لقد اختلف الفلكيون في ثبوت الوجه المظلم للقمر، والمراد من الوجه المظلم للقمر هو أن للقمر وجهاً مظلماً ثابتاً بإستمرار لا يرى الشمس أبداً.
فهل للقمر وجهٌ ثابتٌ مظلمٌ لا يرى الشمسَ أبداً ؟
إن ما زاد هذا السؤال صعوبة، أن هناك فكرة أخرى يؤمن بها الفلكيون والفقهاء بإن للقمر وجه ثابت للأرض دائماً. وهذا الوجه الذي يشبه نسبياً الوجه البشري يكون مظلماً في المحاق ثم يظهر نوره بالتدريج فيكون هلالا ثم يزداد نوره بالتدريج حتى يكتمل بدراً ثم يتناقص بالتدريج حتى يصير مظلماً بأكمله أي يكون محاقاً..
إن الجمع بين هاتين الفكرتين هو الذي زاد من صعوبة السؤال…
لذلك قال الشهيد محمد الصدر( قُدِسَ سرُه) :
(( ومن هنا حصلنا على فكرتين تكادان أن تكونا متناقضتين:
أحدهما: أن القمر له وجه ثابت للأرض دائما.
ثانيهما: أن القمر له وجه مظلم دائما، يعني أن الوجه الآخر مضيء دائماً، يعني أنه ثابت أمام الشمس بإستمرار،
فهل يمكن أن يكون للقمر وجه ثابت للأرض ووجه ثابت للشمس بإستمرار، مع أن القمر والأرض في حركة دائمة، والقمر في تغير مستمر واضح)) أنتهى [ ما وراء الفقه ج٢ق١]
إن الالتزام بالفكرتين معاً يكاد يكون متعذراً لأن الفلكيين قد ضيّقوا الخناق على أنفسهم من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن العلوم الطبيعية، وعلم الفلك منها، تتبع الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات وبالتالي أن نظرياتهم لا تصل إلى درجة القطع واليقين حتى لو وصلت النظرية إلى درجة القانون وهذه حقيقة لا ينكرها علماء الطبيعيات بالرغم من أن عوام الناس يعتقدون بأن نتائج العلم كلها بقينية إلى درجة صارت معيارا يُقاس به الدين!!
ويؤكد هذا الكلام السيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره) حيث قال في نفس المصدر السابق:
(( إن العلم التجريبي لا يقدم للإنسانية إلا الاحتمالات، وأن النظرية مهما أصبحت واضحة وارتفعت إلى درجة القانون، فإنها ثابتة بالاحتمال وليس باليقين القاطع، كالعلوم الرياضية حتى ما كان مثل جاذبية الارض وحركاتها)) انتهى
وهذا يعني ان الالتزام بكلتا الفكرتين يؤدي إلى التناقض فيما لو كان ما لدى الفلكيون العلم اليقين!!
ولذلك قلت أنهم ضيّقوا الخناق على أنفسهم.
الناحية الثانية: استبعاد احتمال أن يكون للأسباب غير الطبيعية تأثير –أي أسباب فوق الطبيعة– كما قال الشهيد محمد الصدر في نفس المصدر السابق:
(( إلا أن كلا من الفلكيين والفقهاء يحاولون إبعاد هذا الاحتمال من أذهانهم إبعاداً كاملا)) أنتهى
وهنا يسلط السيد محمد الصدر الضوء على نقطة الضعف في الفكر الحديث الذي تأثر كثيرا بالفكر المادي المتطرف الذي أنكر الكثير من الحقائق لا لشيء إلا لكونها لا تقع تحت الحس!
حتى وصل الأمر بهم إلى التعدي على العقل نفسه! وهم أي الماديون المتطرفون يناقضون أنفسهم بذلك لأنهم ينبغي لهم أن يكفروا بأفكارهم التي لم تقع تحت الحس! ولله في خلقه شؤون…
وهذا يذكرني بشيء طريف ذكره الشهيد محمد باقر الصدر(قدس سره) في بعض مؤلفاته حيث قال بحسب المضمون “” أن هؤلاء الذين ينكرون قانون العلية يؤمنون لا شعورياً بقانون العلية لأنهم قالوا أن قانون العلية غير موجود وحاولوا إقامة الدليل على ذلك!!! فإنهم بالتزامهم بتقديم الدليل على إنكار العلية هو يطبقون قانون العلية، لأن الدليل علة والنتيجة معلول””انتهى
ومن المؤسف أن هناك من أنصاف المثقفين من يدعي أن فلسفتنا فيها مصادرات بالرغم من أنه ربما لا يميز بين المصادرة والمصادرة على المطلوب!
ولو كان حقا ما يزعم ويدعي فليذكرْ على الاقل ولو مصادرة واحدة…
وهؤلاء أنصاف الباحثين هم من الملتزمين بالفكر المادي المتطرف!
نعم أن العلم الحديث قد تأثر بشكل وآخر بهذا التطرف المادي مما أدى إلى إغلاق الكثير من نوافذ المعرفة وروافدها من علوم انسانية جليلة….
وأختم كلامي عن الوجه المظلم للقمر بكلام السيد الشهيد محمد الصدر حيث قال في تعليقته على كتاب الفتاوى الواضحة للسيد محمد باقر الصدر:
(( وهذا ما نفاه علم الفلك الحديث وأثبت للقمر وجهاٌ مظلماً ثابتا لا يرى الشمس أبدا.
والسر في ذلك — اجمالا– أن دورته ليست مستقلة، بل يدور حول نفسه وحول الارض في نفس المدة، وهو حوالي الشهر، مما يسبب بدوران الارض — ومن ثم القمر نفسه — حول الشمس، فهو يسبب أن يكون أحد طرفي القمر مواجها للشمس بإستمرار والآخر يخالفه بإستمرار، فيكون الأول مضيئاً دائماً ، والآخر مظلماً دائما.
أقول:” ذلك تقدير العزيز العليم” صدق الله العلي العظيم، إذ ليس بالضرورة العقلية أن يدور الفلك على هذا النحو كما هو واضح لمن يتأمل)) انتهى