عندما صدر قانون الإصلاح الزراعي في العراق في 1958م – وصدر قبله قانون مماثل في مصر في عام 1952م – فرح البعض تعاطفاً مع كلمة ( إصلاح ) وكلمة ( زراعي ) ظناً منهم أنه في مصلحة الفقراء ، حيث سلبت الحكومة الأرض من كبار الفلاحين .
والحقيقة ان حكومة 14 تموز أصدرت القانون في الشهر التاسع من عام 1958 م وهي قد تشكلت في الشهر السادس من نفس العام ! فكيف صاغت قانوناً بمثل هذا التعقيد وهذه الأهمية في شهرين ! .
ولم ينتبه الناس إلى أن هذه ( الحكومة الثورية ) اخذت الأرض لتعطيها لقبائل كانت تدور في الصحراء ولا تملك أرضا ، ليصبح جنوب العراق الخصب أرضاً بورا ، فالفلاحين الصغار ما كانوا يستطيعون تمويل زراعة هذه الأراضي الكبيرة ، والحكومة كانت تركز جهودها في تثبيت وتمويل قبائل بعينها في مناطق أخرى .
لقد قرأنا جميعاً في المدارس الحكومية عن ثورة 14 تموز في العراق وثورة الضباط الأحرار في مصر وثورة السلال في اليمن وكيف قضت هذه الثورات على التخلف الملكي في هذه البلدان . لكنّ الحقيقة أنها لم تكن سوى انقلابات قتلت هذه الدول وجعلتها في أسفل سلّم تطور البشرية .
فلقد كانت الأنظمة الملكية السائدة في اليمن والعراق ومصر – على طائفيتها وبطئها – مهنية وعلمية وأقرب للفهم الحضاري من حكومات العسكر اللاحقة .
والغريب أن هذه الانقلابات حدثت في عشرية واحدة من السنين للفترة 1952 – 1962م ، الأمر الذي يكشف اشتراكها في المصدر .
وهي متشابهة في الغدر والخسة سلوكاً ونتيجة . ففي العراق التفَّت مجموعة من الضباط حول عبد الكريم قاسم ليغدروا بالحكم الملكي الفيصلي ، ثم غدرت مجموعة الضباط القوميين والبعثيين بعبد الكريم قاسم واسقطوه . وفي مصر التفّت مجموعة من الضباط حول محمد نجيب ليغدروا بالحكم الملكي الخديوي ، ثم غدرت مجموعة من الضباط القوميين بمحمد نجيب واسقطوه . وفي اليمن التفت مجموعة من الضباط حول عبد الله السلال – الذي أرسله إمام اليمن بنفسه الى العراق للدراسة في الكلية العسكرية وأخرجه ولي العهد اليمني من السجن بنفسه بعد أن غدر بعائلة الائمة وقرّبه – وغدروا بحكم أئمة اليمن ، ثم غدرت مجموعة من الضباط الناصريين القوميين من فرقة المظليين بعبد الله السلال واسقطوه .
والنتيجة أن العراق ومصر واليمن اليوم في ذيل قائمة شعوب العالم ، بعد أن كانت قبل هذه الانقلابات بستان العالم .
وقد يقول قائل أن تأسيس البنى العمرانية والخدماتية وحواضر التعليم انتشرت في زمن هذه الأنظمة ، وجوابه ان تطور الخدمات ظاهرة عالمية انتشرت بفعل اندفاع وطغيان الثورة الصناعية والحداثة في كل بلدان العالم دون اختصاص بهذه الأنظمة العسكرية ، كما أن مجمل هذه البنى قامت على مخططات العهود الملكية . الأمر الاهم ان هذه الأنظمة العسكرية الانقلابية قتلت الإنسان والإبداع والفكر .
( المنتفگ ) كانت المنطقة العراقية المقلقة للعثمانيين ، والرافضة للتمدد السياسي للصفويين ، والرادعة لاحقاً للبريطانيين عسكريا .
كانت هذه الإمارة شبه مستقلة ، ولها حكم ذاتي داخل الدولة العثمانية ، وفيها ثلاثة قبائل كبرى هي بني مالك – وحلفاؤهم بنو أسد – والاجود وبنو سعيد ومشيخة صغيرة لآل سعدون ( ال شبيب ) . ولأن جدة السعدون من بني مالك ، وأن هذه القبائل على خلاف مذهبي وسياسي واجتماعي مع العثمانيين ، وأنها في صراع بينها ، وافقت على تولية أحد السعدون منصب المشيخة رسميا ، لأنه على مذهب العثمانيين ، وأنه من عشيرة صغيرة لا يمكن أن تشكّل تهديداً وجودياً لهذه القبائل . لكن بالتدريج والمكر صار هؤلاء أمراء .
كانت هذه الإمارة ترغب مشايخ منطقة الخليج والجزيرة ، وانتصرت على العثمانيين والصفويين عسكريا ، لكنّ مشكلتها تُختزل بأمرائها السعدونيين ، ومنهم ( ناصر الاشگر ) ، الذي طمع كثيرا وما أحسّ بانتماء حقيقي لها ، فخدعه أحد التجار المسيحيين حلبي المنشأ أرميني الأصل إسمه نعوم ( نعمة الله ) سركيس ، ليؤسس مدينة ويصبح المتصرف ( المحافظ ) فيها ، لتبرير ذلك أفهمه ان منصب شيخ المشايخ قبلي زائل ليس له صفة رسمية .
