كتب: هاني كنهر العتّابيّ
إلى زمن قريب كان أرباب العلم يؤلفون كتباً موسوعية تضمّ قصصاً وطرائف ونوادر وأشعار مختارة, غايتها إخراج طالب العلم, من غياهب الدرس المعتاد, يقضي معها طور نقاهة ممّا يصيبه في عقله ووجدانه, بسبب تراكم العلوم, وكان الطالب في تلك الأحايين يقتني تلك الكتب, يستأنس بها, ويداعب بها فكره, ثمّ ينكبّ من جديد على درسه المبتغَى, وتتكرر هذه الحالة معه كلّ يوم وكلّ ساعة.
كانت لتلك الكتب عنوانات متنوعة ومشوّقة, تشير إلى ما حُملَ في طيّاتها, ككتاب زهر الربيع للسيد نعمة الله الجزائريّ, غير أنّ العنوان المتداول لمثل هذه المؤلفات غالباً ما يتصدّر بكلمة (كشكول), وهي كلمة أرمينية الأصل مركبة من (كشا) بمعنى جمع, و (كل) بمعنى المعروف, أي: جامع الكلّ, أو المعروف, غيرَ أنّ كلمة (كشكول) في العربية تعني الكتاب الذي لا يخضع لوحدة موضوع, بل ينتقل فيه المؤلف من فنٍّ إلى فنّ, من تفسير القرآن الكريم إلى شرح رواية, أو عرض لمسألة علمية, أو حوادث تاريخية, وغيرها مما لذّ وطاب من النوادر والشذرات ولطيف الأشعار والمفاكهات, وقيل إنّ بهاء الدين العاملي أوّل من استعمل هذا المصطلح, وسمّى به أمثال هذه المجاميع, وهي مؤلفات تسعى إلى ترويح الخاطر عند الملال, وشحذ الأذهان عند عروض الكلال, وحضّ طالب العلم على مواصلة تدرجه في طلب العلم. وبعد الثورة المعرفية التي أنتجت تطوراً كبيراً, من بينه ظهور مواقع التواصل الاجتماعي, التي تحمل على صفحاتِها, صفحاتٍ من الأمثال والأشعار والعلوم والفنون والنوادر, وكلّ ما ينقّه قلب القارئ وعقله ويؤنسه, فزالت الحاجة إلى صناعة الكشكول, فالطالب يقضي على الملل بتصفح تلك المواقع, ثمّ يعود إلى درسه من جديد.
ومن المعلوم أنَّ الأدب يلج في جميع الأزمنة والأمكنة, ويتربع في كلّ فضاء, ويصوّر ما دارَ ويدور وسيدور أروع تصوير؛ فيخلط الفنّ بالواقع, ويدغم الواقع بالفنّ, حتّى يبدو لوحة واقعية فنية, تُصوّر الواقع تصويراً فنيّاً مغرياً. ومن المعلوم أيضاً أنَّ في كلِّ عصر من العصور, أديباً ينبغُ, يكون قد درسَ علوم العصر, واطّلع على مبتكراته, ومارس رياضاته وفنونه, ووقف على الخيوط التي حيك بها التطوّر, فيستعيرها لحياكة جنسٍ أدبيّ جديد, يحتلّ به مرتبة الصدارة, ويسمّى باسمه, ويوثّق اسمه في سطور التاريخ بأنّه رائدٌ لهذا الجنس الأدبيّ الجديد, ويتبعه الأدباء من كلّ حدبٍ وصوب, يحاكون فنّه الجديد, ويطوّرونه حتى يصلون به إلى أعالي القمم, ويبقى عنوان الريادة ملتصقاً به إلى أبد الدهور.
فبينما كان الأدباء ينشرون على صفحاتهم في الفيسبوك, كلّ ما يحلو لهم ولمتابعيهم من نصوص, ويستمتعون بأنّهم قد تلاعبوا بمشاعر قرّاء نصوصهم, وأثرّوا بمزاجاتهم, ونالوا حظاً وافراً من الثناء والإعجاب, يسعى الأديب الواسطيّ “حميد الزامليّ”, إلى توثيق نصوصه التي نشرها على صفحته الرسمية, بمؤلفٍ فيه من الجدّة واللطافة ما في الفيسبوك نفسه, فهو يعرض نصوصه في مؤلفه بطريقة مماثلة تماماً لما يعرض في الفيسبوك, نصوص أدبية تطول وتقصر, تأبى أن تنتمي إلى الأجناس الأدبية المعهودة, وإن شابهتها في بعض الجوانب؛ فهو يصف الواحد منها بأنّه خبر؛ إذ وضع لمؤلَّفه عنواناً مقتبساً من طريقة الفيسبوك في عرض أخباره؛ وَوَسَمه بـ (آخر الأخبار), وتعهّد الاتحاد العام للأدباء في واسط بطباعته, ليصبح حميد الزامليّ رائداً لتوثيق الأدب الرقميّ, ويتربّع على عرش السبق فيه.
