يعاني العراق منذ عقود من أزمة كبيرة في مياه أنهاره التي تقلصت بعد قيام الدول المجاورة ( إيران وتركيا وسوريا ) منذ ستينيات القرن الماضي في بناء سدود . اذ تدنت كميات المياه في تلك الأنهار إلى مستويات خطيرة انعكست سلبا على النشاطات الزراعية والصناعية والبيئية فضلا عن النشاطات المنزلية .
في ندوة أقيمت في إحدى الجامعات العراقية عن أزمة المياه في العراق تناولت المشكلة في جميع أبعادها وسجلت بعض الملاحظات الهامة والإحصائيات التي أثارت انتباهي تنذر بخطر جسيم يتعرض له العراق .
حيث تحدث الخبير الدكتور عبد الزهرة الجنابي في محاضرته عن ” الآثار الاقتصادية لتراجع امدادات العراق المائية ” اشار فيها الى ان كميات المياه الواصلة الى العراق في نهر دجلة وروافده تراجعت من 49 مليار م 3 الى 29 مليار م 3. وقامت ايران من جانبها بقطع 23 نهر ترد الى العراق بدءاً من آب سيروان أحد روافد نهر ديالى ومرورا بأنهار الوند ومندلي وزرباطية ودويريج ومجموعة الأودية في القاطع الأوسط وحتى نهر الكرخة والكارون روافد شط العرب. كما تعتزم قطع ما تبقى من الوديان بتصريحات رسمية بنية قطع 7 مليار م3 الباقية التي تصل الى العراق الى الأهوار والوديان. فيما قلل الجفاف من تدفقات المياه من الأراضي العراقية ذاتها حيث تزود نهر الزاب الأسفل بحوالي 30% من مياهه وديالى بنسبة أكبر عن طريق رافده تانجرو الذي ينبع من داخل الأراضي العراقية، كما حصل الشيء ذاته مع نهر العظيم الذي ينبع كلياً من داخل الاراضي العراقية. فضلا عن فقدان الانهار 6 بالمئة من مياهها اعالي الانهار لاحياء الاهوار والتي تعاني من شحة مياه على الرغم من ذلك .
وفي ظل هذا التراجع الواضح لكميات المياه انعكس سلبا على المساحات الزراعية في العراق حيث تراجعت زراعة المساحات المزروعة بالمحاصيل المختلفة أبرزها القمح والشعير والشلب والذرة الصفراء وهي المحاصيل الاستراتيجية ، فضلا عن زراعة الخضروات الصيفية والشتوية، ما نجم عنه تراجع حاد في الانتاج المحلي والتوجه المتزايد نحو الاستيراد الخارجي لسد النقص الحاصل عن تراجع وفرة المياه. حيث فقد العراق في السنين الأخيرة قرابة 55% من أراضيه الزراعية بسبب شحة المياه. مما أضطر العراق الى البدء على الفور بتخصيص مبالغ طائلة لتحسين شبكات الري والانتقال من الأساليب التقليدية في الري الى تلك التي تركز على ترشيد استهلاك المياه مما يثقل ميزانية الدولة وهي العاجزة عن اداء مثل هذه المسؤولية حالياً لأسباب معروفة . لاسيما وان ارتفاع كلف الانتاج الزراعي ، وضعف القدرة على منافسة الانتاج الأجنبي المعروض في السوق بأسعار مدعومة وتنافسية من دول الانتاج المجاورة، زاد في وطأة الضغط على الانتاج المحلي. مما ادى الى توقف الصادرات الزراعية العراقية نهائياً بعدما كان لها نصيب وان كان محدوداً في التجارة الخارجية للعراق مثل الرز، الأصواف والجلود، الثروة الحيوانية، الذرة الصفراء، الشعير.