لكنّ أخا الامير ( منصور ) اعترض على سعي أخيه ( ناصر ) متسائلاً عن واقعية التخلي عن منصب شيخ المشايخ والانتقال إلى وضعية الموظف لدى حكومة كانت تتمنى رضاه ! . لكنّ ( الاشگر ) أصر على موقفه .
وبالطبع كانت هذه الفعلة الأميرية بداية لضعف وانهيار أكبر واشرس إمارة بمنطقة الشرق الأوسط ، وبداية لصعود الحثالات وسفلة الناس للسلطة والدواوين الرسمية ، واضمحلت المعايير التي تميّز بين السفلة وبين الأعلام – كبدر الرميض مثلا – تحت عنوان المواطنة .
و ( ناصر الاشگر ) – على عادة العثمانيين – جعل ( نعوم سركيس ) مسؤولاً على خزائن الأموال ، فكانت تأتي لنعوم ضرائب على شكل محاصيل زراعية مثل الشلب ، فيشتريها لنفسه ويعطي لناصر الاشگر النقود . ويخزّن الشلب في منطقة الشطرة ، وبالصدفة – ورُبّ صدفة مدبرة – حدثت هناك في ذات المنطقة مجاعة، فباع هذا النعوم ما خزّنه بأضعاف سعره ليثرى ماليا .
وفي عام 1954م كتب ( مكي الجميل ) المسؤول التنفيذي لمجموعة من الدوائر الحكومية ومقاطعات البدو في العهد الملكي العراقي بحثاً بعنوان ( البدو والقبائل الرحالة في العراق ) تم نشره عام 1956م داعياً فيه السلطات إلى جمع وتوطين تلك العشائر .
وقد تم هذا الأمر من خلال الحكومات والأنظمة المتعاقبة لأسباب اجتماعية وسياسية ومذهبية عبر أعوام وعقود بتنفيذ مشاريع كبرى انتهت بجعل هذه القبائل هي المسيطرة على الاقتصاد والسياسة في العراق .
وقد كتب ( عباس محمد العزاوي ) كتابه ( عشائر العراق ) في إطار البيئة التغييرية أعلاه ، فكان الكتاب كارثة معرفية ، يهدف إلى خلق بلبلة لحساب التمدد في تاريخ القبائل العراقية بعد التغيير الديموغرافي في العراق الذي حصل خلال القرن العشرين لصالح مجموعة من القبائل المهاجرة الوافدة .
بالاعتماد على طرق استدلال غريبة في بابها وغير بحثية تخالف المنطق التحقيقي ، كالتشابه في الرايات لمعرفة الترابط بين البطون القبلية ، أو ظواهر الأسماء لإثبات مذهب تلك القبائل ، أو الاستماع لإفادة شخصيات ( لفو ) على العشائر لتحقيق انسابها .
والكتاب كان جزءاً من المرحلة الأولى لسلب وسرقة التاريخ الوطني العراقي ، عبر إيجاد الفوضى وتشتيت الأنساب ، ليتم لاحقاً خلط الأوراق من الناحية النظرية .
اما من الناحية العملية فكان يساعد إلى جانب قانون الإصلاح الزراعي لسنة 1958م وقانون سنة 1970م في استلاب الأراضي والثروات من يد قبائل أصيلة لصالح قبائل وافدة من خلال التبرير والتزوير .
والكتاب متأخر نسبياً ، بمعنى أنه كُتب في فترة اضطراب قبلي وسياسي ومذهبي ، وتحت رعاية دولة طائفية ، فلم يكن يستطيع الخروج إلى آفاق معرفية رحبة ، ولم يتواصل مع الأعلام القبلية التي شكلت مفصلاً في تاريخ العراق .
وقد تغاضى عن كبرويات القبائل العراقية القريبة ، والكتل المحورية في تسيير التاريخ العراقي الحديث وصناعة شكله ، وعلاقاتها التاريخية السياسية .
واليوم يصل أبناء القبائل الجنوبية – التي هي في الأصل صاحبة ثروات كبرى – إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية دون أن يملكوا وعي تغيير المشاكل التي تعانيها قبائلهم فضلاً عن إمكانية تفكيرهم بتطويرها .
فلا دراسات لمشاريع او بنى تحتية واقعية تعوّض هذه العشائر عمّا سلبه نظام البعث المجرم من حقوقهم وثرواتهم وكرامتهم .
اقول للجميع .. اكتبوا ووثقوا تاريخكم العشائري والوطني ، كل حركة وكل اسم تتذكرونهما ، أو سمعتم عنهما ، وكل سنة تعرفون حدثاً فيها ، وانشروا ما تكتبون .
هناك من يكتب غيركم ويسرق تاريخ هذا البلد ومواقفه الوطنية ومفاصله التاريخية ممن كانوا يهيمون في البراري ولا يفقهون شيئاً عن مسمّى الوطن .
رغد ابنة صدام تكتب
الدواعش يكتبون
ال سعود يكتبون
الأعراب يكتبون
الأتراك يكتبون
إنهم جميعاً يراهنون على المستقبل ، كما راهنوا من قبل وسرقوا تاريخنا ، حتى جعلوا ثورة العشرين تنطلق من خان ضاري .
سوف يأتي يوم وتقرأون ان قبائل أخرى ورجالاً آخرين هم من قاتلوا في صفوف الحشد الشعبي غير الذين تعرفونهم اليوم .
إنهم يراهنون على أبنائكم ..