نظر الانسان التاريخي الى الشمس والقمر بعين القدسية، وجعلها بمعنى الالوهيّة، واستمرت صور الميثيولوجيا تترى في قصص الشعوب والحضارات الدينية، وما تستوحيه مخايلهم؛ من تمثلاتها أن دخلت الحوت الى مضمار الإلهام المقدس عند الفراعنة، وعالجتها الكتب المقدسة للديانات: اليهوديّة والمسيحيّة يونان، والاسلام النبي يونس، وعند اليونان: أيونيس، إذ أنه تعرض لابتلاع الحوت ساعة راوغ في تنفيذ أمر ربه.
بيد أنها (القمر والحوت) دمجت في مخيال الشعوب نتيجة جهل الناس بالمعرفة الدينية، إذ يجعلهم يقرأون أية ظاهرة كونية، تكبر عن تصوراتهم، وتستعصي على أفكارهم، بأن يحملوها معنى دينيا، مثل: أن حدوث الكسوف للشمس والخسوف للقمر لتخويف للناس بسبب المعاصي التي ارتكبت، فهي من علامات يوم القيامة. وعليه بات لخسوف القمر وقع هائل في نفوس وعقول الناس وإثارة مخاوفهم وتشاؤمهم، أي ان الوضع والحالة هذه، وبجميع مكوناته آيلٌ للمحنة، وتوقع وقوع المكاره. والفزع من ظاهرة الخسوف قديم وله جذور عميقة في بطن التاريخ. وفي زمن الرسول الكريم محمد (ص)، بعد أن لاحظ قومه وقد ركبهم الخوف، فعالجها بتفعيل الايمان والتقوى. قال: ” إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فأفزعوا الى ذكر الله والصلاة “.
شاعت أسطورة القمر والحوت في شعوب المشرق ولا سيما أهل العراق ومن يجاورهم، إنهم كانوا عندما يرون خسوف القمر يخرجون من بيوتهم، وهم يضربون على أواني الطبخ، والأطفال يرددون بأصوات عالية (يحوته يا منحوته هدي كمرنه العالي) والنساء تصيح (يا قريب الفرج يا عالي بلا درج، عبدك بشدة، نطلب منك الفرج). ذلك الضجيج كله إما مرده خوف الناس مما يتوقعون أن يسببه الخسوف، وإما يصاحبهم الخوف من المستقبل (Future phobia) لكثرة الحوادث، أو لأنهم لم يعتادوا تنظيم مستقبلهم وتأمينه.
ثمة مروية: أنه كان طريق حلة – نجف غير معبد نهاية الأربعينات، والسيارات قليلة، وكان قد نزل مسافرون من أهل النجف عند الغروب في أحد الحسينيات في مدينة الحلة، ليصبح الصباح، ويسافروا الى النجف؛ وعند المساء نصبوا السماور لإعداد الشاي، فظن متولي الحسينية أن الجماعة يشربون العرك (الخمر)، فأخذ ينادي صارخا: إنّ الجماعة يهتكون حرمة المكان، فتجمهر أهالي المنطقة، واعتدوا بالسب على المسافرين، وبعد ذلك عرفوا أنه جهاز لصنع الشاي؛ فعند انتصاف الليل، وكان الشهر على وشك الانتهاء، أخذ المسافرون يضربون على القدور والأواني، ويتغنون بأهزوجة “ياحوته، يا بلاعه، هدي كمرنة بساعه”، فلما سمع أهالي الحلة انساقوا إليها، وأخذوا يضربون على الأواني والتنك (الصفائح المعدنية) هذه الأرجوزة؛ فلما أفاق عالم المدينة على الأصوات، قال لهم: إن أهالي النجف عملوها بكم، انتقاما لاعتدائكم عليهم بدون سبب، اننا في آخر الشهر فلا يوجد قمر.
