إذن من الواجبات العقلية أيضا حسب عقيدتي هو الحياة الأخرى، لكونها من لوازم الجزاء، ولكون الجزاء من لوازم العدل، والذي هو من لوازم الكمال المطلق، والذي هو من لوازم دليل واجب الوجود.
أما ما يمكن عده من الممكنات العقلية في الدين – ولا أقول في الإيمان – هي النبوة [عند عموم المسلمين]، والإمامة [عند الشيعة خاصة]، وتفاصيل وكيفية الجزاء في الحياة الأخرى، وطبيعة تلك الحياة، إضافة إلى حوادث الأمم السابقة أو الإنباء عن مخلوقات من طبيعة مغايرة لما نعرفه عبر التجربة والمعايشة، كوجود الملائكة والجن والشيطان.
إذن التوحيد والعدل والمعاد من الواجبات العقلية، والنبوة والإمامة من الممكنات العقلية. وعندما أقول من الممكنات، فهي إذن ليست واجبا عقليا يحتم التسليم بها من الناحية العقلية المحضة، كما هي ليست ممتنعا عقليا يحتم نفيها وتكذيبها بالضرورة. ولكن لا بد من القول أن من الممكنات العقلية ما يمكن أن يصل الإنسان إلى اليقين بصدقها، أو اليقين بكذبها، بعد فحص الأدلة. ولو إني أتبنى اعتماد اليقين حصرا في الواجبات العقلية تصديقا، والممتنعات العقلية تكذيبا، بينما يبقى الموقف من الممكنات إثباتا أو نفيا موقفا ظنيا. والقرآن يقر الإيمان الظني. [يبدو إني كنت لا أزال أمارس بعض التقية هنا، لأني كنت قد تجاوزت المذهب الظني إلى عقيدة التنزيه منذ أكثر من سنتين من تاريخ المحاضرة.]
ومن هنا فإني أسمي الواجبات العقلية، إيجابا أو سلبا، بعناصر الإيمان، بينما أسمي الممكنات العقلية بعناصر الدين.
وهذا الفهم المقترن بالقلق المعرفي، هو الذي دفعني أن أكتب «أيهما حاكم في الدين على الآخر .. وحي السماء أم عقل وضمير الإنسان» في آخر شباط 2007، كما كتبت في نفس السياق «فلسفة ختم النبوة» في أول حزيران 2007، وقبلها كنت قد كتبت «الملحدون الإلهيون والمرتدون المتدينون» في آخر كانون الثاني 2007، ثم كتبت «هل يمكن التفكيك بين الإيمان والدين؟» في آخر كانون الثاني 2008. وقد ذكرت مراحل التحولات ونمو الوعي الإيماني في حياتي، من طفولة، إلى تدين طوعي جزئي تقليدي سطحي، إلى شك لسنة واحدة، إلى إلحاد لخمس عشرة سنة، آخرها لاأدرية لسنة أو سنتين، مقترنة بالرقابة الذاتية، إلى إيمان ديني والتزام، ثم تبن للإسلام السياسي، لعشرين سنة، إلى اعتماد منهج تأصيل مرجعية العقل لعشر سنوات، إلى المذهب الظني ومبدأ التفكيك بين الدين والإيمان، لستة أشهر، إلى عقيدة التنزيه التي أنا عليها منذ نهاية 2007 أو بداية 2008، [والتي أخذت أسميها أيضا منذ صيف 2012 أيضا ب (لاهوت التنزيه)].
دعونا نعود لتناول العقل الفلسفي والعقل الأخلاقي. العقل الأخلاقي مهمته الاستحسان والاستقباح، أو التحسين والتقبيح، أي إطلاق الحكم على ما يعد من السلوك جميلا، وما يعد قبيحا. بينما العقل الفلسفي مهمته التصويب والتخطيء، أي إطلاق الحكم على المقولات، ما يعد منها صحيحا أو صائبا، وما يعد منها خاطئا.
…