يسعى الزامليّ في (آخر الأخبار) إلى ما سعى إليه علماء سابقون, ولكن بطريقة أدبية فنية بالغة, تهدف إلى إبعاد القارئ عن السأم والملل, فأنت تقرأ مؤلّفاً فيه مقطوعاتٍ نثرية وشعرية متنوعة, حكاياتٍ وقصصاً وأشعاراً ونصوصاً قصيرة, بلاغةً وبياناً, وإطنابا وإيجازا؛ إذ يكون لك في آخر الأخبار ما يشبع رغبتك من قراءة النصوص الأدبية, ويدعوك إلى الاعتراف بأنّه رائد لهذا الفنّ, حتى تؤمن كلّ الإيمان بأنّه يستحقّ مصطلح الفحولة عند الجاحظ الذي يعتمد على تعدد الفنون الأدبية, ومقدرة الشاعر في الإجادة في هذه الفنون, حتى قيل عنه – الجاحظ- إنّه يخلط بين الفنون الأدبية, ولا ينظر إلى اختلاف تفاصيل صناعتها, ويفرض على الشاعر حدوداً خارج قدرته وطاقته. غير أنَّ الزامليّ في آخر الأخبار استطاع أنْ يصل إلى هذه المرتبة, ويكون شاعراً وكاتباً وقاصّاً من الطراز الأوّل, ثمّ إنَّ العبقرية تدعو إلى عدم التمسّك بالمنهج القديم في الكتابة الإبداعية, والسعي إلى صناعة شكل أدبي جديد, يناسب العصر وميول المجتمع, ومن المفيد أن نذكر هنا ما قاله د. جلال الخياط, عن الأدب الجديد, إذ قال: ( … ولكن أنْ نركّب أدمغة أجدادنا في رؤوسنا وإحساسهم في صدورنا وننظم الأشعار مثلما نظموا, فهذا أمر ينطوي على إهانة لهم ولنا,… للأجداد أن يؤسسوا وللأحفاد أن ينطلقوا ويجتهدوا ويبدعوا ويبرهنوا أنهم جديرون بوراثة الماضي كلّه). (الشعر العراقي الحديث: 130-131)
وأنت تقرأ (آخر الأخبار) تشعر باستحالة دراسة النصوص الأدبية فيه وتحليلها على مستوى العموم؛ إذ لا يمكن الوقوف على لمسات فنية مشتركة بين نصوصه, لكونها متنوعة في الأجناس والأغراض والأساليب والفنون, وبشكل يدعوك إلى دراستها وتحليها, على وفق الطريقة التي عرضت بها؛ إذ يتراءى للقارئ أنّه لا يمكن أنْ يكتب سطراً واحداً يصفُ فيه نصوص الزامليّ بأجمعها, إلّا إذا أراد أن يصف طريقة عرضه للنصوص, وطريقة ترابطها وتكاملها, ولعّل أنسب طريقة لتحليها هي وصف النصوص وتحليها على طريقة التعليق في الفيسبوك, وهي أنْ تضع قبالة عنوان النصّ ما أثارك فيه, كما هو الحال وأنت تكتب تعليقاً على منشور له في مواقع التواصل الاجتماعي. ثمَّ أنَّ منهجية هذه المواقع تقتضي أن يكون في أول الأخبار وأعتابها, النصوص التي تكسب عدداً أكبر من الإعجابات والتعليقات, ولا تعير أهمية للتسلسل الزمنيّ فيها, فهي تسلسل النصوص المنشورة, على وفق أعداد التفاعلات معها, فالنصوص التي تحتل مرتبة الصدارة في الفيسبوك, هي النصوص التي نالت إعجاباتٍ وتعليقاتٍ أكثر, ثمَّ تتوالى النصوص بعدها حسب التصنيف نفسه, وصولاً إلى آخرها.
وقد هدفتُ إلى تسجيلِ انطباعاتي على مواطن الإبداع, وحاولتُ تفسير هذه الانطباعات وشرحها بحجج موضوعية تستند إلى أصول ومبادئ العمل الأدبي وفنونه, وبصورة موجزة, فكانت نصوص (النملة- الإنشاء- شظايا) في أوائل الأخبار التي نالت منّي حظاً وافراً من الإعجاب والتعليق, وسأعرض في السطور اللاحقة تعليقي على كلّ نص من هذه النصوص.
