يتراءى الفرد العراقي مُنصاعا لقوة الفساد المالي والإداري، حتى ليَخال المراقب انه بات مستسلماً لقدره، ومُكرهاً على التعامل معه، فكأنه الداء العضال الذي ينصح فيه الأطباء، المريض اليائس الى التعايش معه.
واقع الحال، انّ الأمر ليس كذلك، ذلك ان العين الفاحصة ترصد الجميع صارخا ضد الرشوة والتزوير، والاختلاس،
فيما النخب السياسية والاجتماعية تندّد، وتلغط الصحف والمواقع التواصلية، بدعوات اللجم، وينبري الخطباء في الاستنكار.
لكن كلّ ذلك كلام، لا يقترب من الفعل، والدليل ان ماكنة الفساد، لا تزال تدور.
لقد بات الحال، بالفرد العراقي على تفاوت مسؤولياته، وتياراته السياسية والفكرية، مثل ذلك المريض الذي يقبض
على وصفة الطبيب، ويلقي نظرة عليها، ثم يرشقها في سلة المهملات، اما بسبب عدم القناعة، او للثمن الباهض للدواء.
الحالان ينطبقان على العراقي، ذلك ان الإحباط يقوده على عدم القناعة بتشخيص الطبيب، كما انّ الفائدة التي تجنيها جهات من فرص الفساد، تجعلها تحجم عن التشجيع على الدواء.
بعيدا عن وصفة الدواء، فاننا مستغرقون في الاعتباريات، والنموذجيات، وجميعنا يكتب المقالات والمعالجات، ودعوات محاربة الانحلال، ونلغوا كثيرا عنه في المنتديات والجلسات الخاصة، من دون ان نعي مشاركتنا الفعلية فيه، حين نصبح جزءا منه ونحن ندري، أو لا ندري، ونتصرف معه، تحت حجج الاضطرار، واختصار الوقت، وعدم الاشتباك، لنصبح في الواقع آلة في ماكنة التقهقر، ننعطف معها، إنْ لم نكن نحرّكها بأيدينا.
أطباء يؤدون قسَم ابقراط في الإخلاص للمهنة، لكن الكثير منهم يزاول الوظيفة بطريقة منحرفة.
المهندس مُنح الشهادة بعد انْ درس أخلاقيات العمل، فيما المشاريع والبنى التحتية أضحت مراتع نهب.
التاجر، الذي ديدنه الصدق، والترفّع على الاحتيال، يستورد البضاعة الرديئة.
المحامي الذي درس القانون وتعهّد في الدفاع عنه وبه، يستثمره لصالح المزوّرين والمرتشين.
المدرّس الذي يجلّه المجتمع، ويُطلق عليه اسم “المربّي”، يؤاثر الدروس الخصوصية على المدرسة الرسمية.
المسؤول الحكومي الذي أودعه الشعب، الثقة، في إدارة مؤسسة أو هيئة، تلاحقه النزاهة.
هؤلاء، اقسموا على مجالدة الفساد، ويتبرّمون منه في خطاباتهم ومنتدياتهم، واقسموا أغلظ الايمان على خدمة المواطن، ثم يُكتشف انهم لم يدّخروا جهدا، في الاثراء غير المشروع، وتضخيم الأرصدة.
لم يعد الحسم في البلاد، عبر الخطاب والمؤتمرات، كما لم يعد ناجعا، تسويق البرامج والتنظيرات.
ولم يعد بالإمكان حمْل المواطن على القبول بدعوات الإصلاح، مهما كانت جدّيتها.
والمدعاة في ذلك، ان كل هذه، قد امتُحِنت، مراراً وتكراراً، واجتُرّت من أطراف تتناوب على الاختباء خلفها، تسويقا لنفسها في مناسبة انتخابية، أو فرصة دعائية.
انّ المشروعية تكمن اليوم في المعالجات المادية، التي ترسي آليات المحاسبة، لكل العناوين والمسميات.
لكن من يضع هذه الميكانيكيات؟.
انها الدولة العضلّية، التي ترفض الاستكانة لعقيدة السلب والنهب، وترفض التعايش مع الفساد، ماديا ومعنويا، عبر تشريعات صارمة، لا تقبل الإرجاء.
انها الدولة التي تتّخذ لنفسها، مسافة تأمّن فيها على نفسها من سطوة القوى النافذة، وتتحكم في مستقبل البلاد، عبر قضاء مستقل، وأجهزة امنية نزيهة وعادلة، غير مسيّسة او مشايِعة.
سوى ذلك، فانّ الخطاب والتنظير، وتسويق المثاليات والاخلاقيات، على الورق وفي النواقير، لن يؤدي المبتغى، ومثلما سوّقنا بان الفساد لا يتدنى خطرا على الإرهاب الذي هبّ الجميع الى سحقه، فاننا على ما يبدو، عاجزون عن مقارعته، بمثل حربنا على داعش، وسبب ذلك، هو في الخنادق المتداخلة، وفي انّ الفساد أصبح ثقافة مجتمعية، لابد من استئصالها لكي لا تنقلب الى عقيدة متجذّرة في العقل والسلوك.