لم يكن لكلمة حضارة ولا لمشتقاتها في اللغة مدلول شبيه بذلك المدلول الذي اكتسبته هذه الكلمة في العصر الحديث. فالمعاجم العربية مجتمعة تؤكد ان كلمة حضارة تقابل كلمة بداوة ، وكلمة حاضرة تقابل كلمة بادية ، لذا فتحديد الكلمة بمعاجمنا العربية ظلت سطحية باهته لا معنى لها بالمفهوم المعنوي للكلمة.
ويعرفها البروفيسرحسين مؤنس بأنها ثمرة كل جهد يقوم به الأنسان لتحسين ظروفه للوصول الى تلك الثمرة مقصودا ام غير مقصود ، وسواءً أكانت الثمرة مادية أو معنوية .حسين مؤنس : كتاب الحضارة ص 13.
بقيت الكلمة على حالها لفترة طويلة حتى تغير معناها في العصر الحديث ، حين أصبحت تعني ارتقاء المجتمع في نواحيه المختلفة السياسية والاجتماعية .من هنا فطن الباحثون الى تعريفات كثيرة ومختلفة كل يُعرف من وجهة نظره، وان كانت في النهاية تؤدي الى مقصد واحد هو الجهد الأنساني ، لكن الكل يُجمعون وان اختلفوا في الالفاظ على ان الحضارة هي:
كل ما يرث المجتمع من اجياله السابقة من نظم وقيم ومعتقدات اجتماعية وفكرية ودينية،وأنماط سلوكية ومهارات فنية يسيطر بها على بيئته ويكيف نفسه لها ويستطيع بواسطتها اشباع حاجاته الحياتية وينقلها من جيل الى الجيل الذي يليه ،وهذا التعريف للمؤرخين العرب يتفق مع ما قاله الفيلسوف الانجليزي آرنولد توينبي بأنها”ثمرة التفاعل بين الانسان والبيئة”.
هذا التعريف الشامل يؤكد لنا ان بين التاريخ والحضارة صلة او علاقة ،لان كل منهما يهتم بالحياة الانسانية وبواقع الاجيال من حيث الحدث والظاهرة رغم انهما لا ينهجان بمنهج واحد،فالمنهج التاريخي يميل الى التخصص ،بينما المنهج الحضاري يميل الى الشمول.
ويتفق المؤرخون على اختلاف مدارسهم ان موضوع التاريخ هو دراسة التجربة الانسانية على الارض، هذه التجارب المتعددة هي خلاصة الحضارة الانسانية بشكل
عام.
ومهما يكن فأن مفهوم الحضارة ظل غامضا عندهم ،لكن الدراسات التاريخية تؤكد من ان العرب ساهموا بجهد وافر فيه…ابن خلدون وأبن النديم مثالاً,
من هنا ندرك ان كلمة الحضارة كلمة معنوية اكثر منها مادية ،اوقل كلمة تعني بانسانية الانسان وليس باحتياجاته المادية. وتقف الكرامة الانسانية والقيم الاعتقادية في المقدمة ،لذا ترى الانسان يثور لاتفه الاسباب اذا طعن في مبادئه الحضارية ، لان العادات والتقاليد الراسخة تحتل مكانة التكريم عنده. لذا وضع العلماء مقاييس معينه لها في حالة التمييز او الرجحان ومن اهمهما:
ان من يتصدى لهذا المقياس عليه ان يكون متجردا من الهوى والعصبية ، لان العاطفة تجعل الانسان دوما يميل اليها بغض النظر عن الثوابت الحدية فيها. اما التجرد فهو سمة العلم الاولى لضمان صفات العدالة والنزاهة عند التقييم بين المُتحضر والمُتخلف.
ان يكون المقياس الحضاري خاضعا لاحكام العقل وتطور المعرفة خلال الفترة الزمنية المعاشة. لذا من يتبوأ مركزا حكومياً مرموقا يجب ان تتوفر فيه هذه الشروط.
يجب ان يؤخذ العنصر بالشمولية في نظر الاعتبار ،لان الحضارة لا تأخذ بالمفردات بل بالشمولية ،اي من بداية الظهور واستمرارا بالنمو وانتهاءً بالنضوج ، شرط ان تكون المعايير العلمية في القياس هي الاساس.لذا أعتبرت التربية الأولى لحياة الانسان هي التي تخلق فيه صفات التجرد من الباطل والظلم والأعتداء على حقوق الأخرين
اما المدنية
————-
فهي كلمة حديثة مرادفة لكلمة التقدم ،وهي مولدة لم ترد في المعاجم العربية ، ويرجح البعض انها مستمدة من الكلمة الانجليزية ( Culture ) ويشير بعض المؤرخين الاوربيين الى ان ابن خلدون قد تنبه الى الكلمة حين قال ان الانسان اجتماعي بطبعه اي مدني بطبعه ،لكنهم يشيرون على انه اخذها من اليونان الذين كانت المدنية عندهم هي مظهر الاجتماع المنظم المتحضر كما جاء عندالفيلسوف اليوناني هرقليط الذي سماها بالحركة الدائمة الذي ينتج منها الصراع او الحركة الجدلية .
