ربما يشتبه الكثير من طلبة العلم بإن التقليد لا يتحقق إلا في المسائل الخلافية!
ولابد من ذكر بعض الأمور التي ترفع هذا الإشتباه:
الأمر الأول: قال الفقهاء إن التقليد يتحقق بمسألة واحدة، بمعنى أن من يعمل بمسألة واحدة إعتمادا على فتوى المجتهد فقد قلّده، فالتقليد يتحقق بمسألة واحدة بغض النظر عن كونها إتفاقية أو خلافية، مادامت المسألة إجتهادية وليست من الأحكام الضرورية التي تُسمى ضرورات الفقه، فهناك فرق بين المسائل الإتفاقية مع الأحكام الضرورية…
لأن المسألة الإتفاقية هي مسألة إجتهادية بمعنى أنها مسألة نظرية توصل إليها الفقيه بعد النظر والاستنباط من الأدلة التفصيلية(الادلة المحرزة والأصول العملية) ومن أمثلتها جواز شرب الشاي والقهوة وجواز التدخين….الخ
أما الأحكام الضرورية فهي ليست إجتهادية وبالتالي فهي ليست موضوعا للاجتهاد والتقليد، وهي أحكام قطعية واضحة ومن أمثلتها وجوب الصوم في شهر رمضان وحرمة شرب الخمر وإباحة شرب الماء واستحباب صلاة الليل….الخ
الأمر الثاني: إن المسائل الإتفاقية على قسمين:
القسم الأول: المسائل الاجماعية، وهي مسائل إجتهادية إتفاقية عند جميع الفقهاء وتسمى اصطلاحا (الاجماع) وهو أحد الأدلة المحرزة اللبية…
القسم الثاني: المسائل الإتفاقية التي لا تصل حد الإجماع كالشهرة وكذلك اتفاق مرجعين أو أكثر في فتوى واحدة…
الأمر الثالث: أن الفقهاء يفتون بوجوب التقليد على المكلف العامي(الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد) في جميع العبادات والمعاملات وسائر الأفعال والتروك وهذا يدل بوضوح أن التقليد يشمل المسائل الخلافية والإتفاقية على حد سواء….
نعم لو كانت كل المسائل الاجتهادية إتفاقية لم يجب الرجوع إلى الأعلم في التقليد لأن فتواه محرزة وبالتالي يمكن تقليده أي العمل بفتواه دون الرجوع إليه..
ومع هذا الفرض فهناك أمران لابد من التنبيه عليهما:
الأول: أنه بناءا على مسلك أن التقليد نية والتزام نفسي فلابد من تشخيص الأعلم والرجوع إليه لأن العزم على تقليده يستلزم تشخيصه…
الثاني: أنه ينبغي تشخيص الأعلم والرجوع إليه حتى مع هذا الفرض لأجل المنصب الشرعي الاخر للمجتهد وهو الولاية فالمجتهد الجامع الشرائط هو الحاكم الشرعي وهو الأعلم حتى مع فرض عدم الإختلاف معه في جميع الفتاوى…
ومن هنا يتضح أن الرجوع أعم من التقليد لأن المجتهد مفتي وقاضي وولي فالرجوع إليه يشمل هذه المناصب الشرعية الثلاثة أما التقليد فيقتصر فقط على الفتوى…
وكذلك التقليد يكون أعم من الرجوع، لأن التقليد يتحقق في المسائل الإتفاقية دون الحاجة إلى الرجوع إلى الأعلم بالرغم من تحقق تقليد الأعلم من خلال المسألة الإتفاقية التي تكشف ضمنا عن فتوى الأعلم.. .
