23 ديسمبر، 2024 7:36 م

قراءةٌ هرمنيوطيقيةٌ في كتاب العالم  

قراءةٌ هرمنيوطيقيةٌ في كتاب العالم  

للعقلِ قوَّة الدوران على نفسه كثيراً حتى كأنَّه الناعور، فهو يقدر على هذا الأساس أن يبرهن على الفكرة ونقيضها، فإذا كان الأمر كذلك، فلا تقل عن العقل إلا أنه للجميع فرجٌ مباح.
العقلُ ضروريٌّ جدّاً للإنسان وللعالم، لكنه ليس عقلي أنا أو عقلك أنت، إنه العقلُ الكلِّيّ، العقل الذي يستطيع أن يرقى كالنسر الجامح فيصطاد لبَّ الحقيقة في حركةٍ مفاجئةٍ واحدة.
إنه عقل الله بالضبط
 لن يكون العالم على هيأة العقل تماماً، أقصد عقل الإنسان، وإلا فإنَّ العالم في مبناهُ ومعناهُ مطابقٌ لعقل الله بالضبط.
العالم في غاية الجمال، وفي غاية الروعة كذلك.
لكنَّ المشكلة هي أننا لسنا عالماً بالكامل، بل نحن عالمٌ ناقص، أو قل نحن جزءُ العالم ولسنا كلَّه، هذه هي المعضلة الرئيسية في أنَّ فهمنا للعالم ليس على ما ينبغي أن يكون.
مع ذلك، فإنك تستطيع أن تجعل العقل قادراً على خوض مغامرة فتح العالم، إنك تستطيع أن تفعل ذلك أيها الصديق بمجرَّد أن تفهم السرَّ الكامن في العشق، فهو الوحيد القادر على أن يجعل من عقلك لؤلؤةً تشبه عقل الله على وجه التقريب.
أن تحبَّ أحداً يعني أنَّكَ تقدَّمتَ خطوةً أخرى باتجاه العالم الأرحب للعقل، وليس العالم الأرحب للقلب فقط. لا يتناقض العقل مع القلب، ولا يتضادّ، ولا يتقاطع، إلا عندما يكون العقل كوكباً هارباً من مجرَّة القلب، فإذا كان كذلك، فقل عن العقل إنه قانونٌ يحكم بالإعدام على كلِّ ما كان في غاية الإحكام من جهة الانسجام الكلِّيّ مع سائر التفاصيل التي تتشكَّل منها سمفونية الوجود، الوجود الذي لن يكون وجوداً واقعياً ما لم يكن مزيجاً مؤتلفاً جدّاً من العقل والقلب معاً بطبيعة الحال.
إني أحبُّك أيها الصديق، وأحبُّك أنتِ أيتها المرأة التي استعمرت كلَّ فضاء الخيال، أحبُّكما أنتما، وأحبُّ معكما تارةً، وبسببكما تارةً أخرى كلَّ ما يسبِّب لي المعاناة التي لا تُطاق في هذه الحياة.
أحبُّك أنت أيها الخصم اللدود، أحبُّك في الباطن، وإن كنت أبغضك جدّاً في الظاهر، أحبُّك لأنك تكمل معي دائرة الصراع في هذا العالم، فأنت تعلم أنَّ الصراع هو جوهر العشق، صراع القلب مع القلب في ذات المرء، وصراع الحبيب مع الحبيب في الهجر والوصل على السواء.
للعقلِ عقلٌ، وللعقل الثاني عقلٌ ثالثٌ أيضاً، وهكذا دواليك إلى العقل الأخير المفترض، ذلك العقل الأخير المفترض لن يكون باستطاعة العقل نفسه التكهُّن بما يكون عليه في الواقع.
للقلبِ قلبٌ، وللقلبِ الثاني قلبٌ ثالث، وهكذا دواليك من دون أن يكون هنالك قلبٌ أخيرٌ مفترض، فالقلب أعمق أعمق كثيراً قياساً إلى العقل، بل إنَّ العقل ذاته ليس إلا زاويةً بسيطةً من زواياه، لكنها الزاوية الأشدُّ إنارةً من مجمل زوايا القلب الأخرى، ومع أنها أكثر إنارةً إلا أنها لا تعتمد على ذاتها في توليد الكهرباء، في الوقت الذي يكون من خصوصيات القلب أن يفعل ذلك، وأن يمدَّ جميع كيان الإنسان بالطاقة اللازمة لأن يوجد في أرجائه حدث الإنارة.
أما السؤال عن أيهما أقرب إلى فهم العالم، الشاعر أم الفيلسوف، فأنا أعتقد بأنَّ الفيلسوف ميِّتٌ واقعاً، ميِّتٌ من دون أن يشعر بالضبط أنه ميِّت، إنه يحسُّ بذلك إحساساً خافتاً فقط، ولذلك فإنك ما إن تحدِّث الفيلسوف عن الحياة حتى يبادرك بالحديث عن فلسفة الموت بصفتها الفلسفة الوحيدة الجديرة بالحياة.
المشكلة هي أنَّ بعض الفلاسفة حينما يتحدَّثون عن العالم طبقاً لفلسفة التشاؤم لا يكونون هم أنفسهم في ذروة الشعور بالموت، بل يكونون موتى بذات الطريقة التي تموت بها سائر الأشياء في العالم، تلك هي المأساة في الواقع، وإلا فإنهم لو شعروا بالموت بطريقةٍ خارقةٍ كما هي حالة الندرة من الشعراء لما كان أغلبهم على هذه الدرجة من السماجة، ولكانوا على قدم المساواة مع الأنبياء من هذه الناحية.
