في إطار الفعاليات الثقافية التي دأب على تنظيمها، أقام نادي السرد في الاتحاد العام للأدباء والكتاب أصبوحة ثقافية، استضاف فيها الروائي والفنان والكاتب الصحفي سالم بخشي المندلاوي للاحتفاء بمنجزه الروائي الجديد المتمثل بروايته الموسومة ” إنانا والنباش ” الصادرة في بغداد عن دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع.
الأصبوحة التي جرت وقائعها في قاعة الجواهري بمقر الاتحاد وحضرها جمع من الأدباء والكتاب والإعلاميين والمثقفين، تناوب على أدارتها الناقد علوان السلمان والروائي أسعد اللامي، حيث رحب السلمان بالحضور وضيف الأصبوحة، ثم شرع بقراءة السيرة الذاتية للروائي المحتفى به، والتي نقتطع منها ما يأتي: سالم بخشي المندلاوي، أديب، صحفي وفنان، عضو نقابة الفنانين، عضو نقابة صحفيي كوردستان، عضو اتحاد الصحفيين العالميين، صدر له: مجموعة قصصية بعنوان قال الشيخ عن دار الشؤون الثقافية العامة، رواية بعنوان المخبر السري عن دار الثقافة والنشر الكوردية. وحول سؤال لأسعد اللامي، أجاب المندلاوي قائلًا: ” يتخذ السرد، مسارين متوازييّن في هذه الرواية، أولهما المسار الواقعي المتخيل الذي تمثله شخصيات أم حكيم، عواد الفراري ورغد، وثانيهما المسار الخيالي الأسطوري والميثولوجي، وإعادة تشكيل لهذه الميثولوجيا بما يتلاءم مع ثيمة الرواية الرئيسة، وتمثله شخصيات إنانا، الشيطان والمسخ “. وأضاف أيضًا أنَّ هناك ثيمات ثانوية، وإيحاءات لما جرى في العراق من أحداث مأساوية دامية؛ نتيجة الاحتلال الأمريكي عبر رموز ومسوخ وشخصيات خيالية، جسدها الروائي بطريقة تشد المتلقي؛ لأجل أن يغوص في أحداث شائقة لا تنعدم خلالها المتعة والفائدة.
وفي إطار مداخلات جمهور الحاضرين التي طرحت خلال هذه الجلسة، كان للناقد اسماعيل ابراهيم عبد دراسة نقدية موسعة وسمها بـ: ” وقّعنة الأسطورة وأسطرة الواقع في رواية إنانا والنباش! ” التي أخضع فيها الرواية للفحص من خلال خمسة محاور هي على التوالي: المعرفة والحدس، جشتالت العرفانية، سرة الاسرار، ملخص احتفالية الاضطهاد وتناصات لامة.
قصد استيضاح ما نوه عنه عبد في المحور الأول آنفًا، عمد إلى الإشارة لمقطع من الرواية موضوع البحث، والذي نصه : ” اغمضت إنانا عينيها وأوقفت نبضات قلبها, وتوقفت عن التنفس, ودخلت دورة أشبه بالسبات الى حين, لكن عقلها ظل يقظا حذرا, كذلك سمعها ظل مرهفا يرصد دبيب النمل! “. ويعلق عبد على النص المذكور بأنَّ المعرفة في هذا المقطع تتجزأ على عدة مستويات, منها: المعلومات الحقيقية متمركزة بطبيعة ثلاثة مشخصات هي الصحراء, الرمل والنمل، ومنها أيضًا المعلومات المضللة التي تخص موجودات متخيلة المظهر هي الحفرة, الوشاح ومظاهر إنانا الخارجية كالشعر والخصر والعينين. ويضاف إلى ذلك المعلومات المتخيلة التي تمثلها انانا, قلب إنانا, عقل إنانا وسمع إنانا. ويؤكد عبد أنَّ تلك المعلومات، حتمت وجود توافق مقنع بين المعرفة اليقينية والمعرفة الحدسية؛ إذ انها وضعت للفعل الروائي أكثر من منفذ ليلائم بين المادي والتخيلي، فالموجودات الحقيقية أوجدت أرض حقيقية اسمها ” صحراء الربع الخالي في السعودية “, وحركت فوقها الحدث الأهم في الرواية كلها ” مطاردة ابليس – الشيطان – لإنانا الذي استمر حتى نهاية الرواية. وفيما يتعلق بالمحور الثاني آنفًا يقول عبد: ” أضافت الجشتالت بعداً للإبداع هو الاستبصار لوصف الاسلوب التخيلي الذي هو خاصية أساسية للعقل، تعني القدرة على جمع الاجزاء في كل, أو القدرة على تحديد الأجزاء في الكل، أو التغير من كل لآخر، والتي يسميها فرتيمر التفكير في عملية تلاشي كل ما, لصالح كل أفضل “. ويشير أيضًا إلى أنَّ أعم ما أرادت الرواية قوله هو الاستبصار الذي يتضمنه الغرض من الرواية ككل, وهو يتحدد ـ بعد تتبع الرواية من البدء حتى المنتهى ـ في: الخراب دخل الى النفوس كلها،
الحل في العودة الى الاخلاق التي فطرها الله للخلائق كلها المتمثلة بالعيش دون افراط ودون اضطهاد والشهوة ورغبة التملك التي ستطل أكثر الضغوطات المحيلة دون تحقق العدل الأكمل بين البشر.
