنا وما بعد حتى السرمد ، من سيء إلى أسوأ ، تعال وشوف يا حبيبي !! ، وأنت سيد العارفين ، و ها قد اعترفت أنت بنفسك ، وهذا الدعبل ابن كوفتك الحمراء نفسها ، وقد حلّ بالديار قبلك بأكثر من مائة عام – وهو مثالنا العربي الآخر لموضوعنا السائر – وجرب الأمر ذاته ، ورغم أنه سلك نهجاً واحداً ، واتّخذ موقفاً ثابتاً على درب الحياة المعارضة ، ما رأى هذا الدعبل ؟!

ما أكثر الناس ، لا بل ما أقلهمُ *** اللهُ يعلمُ أنــــي لم أقلْ فندا
إنّي لأفتح عيني حين أفتحهــا ** على كثيرٍ، ولكن لا أرى أحدا

ويكرر في قصيدته التائية الخالدة هذا المعنى السامي في اختلاف الرؤى بين الشاعر الملهم الذي تتوضح له الصورة النقية الواضحة الساطعة لنهج الحياة ، ودربها الوعث ، وبين الإنسان العادي الذي يتراكض وراء اللذات الآنية ، والشهوات المرحلية ، والمنافع المصلحية على حساب عواقب الأمور السيئة للمجتمع ذاته ، أو للأجيال المقبلة ، وهي في غياهب غيبها تدفع ضريبة لغيرها ، اقرأ ما يقول:

سأقصرُ نفسي جاهِداً عن جِدالِهم ***كَفانــي مــا ألقــى مــن العَبَــرَاتِ
أُحـاولُ نقلَ الشمسِ من مُستقرِّها ***وإسمـاعَ أحجــارٍ مــن الصَّلـَدَاتِ
فمــن عـارِفٍ لــم ينتفِع ، ومُعانِدٍ ***يَــميلُ مــع الأهــواءِ والشَّهــواتِ

والناس وما أدراك ما الناس ، إذا وقع بين أيديهم عبقري موسوس كابن الرومي مثلاً ، ، يلعبون به ( شاطي باطي) ، يستصغرونه ، ويعيبون شعره ، ويعبثون به ، وينفرون منه ، وهو يصرخ شاكيا أمره لله وللأجيال:

عابوا قريضي ، وما عابوا بمنقصةٍ *** فلن ترى الشمس أبصار الخافيشِ!!

أو يستغيث بصيحة مؤلمة موجعة ، عندما طلب منه الفراسي والزجاج _ وهما من علماء النحو واللغة – أن يغادر مجلس الوزير القاسم بن عبيد الله ، لأنه عامر بالزوار والضيوف قائلاً:

يا لقومٍ أأثقل الأرض شخصي***أم شكت من جفاء خلقي امتلاءا
أنا من خفّ واستدق فما يثْــ*** ــقلُ أرضاً ، ولا يســــــدُّ فضاءا

وشارل بودلير الفرنسي لم يكن أسعد حالاً بين أفراد مجتمعه الباريسي من ابن الرومي وأفراد مجتمعه البغدادي ، وقد سبقه إلى الحياة بألف عام ، اقرأ ما يقول هذا البودلير في (أزهار شرّه) :
الشاعرُ أشبهُ الأحياءِ بأمير ِ الجواءْ
يقتحمُ العواصمَ ولا يبالي الرماة ْ
وهو في أوج ِ السّماءْ
ولكنـّه في الأرض ِ غيره في السّماءْ
غريبٌ طريدٌ..موضعُ ازدراءِوعرضة ُاستهزاءْ
إنّه متعثر الخطوات لأنَّ جناحيهِ الجبارين
يعوقانه عن المشي