وايضا يكون التقليد أعم من الرجوع في حال التقليد بدون التزام نفسي كالعامي الذي يعمل بدون تقليد ثم يعلم أن عمله كان مطابقا لفتوى المجتهد الحجة حال العمل ففي هذه الحالة يكون عمله صحيحا وهذا يعني ان التقليد متحقق بدون التزام نفسي ودون رجوع…
وإن قلت أن العلم بالمطابقة حصل بعد الرجوع إلى الأعلم
أقول أن التقليد قد تحقق قبل الرجوع، إضافة إلى أن العلم بالمطابقة لا يقتضي دائما الرجوع للأعلم كالمسائل الإتفاقية مثلا أو كون الفتوى مشهورة لدى الناس دون أن يعرفوا مفتيها….الخ
اذن بين التقليد والرجوع عموم وخصوص من وجه…
والخلاصة أن الفقهاء يفتون بوجوب التقليد في المسائل الخلافية والإتفاقية على حد سواء…
الأمر الرابع: أنه بالرغم من أن الفقهاء لم يقيدوا وجوب التقليد بالمسائل الخلافية فإن مقتضى الإطلاق بل العموم يدل على شمول التقليد للمسائل الخلافية والاتفاقية…
لأن عبارة جميع العبادات والمعاملات، وعبارة سائر الأفعال والتروك تدلان بوضوح على العموم…
لأن (جميع) و (سائر) هما من أدوات العموم كما هو مقرر في علم أصول الفقه…
ولكن لو تنزلنا جدلا عن العموم إلى الإطلاق فإن مقدمات الحكمة متحققة، لأن الفقهاء في رسائلهم العملية في مقام البيان ويستطيعون التبيين(التقييد) ولم يقيدوا التقليد بالمسائل الخلافية، فقد تمت مقدمات الحكمة وبالتالي فإن الإطلاق متحقق أي أن فتوى وجوب التقليد تشمل المسائل الإتفاقية والخلافية…
بل إن المسائل الخلافية لم تذكر إلا في مورد الرجوع إلى الأعلم وتشخيصه ولو تم تشخيصه فإن العامي سيقلده في جميع المسائل الخلافية والاتفاقية….
الأمر الخامس: بالرغم من كفاية العموم والاطلاق إلا أنني أحببت أن أنقل كلام السيد محمد الصدر( قدس الله سره) في تعليقته على الفتاوى الواضحة يؤكد فيها على أن التقليد يتحقق في المسائل الإتفاقية أيضا حيث جاء في تعليقته ما نصه:
[ ((٤ قلنا أن التقليد هو ” العمل”، ومن هنا فإن طبّق المكلف هذا الرأي المتفق عليه بين العلماء، كان كافيا، من دون نية في الرجوع إلى احدهم بعينه](هامش الفتاوى الواضحة الجزء الاول/التقليد/ ص١٢٤ طبعة مؤسسة المنتظر لإحياء تراث الصدر)
أن تعليقة الشهيد محمد الصدر واضحة لا تقبل الشك بإن التقليد يتحقق في المسائل الإتفاقية فأين يذهب هؤلاء الذين ينكرون تحقق التقليد في المسائل الاتفاقية؟
الأمر السادس: هناك الكثير من المؤمنين الذين عاصروا الشهيد محمد الصدر في حياته وكانوا قابلين للتقليد بمعنى أنه لا يخلو الواحد منهم أن يكون إما صبيا مميزا أو مكلفا…
وهؤلاء يريدون تقليد الشهيد محمد الصدر بعد استشهاده وهم يعتقدون بأعلميته وهم يسألون عن جواز تقليده إبتداءا…
والحق أنهم لا يحتاجون إلى تقليد الشهيد محمد الصدر إبتداءا بل هم مقلدون للشهيد محمد الصدر بالفعل وذلك:
اولا: لان التقليد عمل وليس نية والتزام نفسي وعزم!
ثانيا: أن التقليد يتحقق بتطبيق مسألة واحدة سواء كانت إتفاقية أو خلافية…
فهؤلاء المؤمنون لا يخلو الواحد منهم من تطبيق مسألة واحدة حتى لو كانت إتفاقية!!
ونحن نعلم أن شرب الشاي والقهوة والتدخين وبيع المعاطاة وغيرها هي من المسائل الاجتهادية الإتفاقية فيكون العمل بها تقليدا للمجتهد الجامع للشرائط…
فإن قلت أنه تقليد لجميع الفقهاء المتفقين على هذه المسألة..
أقول أولا: أن الأعلم هو من ضمن هؤلاء الفقهاء…
ثانيا: أن التقليد الحجة هو للأعلم وبالتالي يكون تقليد غير الأعلم بمنزلة العدم!
ومسألة شرب الشاي والقهوة لم تكن محل الابتلاء في ايام العلامة الحلي! فهي مسألة ابتلائية مستحدثة وهي موضوع للاجتهاد والتقليد..
والنتيجة أن كل من كان معاصرا للسيد محمد الصدر في حياته فإنه قد قلده من حيث يعلم أو لا يعلم ومن حيث يريد أو لا يريد وخصوصا اذا كان يعتقد بأعلميته ولو بعد استشهاده فضلا عن الواقع الذي يثبت بوضوح أعلمية السيد محمد الصدر وهذا ما كشفته لنا آثاره العلمية في الفقه والأصول وغيرها.