يبدو أن ثقافة الخشية على القمر وفقدانه، وما صاحبها من طرق وهزج، تشكلت في الحضارة الاسلامية، استغلها العلامة نصیر الدین الطوسي(597- 672/ 1201- 1274)، بعدئذ اجتاح المغول- بقيادة جنكيز خان- منطقة خراسان، ودمروا مدنها، اضطر الطوسي الى اللجوء إلى قلاع الاسماعليين المحصنة (قلعة ألموت)، وصار أثيرا لدى حكامها علاء الدين، وبعده ابنه الأكبر ركن الدين خورشاه، حتى أضحى الوزير المطلق لدى الإسماعيليين، وأنه بلغ عندهم رتبة أطلقوا فيها عليه لقب أستاذ الكائنات.
وكان الغزو المغولي الثاني- بقيادة هولاكو خان حفيد جنكيز خان- أكثر ضرواة، فحتى قلاع الاسماعليين الحصينة كانت عاجزة عن صد هذا الغزو. فأرسل هولاكو إلى ركن الدين خورشاه يطلب إليه الاستسلام، وبعد إرسال عده سفراء من جانب الإسماعيليين طلب هولاكو مجيئ ركن الدين بنفسه للتفاوض، فمضى ركن الدين وبصحبته أولاده ونصير الدين الطوسي والوزير مؤيد الدين والطبيبان موفق الدولة ورئيس الدولة، فغدر هولاكو بهم فقتل ركن الدين ومن معه واستثنى من ذلك الطوسي والطبيبين موفق الدولة ورئيس الدولة، إذ أنه كان عارفا بمكانتهم العلمية والفكرية. احتفظ هولاكو بالثلاثة وأمر بضمهم إلى معسكره ووجوب ملازمته اينما ذهب، ولكن لا بد من الامتحان وتقويم الخبرة، فسأل هولاكو نصير الدين: أنت تطلع إلى السماء؟ فقال له: لا، فقال: ينزل عليك ملك يخبرك؟ فقال له: لا، فقال هولاكو: فمن أين تعرف؟ قال نصير الدين: بالحساب، فقال: تكذب، أرني من معرفتك ما أصدقك به، وكان هولاكو جاهلا قليل المعرفة فقال له نصير الدين: في الليلة الفلانية في الوقت الفلاني يخسف القمر.
قال هولاكو: احبسوه إن صدق أطلقناه وأحسنا إليه، وإن كذب قتلناه؛ فحبس إلى الليلة المذكورة، فخسف القمر خسفا بالغا، فاتفق أن هولاكو تلك الليلة غلب عليه السكر، فنام، ولم يجسر أحد على ايقاظه؛ فقيل لنصير الدين ذلك، فقال: إن لم ير القمر بعينيه وإلا فأغدو مقتولا لا محالة، وفكر ساعة ثم قال للمغول: دقوا على الطاسات وإلا يذهب قمركم إلى يوم القيامة، فشرع كل واحد يدق على طاسة، فعظمت الغوغاء، فانتبه هولاكو بهذه الحيلة، ورأى القمر قد خسف، فصدقه، وآمن به، وكان ذلك سببا لاتصاله بهولاكو.
في القرن 15م يحدث مثلها على الشاطئ الامريكي، حيث هدّد “كريستوفر كولومبوس” (31 أكتوبر 1451- 20 مايو 1506) الهنود الحمر، بأنه سيسرق القمر منهم، إذا لم يمنحوه الطعام والتموين الذي يكفي طاقمه للبقاء على قيد الحياة، ولم يصدّق الهنود الحمر حينها أن هذا القرصان العظيم قادر على تنفيذ تهديده. وكان الفلكيون الذين رافقوا كولومبوس، قد أعلموه أن خسوفاً كاملاً سيحصل بعد أيام، ولما غاب القمر بالفعل جاء الهنود المساكين يتوسّلون كولومبوس، لإعادته إليهم بعد أن تعهّدوا بتنفيذ جميع أوامره حرفياً، وفي الليلة التالية عاد القمر مكتملاً، معتقدين بأن كولومبوس هو من قام بإعادته إليهم، ومنذ حصول تلك الحادثة ربح الهنود الحمر طقوسهم الإحتفالية بالقمر ولكنهم خسروا قارة كاملة بثرواتها العملاقة. هكذا هي ثقافة الجهل والتجهيل تمرر معاني كبيرة ذات سمات حياتية، وترسخ اعتقادات مثيولوجية تمرّغ فيها التقاليد.