وقد عقبت على هذا المقطع البودليري ، عندما تناولت غربة المتنبي وتغربه بقولي: حقـّاً عاقاه عن الإندماج مع خلق الله ، فعاش تعيساَ بائسا منكسرا ، لم تكن لديه همة المتنبي وتحديه وصراعه ، لاختلاف عصريهما ومكانيهما ونفسيتهما ، ودور الشعر في بيئتيهما وتوجهاته ، ولكن بعد عشرين عاماَ ، أعيد الأعتبار للرجل ،حتى أصبح اسمه الحد الفاصل بين مرحلتين من الشعر العالمي. انتهى
والحقيقة حتى ابن الرومي خدمه الزمن للبروز ، فتلاقفه عباقرة آخرين من بعد وفاته بكثير ليظهروه مرة ثانية كأكبر عباقرة الأمة ، وإلا لسحق ، كما سحق غيره ممن لا نعرفهم !! ولكنّ المتنبي ودعبلاً فرضا نفسيهما بالقوة خلال حياتهما.
نعود للمتنبي والعود أحمد عن أحمد ، ماذا تتوقع من شاعر يشمخ مراراً وتكراراً بنفسه وأناه المتضخمة عن حق ملموس ، لا كذب موهوم ، ويتحدى بمناسبة ودون متاسبة زاهياً مفتخراً ، إليك ، ونكمل بعد ما لديك:

إذا رأيتَ نيوبَ الليثِ بارزةٌ *** فلا تظُنَّن أن الليثَ يبتسِمُ

أي أنياب هذه يا سيدي ، ويروى في إحدى غزوات سيف الدول ، وقد انهزم جيشه علي يد الروم ، فرجع (السيف ) إلى غمده مسرعاً خائباً مع ثلة من أصحابه ، وكان المتنبي العظيم من بينهم ، فعلقت عمامة المتنبي بغصن شجرة ، فجرّد المتنبي سيفه ، وصرخ : ويحك يا علج ، فعقب ( سيقه) مبتسماً : أي علج يا أبا الطيب ، هذا مجرد غصن علق بعمامتك !! وكأني بالمتنبي ضحك بعد أن تذكر بيته:

وضاقت الأرضُ حتى كان هاربهم *** إذا رأى غير شيءٍ ظنه رجلا

دعناعن هذا ،وتعال معي لنأخذ هذا البيت الشهير:

وإذا أتتكْ مذمتي من ناقصٍ*** فهي الشهادة لي بأني كاملٌ

عن أي كمال يتكلم متنبينا ، والكمال لله وحده ، ومما خصصت له فصلاً في كتابي ( للعبقرية أسرارها …) ، موضوع أخطاء العباقرة ، العباقرة أحيانا يسهون ، أويصيبهم الشرود الذهني ، وقد ينسون أسماء أقرب مقربيهم ، وقد يرتكبون أخطاء لغوية أو إملائية أو نحوية سهواً ،قد لا يرتكبها التلاميذ الصغار وأنا أتكلم عن عباقرة الدنيا كلهم ، لذلك يقول غوته في خطاب له وحهه إلى أكرمان بتاريخ 28 مارس 1827 : “إذا اكتشف رجل من جيلنا خطأً وقع فيه أحد عظماء الرجال في العصور السابقة ،فإن من العدل والإنصاف ألا يتكلم عن ذلك الخطأ إلآ وهو راكع على ركبتيه” ، طبعاً الحق مع غوته ، لا يعرف العظيم إلا العظيم ، والحق مرّة ثانية ، أن المتنبي العظيم ، ما أراد هذا التخصيص الذي ذهبنا إليه ، وإنما قد أجليت الصورة للقارئ الكريم عن أخطاء العباقرة ، والحديث شجون ، والمتنبي في هذا البيت ضرب ضربة معلم من الطراز الرفيع ، وجهها إلى حاقديه أو مناؤييه، وله بيت آخر يجري على السياق نفسه:

ولم أر في عيوب الناس شيئا ****** كنقص القدرين على التمامِ

لار يب أن الأبيات من أروع الحكم الإنسانية ، ولا تتوقع مني أن أدخل معك في الغيبيات مرّة ثانية ، وإنما خرجت في الأول عن الاسترسال من باب الاستطراد ،ونستطرمرة ثانية بروايتين لابن حجة الحموي يذكرهما في (ثمرات أوراقه) لنخرج بهما ومنها لمتنبينا العبقري بالقوة اقرأ رجاء:

إن أبا العلاء المعري كان يتعصب لأبي الطيب المتنبي فحضر يوما مجلس المرتضى فجرى ذكر أبي الطيب فهضم من جانبه المرتضى فقال أبو العلاء لو لم يكن لأبي الطيب من الشعر إلا قوله: لك يا منازلُ في القلوب منازل لكفاه. فغضب المرتضى وأمر به فسحب وأخرج وبعد اخراجه قال المرتضى هل تعلمون ما أراد بذكر البيت قالوا لا قال عنى به قول أبي الطيب في القصيدة:

وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ *** فهي الشهادة لي بأني كامل

ومثله قصة السري الرفاء مع سيف الدولة بسبب المتنبي أيضا فان السري الرفاء كان من مداح سيف الدولة وجرى في مجلسه يوما ذكر أبي الطيب فبالغ سيف الدولة في الثناء عليه فقال له السري أشتهي أن الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لأعارضها ويتحقق الأمير بذلك أنه أركب المتنبي في غير سرجه فقال له سيف الدولة على الفور عارض لنا قصيدته التي مطلعها:

لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي … وللحب ما لم يبق مني وما بقي

قال السري فكتبت القصيدة واعتبرتها في تلك الليلة فلم أجدها من مختارات أبي الطيب لكن رايته يقول في آخرها عن ممدوحه:

إذا شاء أن يلهو بلحية أحمقٍ*** أراه غباري ثم قال له الحق

فقلت والله ما أشار سيف الدولة إلا إلى هذا البيت.
وهذا البيت هو مرادنا أن المتنبي لا يعرف أن يعيش إلا بالقوة ، وإذا أردت المزيد ، فإليك إصرار المتنبي على موقفه المتماهي بقدرته وعبقريته دون الخضوع بمستنقع التواضع الضعيف ، وأمام هذا السيف الدولة ، وفي أروع قصائده يجابهه:

وَمــا الدَّهـر إِلا مـن رُواةِ قَصـائِدي**إِذا قُلـتُ شِـعراً أَصبَـحَ الدَّهـرُ مُنشِدا
فَســارَ بِــهِ مَـن لا يَسِــــيرُ مُشـمِّراً***** وغَنَّــى بِــهِ مَـن لا يُغنّـي مُغـرِّدا
أَجِــزْني إِذا أُنشِــدتَ شِـعراً فإنّمـا ****بِشِــعري أَتــاكَ المـادِحُونَ مُـردَّدا

بل كان يلقي شعره جالسا في بلاط أميرحلب دون أنْ يجرؤ شاعر آخر بمثل هذا ، إضافة إلى أنه كان يتقاضى أضعاف ما يتقاضاه أكابر الشعراء ،فتولدت علاقة حميمية بينهما ، مما أثار حفيظة هؤلاء الكبار ، فدارت حول شاعرنا دوائر الحقد والحنق والغضب والتآمر ، وتمكنت من الوصول إلى قلب أمير السيف ، فأهمل أمير الشعر وجفاه حتى بادر الأخير بقصيدة عتاب من روائع قصائده ، ولا أخال أحداً لم يمرّ عليها لشهرتها ، وروعتها ، وإليك بعض شموخها وقوة نفسية شاعرها ، وهو المطلوب:

سيعلـم الجمع ممن ضم مجلسنا ***باننــي خير من تسعى به قـــــدم
انا الذي نظر العمى إلـــى ادبــي **** وأسمعــت كلماتي مَن بهِ صممُ
انام ملء جفوني عن شـــواردها*** ويســـــهر الخلقُ جرّها ويختصمُ
إذا رأيتَ نيوبَ الليـــــــثِ بارزةٌ *** فلا تظُنَّن أن الليــــــــــــــثَ يبتسِمُ

وكررنا البيت الأخير لكي تصل إلى البيت التالي ، أليس هو القائل:

و جـــاهل مده في جهله ضحكي*** حتّى أتته يدٌ فراسةٌ وفمُ

طبعاً لم يقصد المتنبي أنه ليث على الليث ، بل رمى به من كان يحسبهم ثعالباً وذئابا ،أطلت المقام معكم ، والمتنبي إجمالاً ، فرض نفسه بالقوة ، وشاع ذكره للقوة ، ودفع الغوائل والضغائن والدسائس بالقوة ، وقال ، وصدق القول:

مازلت تدفع كل أمر فادح *** حتى أتى الأمر الذي لا يدفع

والسلام على أهل السلام ، ومزيداً من الحبّ والاحترام

أحدث المقالات