في الحقيقة ان ابن خلدون لم يفطن الى عملية الفصل بين المصطلحين حين استعملها بمعنى الحضارة ،حين قال ( ونجد التمدن غاية البدوي يسعى اليها ).أنظر المقدمة.
ويقول البعض ان الكلمة مشتقة من التمدين اي التنعم والرفاهية ،لكن الحقيقة ان الاستعمال العربي لا يفرق بين المصطلحين من حيث المعنى.
والأصح ان المدنية اليوم تعني النشاط الاجتماعي المرتبط بالجانب العقلي والمادي للانسان ويسهل اقتباسه ونقله من مكان الى اخر ،وبعبارة اخرى هو المنجز المادي الملموس داخل المجتمع مثل الملبس والألة والسيارة وكل ما يعين المجتمع على قضاء حاجاته اليومية .
لذا فحين تشمل الحضارة القيم الانسانية بوجه عام ،فان المدنية تشمل الجانب المادي وهي تطور تدريجي يسير في خط صاعد.
أما الثقافة
————-
فقد جاءت في لسان العرب لأبن منظور: لتعني الحذاقة . وعند ابن دريد في كتابه الاشتقاق تعني الظفر.وفي القرآن الكريم لها معنىً اخر حين يقول:( وأقتلوهم حيث ثقفتموهم واخرجوهم من حيث اخرجوكم والفتنة اشد من القتل البقرة 191). والقصد القرآني هنا في اي مكان تمكنتم منهم..لكن فقهاء التفسير القرآني لم يعطونا تفسيرا منطقيا لهذه الآية الكريمة حتى عدها البعض تجاوزا على النفس الأنسانية ..بينما تفسيرها المنطقي : هي لمن يعتدي عليكم بالمثل..لأن القرآن يتمثل بالآية الكريمة :”لكم دينكم ولي دين” فالأعتداء مرفوض في الاسلام وفي كل الأحوال وان لم يلتزم به المسلمون في ما سمي بحركة الفتوح الأسلامية. كما ان اصحاب الديانات الآلهية جميعها تعتبر ضمن مفهوم الاسلام من نوح حتى محمد (ص)..الآية 35 من سورة الأحزاب.
هذا المفهوم لا ينطبق على الاستعمال الحالي لمصطلح كلمة الثقافة الحديثة المتعارف عليها. فقد دخل التطور عليها لتصبح تعني مجموعة المعلومات والمعارف والممارسات والقيم الخاصة بشعب من الشعوب ،لانها تعبير صادق على شخصية ذلك الشعب او الشخص المعين .على هذا الاساس ،فالثقافة هي نشاط انساني يعكس تيار الحياة ويلبي حاجات البشر الروحية والفكرية ويسهم في تطور المجتمعات ،وهي تعبير عن الذات الانسانية كسلاح بيد الانسان ضد محاولات عزله عن مجتمعه ودينه وقوميته وعن تاريخه وادابه وتراثه الشعبي ، حتى اصبحت كلمة الثقافة تعني ذاكرة الشعب التي يجب ان لا تنسى او تضيع ،لان بنسيانها اوموتها يعني الحكم على الشعب بالموت ثقافيا ،وساعتها يكون المجتمع عرضة للغزو الثقافي.
وعلينا ان نفهم ان للثقافة تسميات ثلاثة هي: الثقافة المحلية الخاصة بشعب من الشعوب وبمنجزاته الفكرية وتراثه الوطني،والثقافة القومية،وهي المنجزات الفكرية الخاصة بالامة الواحدة المعينة ، والثقافة العالمية الخاصة بشعوب الارض قاطبة. ان المصطلحات الثلاثة بحاجة الى المزيد من الدراسة والبحث والتطبيق بعد ان فقدنا الكثير من موروثنا الثقافي الثر.
نحن بحاجة ماسة لادخال هذه المصطلحات العلمية في مناهجنا الدراسية ليتعرف الطالب عليها ومعرفة الفروق بينها ليتمكن من تحديد المقصود العلمي لها.