ومن صور تراجع الزراعة في العراق بسبب نقص المياه تراجع انتاجية الدونم الواحد سواء من المحاصيل أو من انتاج أشجار الفاكهة أو النخيل، فضلا عن رداءة نوعية الانتاج لقلة ما تحصل عليه وحدة المساحة من المياه. وتجريف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وخاصة البساتين المجاورة للمدن وتحويلها الى قطع سكنية بنتيجة ضآلة المردود الاقتصادي الذي يحصل عليه الفلاح أو المزارع منها للأسباب الواردة .
واشار المحاضر في محاضرته الى انعكاس شحة المياه على النشاط الاقتصادي تمثلت بشحة المياه المتوفرة للصناعات التي تحتاج اليها بكثرة في عملياتها مثل توليد الطاقة الكهربائية، المصافي ، الزيوت، الصناعات الكيمياوية ..الخ ما أدى الى انخفاض في الطاقات الانتاجية الفعلية. فضلا عن تردي نوعية المياه الواصلة الى المشاريع الصناعية. مما ادى الى تزايد في كلف الانتاج الصناعي بسبب اضافة تكاليف للحصول على الكميات المطلوبة أو لتحسين نوعيتها. وتوقف امكانية الافادة من المجاري المائية لأغراض تصريف الفضلات برغم معالجتها لضآلة المياه الجارية فيها وتلوثها أصلا. مما أضطر الكثير من المشاريع الصناعية الى البحث عن بدائل عن المياه السطحية باستخدام المياه الجوفية ومعروف عنها غالباً ارتفاع نسب الملوحة مما نجم عنه انتاج صناعي ردئ النوعية مثل صناعات الطابوق والحجر الجيري والثرمستون والسمنت.
وانعكست شحة المياه على البيئة العراقية تمثلت بازدياد عمليات التصحر وفقدان الأراضي الزراعية والخضراء وزحف الرمال وتغطيتها مساحات اضافية من الاراضي وعجز عمليات ايقاف زحفها. أدى ذلك الى خلل التوازن في البيئة الحيوية وفقدان أعداد كثيرة من الطيور والحيوانات وتراجع هجرتها الى البلاد.
ولم يغفل المحاضر الآثار الاجتماعية لشحة المياه ابرزها التحول التدريجي في نفسية الشعب من شعب منتج مصدّر الى شعب مستهلك مستورد. وكثرة المشاكل الاجتماعية الناتجة عن نقص المياه بين المزارعين والصيادين والأحياء السكنية وأصحاب المصانع التي تحتاج للمياه والرعاة و……الخ. فضلا عن خلل في المنهج السلوكي لأبناء المجتمع وضياع قيم العدالة والأثرة وتحل محلها الاستئثار والأنا وسلب الآخرين حقوقهم .
وفي ختام محاضرته دعا الخبير الدكتور عبد الزهرة الجنابي الى اهمية الاتجاه نحو تامين حصة العراق المائية انطلاقا من مبدأ الحقوق المكتسبة في المحافل الدولية منها : مجلس الأمن- محكمة العدل الدولية، حقوق الانسان …بهدف الوصول الى اتفاقات ثابتة ودائمة لتقسيم المياه. واستثمار العلاقات الاقتصادية مع دول الجوار وربط الاتفاقيات التجارية مع اتفاقيات تقسيم موارد المياه. إضافة إلى استثمار الموارد المتاحة بشكل أمثل من دون تبذير من خلال التوزيع العادل للموارد الشحيحة. ودعا ايضا الى ضرورة تبطين قنوات الري لتقليل الضائعات المائية. وادخال التقنيات الحديثة للري بالتنقيط والرش على نطاق واسع وتشجيع استخدامها. والافادة القصوى من المياه العادمة: البزل والمجاري. وادخال مياه الامطار ومنظومات خزنها قيد الاستعمال. وشدد المحاضر على اهمية اقامة مزيد من السدود لخزن المياه والمسيلات المائية في شرق وغرب العراق. ومراقبة نوعية المياه والحد من تعريضها للتلوث واتخاذ تدابير حازمة بهذا الخصوص.