يبقى البيت الشعري الهائل والذي تلاه على اسماعنا الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف والقائل ( ليس هناك موسيقى أجمل من صوت المطر ) هو لافتة عشقنا المفضوح لتلك القطرات التي قبل ان تغسل ارصفة الارض وأجفان الورد فهي تغسل ارواحنا ، وأبي يقول : من تغسل روحهُ قطرة مطر واحدة تهرب من جسده كل الخطايا.
لا ادري لماذا تختلف امطار الغربة عن امطار المكان الذي هناك ،حيث يشعركَ المطر في قرى الاهوار وبيوت الطين والقصب أنهُ لا يبحث عن نخلة عطشانة وسنبلة تناجيه ليرويها ، بل يهطل ليتأرجح بأجفاننا ونحن نفكر في البداية الجميلة لرسالة الغرام التي سنكتبها لأميراتٍ مصنوعات من ضوء ذلك الشرق الذي اتخيله الآن محنة لشهر تموز الملتهب وعطش المكان وموت غابات القصب وفرح القصابين ، فبسبب عودة الجفاف الى الاهوار سيبيع المعدان جواميسهم اليهم وسيبدأ الرحيل الآخر في تغريبة اخرى لم تخلقها مدافع افواج الوية الاهوار والحرس الجمهوري ولا حرب داحس والغبراء ، بل تخلقها عولمة نظر اليها ( بول بريمر ) بطرف اجفانه يوم ركب المشحوف وجاء الى الاهوار ليقول للناس : اسقطنا طروادة هذه المرة ليس بخدعة الحصان الخشبي بل بالدبابات وصواريخ الكروز وبساطيل المارينز ، ولا فضل للساسة الذين ترونهم معي في الاجتماعات بكل هذا.
دمعة المطر الحزينة تسقط من اجفان اهل القرى وهم يسمعون ما ينقله لهم المترجم من كلام الحاكم المدني ،لكنهم يتفاءلون برسائل الغيوم ولكنها هذه المرة لم تكن وفية معهم فطوال عشرة اعوام من الامل يعود الجفاف ويسكنهم العطش وبدلا من أن تهطل قطرة المطر من السماء تهطل من العيون على شكل دمعة ، فخافوا فلربما بعد سنوات لن يجدوا دمعة واحدة في احداقهم يصنعوا منها حنينهم وبكاءهم من اجل المطر.
والآن الصيف الالماني هنا اكثر امطارا من الشتاء ، وعلي أن اغسل ارصفة ذاكرتي كي تصبح كما مرايا ضفائر امي فأتذكر وجوه معدان قريتنا واحدا واحدا .
أتذكر ذلك الليل الذي كما نتبادل فيه بهجة قراءة صاحب سمفونية ( موسيقى المطر ) واستعيد ذلك المشهد الخرافي لموظف الخدمة ريكان يوم اتوا بولده شهيدا من جبهات الحرب وفي صباح ماطر ، وقبل أن يرفع العلم والغطاء عن النعش ذهب الى خارج البيت وسط مطر غزيز ومد كفيه ومتى امتلئا بماء المطر ثم غسل بالماء وجهه ، وصار يتلوا بكلمات لم نكن نسمعها جيدا ثم عاد وعانق ولده ونحب قليلا ثم اعاد الغطاء والعلم على النعش .
ذهب بريمر من غير رجعة ،وتلك الوقفة المدهشة للرجل عندما ملئ كفيه بالمطر وغسل به وجهه لم تغبْ عن بالي ،لكن لحراجة الموقف وعظم حزنه لم أسأله حينها ولكن بعد مرور عام على رحيل ولده اتت اللحظة المناسبة لأسأله عن سبب غسله وجهه بماء المطر .
قال : لقد طلبت منه أن يكون وسيطا بيني وبين السماء حتى لا تأخذ مني ولدي الآخر . وأظن بعد مرور عام ، ولدي الثاني يذهب ويجيء من جبهات القتال سالما ، وبذلك استمع المطر الى رجائي.