بالنسبة لي فإني أعتمد العقل حصرا في الاستدلال على موضوعات الإيمان، إثباتا أو نفيا، أو لاأدرية. من هنا أقول إن قضية (الإيمان) مجال اختصاصها الفلسفة، وليس أي من العلم أو الدين، إلا بدرجة ثانوية وعلى هامش الفلسفة دون التعارض معها، لاسيما مع يقينياتها من واجبات وممتنعات عقلية، وبالنسبة لاعتماد الدين فلا يعتمد إلا بمقدار توافقه مع الفلسفة، أو بتعبير أدق إلا مع العقل الفلسفي والعقل الأخلاقي والعقل العملي. وعندما أقول إن الفلسفة هي الميدان المعني بقضايا الإيمان، وفي نفس الوقت أن الفلسفة من بين العقليات الثلاث هي الأكثر منها مرونة وأقلها ثباتا، إذن لا بد من اعتماد النسبية، وبالتالي الظنية في الإيمان، ونفي الحقائق المطلقة والنهائية واليقينيات، إلا ما كان ثابتا بالوجوب العقلي، أو ما يسمى أيضا الضرورة العقلية.
وعلى ذكر الوجوب أو الضرورة، لا بد من أن أذكر إن من أهم القواعد التي اعتمدتها هي قاعدة عرض المقولات الدينية على الأحكام العقلية الثلاثة. فكل قضية تعرض على العقل، سواء كانت دينية أو من أي نوع آخر، فلا يملك العقل إلا أن يحكم عليها بأحد أحكامه الثلاثة، إما الوجوب العقلي، وإما الامتناع العقلي، وإما الإمكان العقلي. فإذا كانت المقولة من نوع الواجبات أو الضرورات العقلية، فلا يملك العقل إلا تصديقها وتكذيب نقيضها، وإذا كانت من نوع الممتنعات أو المحالات العقلية، فلا يملك العقل إلا تكذيبها وتصديق نقيضها، وأما إذا كانت من نوع الممكنات العقلية، فيقف العقل ابتداءً موقف الحياد منها وتساوي احتمال كل من صدقها وكذبها، فمتى ما عُضِّدت المقولة بدليل من خارج العقليات المحضة، سواء كان دليل إثبات أو دليل نفي، يتخذ العقل منها موقف التصديق أو التكذيب بها. وكل من الثبوت والانتفاء لأي مقولة من دائرة الممكنات العقلية يتوقف فيما يتوقف على مدى موثوقية مصدر الإخبار بالممكنة العقلية.
إذا فهمنا هذه القاعدة يمكن تطبيقها على كل موضوعات الإيمان والدين بلا استثناء. حسب عقيدتي فإن أولى الواجبات العقلية هي حقيقة الله، أي وجود واجب الوجود، والعلة الأولى للوجود، والذي وحده لا يخضع لقانون العلية، إلا باتجاه واحد، أي بمقدار كونه علة، لكنه غير معلول، لأنه أزلي غير حادث، غني غير مفتقر، مستقل في وجوده أي موجود بالذات لا بالغير. وكذلك من لوازم هذا الوجوب العقلي مجموعة لوازم عقلية، هي واحديته أي استحالة تعدده، ووحدته أي استحالة تجزئه، وكماله المطلق، ومن مصاديقه، قدرته المطلقة، وعلمه المطلق، وحكمته المطلقة، وعدله المطلق، ورحمته المطلقة، ولازمانيته ولامكانيته. وللعدل موقعه المتميز، من حيث كونه مقدمة للإيمان بالحياة الأخرى.