كشفت الأزمة البرلمانية التي حصلت فصولها يوم الثلاثاء السابق 4/12/2018 في مجلس النواب العراقي, عن وجود تجذّر عميق متشابك لأزمات متواصلة مزمنة, ومشاكل مستعصية, قائمة بين الدول في محيطها الإقليمي والدولي, ألقت بظلالها كتشابك حصل داخل هذه الجلسة وبشكل علني مفضوح، وانقسمت أطراف النزاع فيه إلى ثلاثة، : إيرانية الهوى، إمريكية المصالح، وطنية المطالب.
لا يمكن القول بأن النوايا الأمريكية اتجاه العراق هي نوايا سليمة يمكن الاطمئنان لها، مع الأخذ بنظر الاعتبار المنفعة التي حصلها عليها العراق, بل الدولة العراقية الحديثة, من الجانب الأمريكي عندما بادر إلى إسقاط منظومة حكم الطاغية صدام, والتي كانت تمتد بأنساقها الاستبدادية الإقصائية المجرمة إلى مئات السنين، وجاء تغيير المعادلة هذا من خلال تخطيط إستراتيجي أمريكي بعيد الأمد, يهدف إلى تفعيل منطق الهيمنة التحتية (الغير مرئي), على شعوب المنطقة, وهو الأسلوب الجديد للعلمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية.
لم يكن الجانب الأمريكي غبيا حين احتل بلد كالعراق، وهو بجوار دولة تعتبر من أشد الدول عداءا لسيدة العالم، ولكن كما قلنا التخطيط الإستراتيجي البعيد الأمد, الذي مارسته السيدة بخبث ودهاء مع محور أعدائها الشرقيين، كان يقوم على مبدأ تحطيم الإرادات الشعبية, وقطع صلة الوصل بين تلك الشعوب المستهدفة, وبين رموزها الوطنيين أو الدينيين, ليتحول مواطن تلك الدول إلى حالة التيه تعقبها النقمة الفوضوية التي لا تعي ما تريد.
كانت خطة الجانب الأمريكي تقوم على ضرب الاقتصاد، ولكنه ليس ضربا للقمة العيش كما يتوقع البعض، فالتطور الاقتصادي العالمي، قد وفر إمكانية توفر الغذاء البسيط لأغلب الشعوب؛ إن ما تم ضربه من الاقتصاد، هو اقتصاد الرفاه الذي باتت شعوب المنطقة (ومنها الشعب العراقي والإيراني) يتوقون له بتعطش شديد، هو اقتصاد الكماليات والتطور المدني والحضاري.
الإصرار على مرشح معين لأهم وزارة أمنية في العراق، معروف عنه ولائه المطلق للجمهورية الإسلامية, إنما جاء من خلال الاستناد إلى ثلاثة محاور نفعية للجمهورية الإسلامية، تدفع بها الحرب الاقتصادية الأمريكية عنها؛ الأول : هو محاولة اختراق الاقتصاد العراقي، وجعل العراق منفذا عالميا لتصدير النفط والبضائع الإيرانية تحت حماية ومساندة القوة الأمنية العراقية، والمسؤول عنها المرشح للوزارة !
الثاني : هو إبقاء خط إمداد السلاح والمؤن في الامتداد الجيوسياسي العسكري، ما بين إيران وذراعها التحالفي الممتد من العراق إلى سوريا ثم لبنان (حزب الله), ووجود قيادة أمنية كبيرة ذات ولاء مطلق للجمهورية، سيدفع بقوة لإبقاء هذا الخط آمنا، خاصة وأن هذا الخط يمثل بعدا استراتيجيا للأمن القومي الإيراني.
الثالث وهو الأخطر والأهم: هو محاولة رد الصاع صاعين للعقوبات الأمريكية, فبما أن العقوبات الأمريكية تهدف لضرب الاقتصاد الإيراني, لذا فمن المتوقع (وكما يرى بعض المحللين) أن يكون رد الجمهورية حرب اقتصادية مماثلة, تضرب فيها الجمهورية اقتصاديات الكثير من الدول المساندة لقرار العقوبات الأمريكية، وهنا لدى الجمهورية خيارين لا غير, الأول محاولة تخريب المرور التجاري عبر مضيق هرمز, ولا أعتقد أن هذا الخيار سيكون متاحا للجمهورية بشكل مريح, لأن مثل هذا الفعل سيكون محسوبا على الجمهورية بشكل مباشر, مما يجعل أغلب الدول تتعاطف مع الخيار العسكري ضدها.
الخيار الثاني هو الأقرب للتحقق, وهو إغلاق مضيق باب المندب بشكل تام، على يد فصائل المقاومة الحوثية, ومثل هذه الخطة تحتاج لخط إمداد لوجستي وبشري, وسهولة نقل السلاح, لذا انتشرت أخبار كثيرة عن قيام الكثير من فصائل المقاومة العراقية, بنقل مسلحيها إلى اليمن للاشتراك مع الحوثيين, ومن المتوقع أن يتم نقل فصائل من مقاتلي حزب الله اللبناني، وقوات الحرس الثوري الإيراني إلى هناك، فعملية ضرب مضيق باب المندب ومدينة الحديدة، سيؤثر على اقتصاديات الكثير من الدول، فتكون بذلك ورقة ضغط ضد أمريكا والدول المساندة للقرار الأمريكي.
أيضا، لابد أن نضع في الحسبان, أن الاقتصاد التجاري، يكون في أضعف حالاته في حالة خضوعه لمعادلة (اللاأمن), لأن من مقومات أي اقتصاد ناجح أو حركة تجارية ناجحة, هو توفر مستوى عالي من الأمان والاستقرار, فمع أن الجانب الأمريكي قد وعد الدول المشتركة في مضيق هرمز, بالحماية العسكرية, إلا أن هذه الحماية سوف لن تكون مجانية، أولا، وسوف لن تحقق حالة استقرار مستدام, يمكن الحركة التجارية والاقتصادية من التحرك بسهولة، ثانيا.
وقوف عادل عبد المهدي بوجه هذا المخطط, إنما يعني إستعداء محور كبير يضم دولا قوية لها تغلغل ونفوذ وأذرع في العراق أكثر حتى من أمريكا، ومع أن عبد المهدي مدرك لأبعاد هذه المعادلة, ويدرك جيدا أن المخطط الأمريكي والعربي (السعودي) يهدف إنهاء وجود منظومة الحكم في إيران, وأن وجود عبد المهدي ووجود غيره من الأحزاب التي تقود البلد، هو محسوب بطريقة أو بأخرى مع المحور الإيراني، فإن تعاطيه مع قضية تشكيل حكومة، تكون على هواه أو هوى الشعب, هو أمر مستبعد إن لم يكن مستحيل.
بين عادل عبد المهدي, وباب المندب, الكثير من التفاصيل الشائكة والغامضة !
*دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.