• النملة: يعتمد الكاتب في هذا النصّ اعتماداً كبيراً على وصف المكان وما فيه؛ إذ يرسم خلفية مكانية ثرية, ومساحات واسعة, دارت فيها الأحداث, فيصور زوايا المكان, وكلّ ما واكبه من أحداث, خيالية أو واقعية تتراءى للكاتب, يوزع الكاتب شخوصه في تلك المساحات, وبترتيب رهيب, يستعير فيه طريقة العربيّ القديم في عرض قصص الحيوان, التي ارتبطت بظروف اجتماعية وسياسية, دعت إلى التوسّل بالحيوان كبلاغة جديدة للمقموعين والمهمشين, غير أنّ الكاتب في نصّه هذا يسير في الضفة الأخرى من الركب, ويخالف النسق الجمالي لقصص الحيوان التراثية, فهو يتّخذ من النملة التي وضعها على عتبة نصّه كعنوان له, أداة فعّالة لتصوير الأشياء الدقيقة والبعيدة جداً, التي يستحيل أنْ يصل إليها ويصفها مباشرة, أو باتخاذ شخصية أخرى, فاتّخذ النمل ككاميرا متنقلة, يتنقّل بها حيث يشاء, ومتى يشاء, فصوّر بوساطتها كلّ ما يمتنع تصويره, بدءاً من الطريق التي قطعها النمل, وصولاً إلى المتاهة التي صوتّوا على اختيارها مكانَ استراحةٍ لهم, وهنا بيت القصيد, إذ صوّر في ذلك المسبح كلّ مستور يمتنع عن الأنظار, وكأنّما يمتلك أحدث كاميرات المراقبة, التي تنقل الصوت والصورة معاً, فقد صوّر الحركات والألوان والنقوش, وسجّل الأصوات والضحكات والصرخات وتوالي الأنفاس, متخذاً تقنية الـ(zoom Player) فيقرّب الصورة, ويرفع الصوت متى ما ضغط على الزر المخصص لذلك, وبصورة تعجز عن عرضها أيّ شخصية أخرى, راسماً مسيرة جيوش النمل, وتوزيع مهام رحلتها, بدءاً من القائد, إلى مجموعة عمل الجسور, ومجموعة الإسعافات الأولية, فهو يسعف قارئ النصّ بتقنيته هذه, متى ما شرد ذهنه, ينكزه كما في الفيسبوك, ويعيده إلى إكمال رحلة القراءة.
• الإنشاء: نصّ الإنشاء هذا يذكّرني بجملة سمعتها عن أحد الشعراء, حين سُئل عمّا يشعر به وهو يعبّر عن هموم الناس بشعره, فقال ما معناه: (يؤسفني أنني شاعر أكتب بشفرة على جسد المتلقي) فهو يجسّد الويلات والهموم والأحزان, والأحلام والأصوات, وضحك الرصاص, تجسيداً عظيماً, يَبينُ منه الوقع في النفس الإنسانية, وكأنّه يرسم تلك الويلات على قلب المتلقي ووجدانه, ليرغمه على أن يعيش في أجواء مأساوية حزينة, ويختم نصّه بجملة استدراكية, تصوّر لنا أنَّ كلّ ما كتبه ويكتبه غيرُ مجدٍ في زمن التيه والضياع, إذ يقول: (منذ ذلك اليوم وبعد مرور ثلاثين سنة, وحامد منشغل بكتابة القصص ولكن من دون جدوى).
• شظايا: في نصّ شظايا يعتمد الكاتب تقنية أخرى تتمثل بصناعة الصدمة, وكسر أفق التوقع, فالقارئ يسير مع النصّ على وتيرة واحدة, يحاول استشراف النتيجة, والتنبؤ بخاتمة النصّ, يسّرح بصره وبصيرته في سطور شظايا, متوقعاً بجملة من الاحتمالات, التي بدأت تقلّ بصورة تدريجية, فإذا ما قلّت الاحتمالات, وكاد أن يقف على النتيجة المتوقعة, جاءت خاتمة القصة كصعقة كهربائية تعيد إليه وعيه وترقبّه من جديد, وتدعوه إلى حذف التوقعات السابقة وأبعادها, وإعادة ترتيب النصّ على وفق الخاتمة الصادمة غير المتوقعة. فجملة (سلبتْ رجولته للأبد) جعلته يعيد النظر في ترتيب أحداث النصّ, ويعدُّ تفكير شخصيته التي ما زال يتتبعها من أولّ كلمة في النصّ ضرباً من الهذيان, ويرسم على جدار وجدانه جملة بخطٍ عريض: لا عشقَ في زمن الحروب, الحروب التي مضغت كلّ الأحلام والحقائق, وقذفتها في مهاوي الردى.