الدراسة النقدية الثانية التي شاركت في هذه الأصبوحة، قدمها الناقد يوسف عبود جويعد تحت عنوان ” التعددية في .. إنانا والنباش ” تعد رواية إنانا والنباش للروائي سالم بخشي, من النصوص السردية التعددية, ليس في الاصوات حسب, بل في الازمنة والامكنة والشخوص والاحداث والثيمات, وحتى في الانماط الادبية المستخدمة كأدوات كتابية لفن صناعة الرواية, فقد تمكن الروائي من تقديم اكثر من نمط في التناول السردي الواقعية الغرائبية, الواقعية السحرية, الواقعية العجائبية, الواقعية النقدية, الواقعية الاجتماعية, الفنتازيا, الخيال. ومع هذا كله فأن الرواية نحت منحاً آخر, بكونها استطاعت أن تتصل بالموروث الحكائي الشعبي, حيث جعلت هذا الموروث سياق فني لتدفق الاحداث الغزيرة والكبيرة, كوننا سوف نكتشف الروحية الحكائية لحكايات الف ليلة وليلة , من حيث تشابك الاحداث, وتداخلها وارتباطها ببعضها “. وأضاف أيضًا أنَّ رواية إنانا والنباش للروائي سالم بخشي, عمل كبير في احداثه, وزمانه, ومكانه, وشخوصه, ينبأ بوجود سارد يمتلك خيال خصب, ومقدرة عالية على الاستحواذ باهتمام المتلقي, وأن الاحداث التي تدور فيها, هي حياة هذا البلد بكل تقلباته.
جدير بالإشارة أنَّ الروائي سالم بخشي المندلاوي كتب روايته بلغة وأسلوب تجريبييّن، صنعا للرواية بصمتها الفريدة، بالا ضافة إلى عدم وجود شخصية محورية مهيمنة، حيث توجد عدة شخصيات رئيسة تدور حولها الرواية، منها مثلًا ” إنانا ” وهي شخصية اسطورية ميثولوجية عراقية، تمثل إلهة الحب والحرب والخصب في الحضارة السومرية، إلا أنَّ المندلاوي نجح في أعادة تشكيل هذه الشخصية ببراعة فائقة، وقدمها بشكل جديد كمخلوقة عجائبية،؛ إذ عرّفها، كأحلى أنثى خلقها الله تعالى عبر الكون، ولما تزال تحتفظ بكل هذا الجمال الخارق، مع العرض أنَّها ترمز لحضارات العراق المشرقة. أما الثانية، فهي شخصية المسخ ” نباش القبور ” التي ظهرت في الرواية مركبة من شخصيتين رئيسيتين، هما: الشيطان الذي يقع في حب إنانا على غير عادته، ويهيم بها، ويتمنى كسب ودها، لكنها تتمنع وتحاول الهروب من أسره, والشيطان هنا رمز ايحائي للاحتلال الأمريكي، وفشله الذريع في كسب ود العراقيين الشرفاء، فيما تجسدت الأخرى بشخصية عبدول الملقب بـ ” أبو حردوب ” الذي ظهر في مسار الرواية بوصفه شخصية سلبية متواطئة، حيث اضطر الشيطان التلبس بجثته عند موته؛ لكي يتمكن من التعافي مجددا والعودة إلى العراق؛ لأجل اختطاف إنانا من جديد. وهو ايحاء لما حدث في العراق من كوارث. ويرى المندلاوي في سياق روايته استمرار الصراع من دون نتيجة حاسمة، لكنه الروائي يبشر بانتصار الخير يوما ما، بالاستناد إلى نظرية المنقذ أو المخلص والذي يعيد الأمور إلى نصابها بعد أن انحرفت الحضارة البشرية عن جادة الصواب.
مسك ختام الأصبوحة كان جميلًا ونوعيًا، حيث قدم الأديب حسين الجاف عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الأدباء والكتاب ” درع الجواهري ” إلى الروائي سالم بخشي المندلاوي تثمينًا لمنجزه الإبداعي، ولعل النوعية متأتية من أنَّ الروائي المحتفى به كان أحد طلبة الأديب الجاف.
في نهاية الاحتفالية حدثنا المندلاوي عن روايته قائلًا: ” تقع الرواية في ثلاثة عشر فصلًا، تتحدث الثيمة الرئيسة فيها عن أزمة الوجود الانساني تحت رحمة القدر الأهوج الذي يتقاذفه بين الحياة والموت، والصراع الأزلي لهذا الانسان مع قوى الشر الشيطانية، وسقوطه أحيانًا في براثن هذا الشر وإخفاقه في الامتحان، وأحيانًا انتصاره الباهر، عبر شخصيات وأحداث شائقة “.