يا لروعة المكانِ والزمانِ في رأسِ الشاعر، فإذ يبدو المكانُ كما لو أنه خيال المرأةِ بالضبط، يكونُ الشاعرُ قد فارق كينونته الأولى بصفته حالماً، وتحوَّل إلى مدينةٍ مسكونةٍ بالرعب
لا يكونُ الشاعرُ شاعراً تماماً إلا عندما يكون مرعوباً تماماً، وممتلئاً بالنشوةِ أيضاً، فيكون مزيجاً من الأمن والخوف بصفتهما ما يؤكَلُ وما يشرب، أما النومُ، فتتكفَّل به الصورة الخيالية للزمان في رأسِهِ، أي إنَّ الشاعر لكي ينامَ هانئاً ومستمرئاً أحلامه لا يحتاج إلى كسرةٍ من رغيف المكان، بل هو بحاجةٍ فقط إلى فتاتٍ بسيطٍ من مائدة الزمن، ليتحوَّل كيانه كلُّه إلى مجرَّد فكرةٍ ثاقبةٍ جدّاً في جمجمة العالم
ربما لأنَّ الشاعر على هذه الصفة، ربما لأنه كذلك، يحدِّثه الناسُ على أمل أن يروهُ راشداً، فيفاجئهم بأنه ما زال على قيد الطفولة ثاقباً .
الشاعر في الذروة من كلِّ شيءٍ على الدوام، ذلك هو سرُّ القوَّة في قصائد الشعراء الكبار إن كنت تريد أن تطلع على حقيقة الفرق بين الشعر العظيم والشعر الخامل الضعيف في الحقيقة.
أنا لا أفهم نفسي غالباً، لا أفهمها ما لم تكن في ذروة النوم، أو في ذروة اليقظة، أو في ذروة السكر، أو في ذروة الصحو، أو في ذروة الموت، أو في ذروة الحياة.
الفهم الحقيقيُّ للأشياء لن يكون تامّاً ومكتملاً إلا من منطقة الذروة على هذا الأساس.
ربما لهذا السبب ترى بعض الفلاسفة من ذوي الرؤية الخارقة كباسكال وجان جاك روسو وشبنهاور ونيتشه على سبيل المثال، والكبار الكبار من الشعراء والفنانين راغبين إلى حدِّ الذروة بالموت أو بالحياة، لا فرق، المهمّ أن يكونوا في منطقة الذروة من أحدهما، ليتمكَّنوا من الاطلاع التامّ على حكمة الله المبثوثة في صنع العالم، فالعالم ليس مفهوماً بما يكفي مع الموت الناقص أو الحياة الناقصة، العالم مفهومٌ فقط ومستوعَبٌ جدّاً مع أحدهما عندما يكون مكتملاً فحسب.
أفضل ما أبدعه عقل الإنسان حتى الآن هو الشعر، إنه أفضل حتى من تقنيات الحضارة ومعجزاتها الكبرى، لأنَّ الإنسان بالشعر على وجه التحديد يقدر أن يهدم العالم ويبنيه طبقاً للهيأة التي يشاء، هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، فإني لا أستطيع أن أتخيل الله عندما بدأ خلق العالم إلا شاعراً، وإلا فقل لي لو لم يكن العالم موجوداً بالفعل على هذه الهيأة، أفكانَ من الممكن لمخيّلة الشعراء جميعاً أن تتجاوز تخوم الجمال في تشكيل الصورة لهذا العالم، بالنسبة لي لا أعتقد ذلك، لأنَّ كلَّ ما يفعله الشعراء بعد الانتهاء من خلق العالم هو أنهم يهدمون بعض أجزائه، ويستبقون الأجزاء الأخرى، أو أنهم يعيدون خلط الأجزاء من جديدٍ فيعيدونها إلى حالتها الخام قبل تشكيلها بالفعل الصورةَ المنجزةَ للعالم، فيقومون بإعادة ترتيبها وضمِّ بعضها إلى بعضٍ لتمنح العالم صورته المبتكرة الجديدة، على أنَّ هذه الصورة الأخيرة ذاتها ليست إلا تجميعاً لصورٍ منجزةٍ من قبل بلسان الله، شاعرها الأعظم منذ البدء.
لو لم أكن مستغنياً عن الشعر بما هو أعظم منه لكنت شاعراً، هذا هو لسان كلِّ نبيٍّ في الحقيقة، لكنَّ الأنبياء شعراء أيضاً بالمعنى الواسع والعميق لهذه الكلمة، إنهم ينطقون بالشعر الأرقى، الشعر الذي يُستمدُّ مباشرةً من عالم الروح، روحها التي لا تعرف عنها شيئاً مع الأسف، لكنها مبثوثةٌ في الأشياء ذاتها، مضافاً إلى وجودها في الأشياء الأخرى بصفتها تنتمي إلى العالم، فالعالم وحدةٌ متماسكةٌ جدّاً، إلى حدِّ أنَّ هباءةً موجودةً في المريخ يمكن أن يكون لها وجودٌ أيضاً عن طريق هذه الروح بالذات في الهباءات المتطايرة الأخرى على كوكب الأرض، وقل الشيء نفسه عن علاقة روحها بالأرواح المبثوثة في الأشياء الأضخم فالأضخم حتى بلوغ الخيال مرحلة الحديث عن عرش الله.
هل تخيَّلتَ عرشَ الله يوماً كيف يكون، لقد أبدع الله السماوات والأرضين ثمَّ قال استويت على العرش، فهل لم يكن هنالكَ عرشٌ لله قبل ذلك، أم أنَّ عرش الله لم يصبح واقعاً ملموساً إلا بعد الخلق، تلك معضلةٌ تحتاج إلى الحلّ في رأيي الآن أيها الصديق.
ليس العرش إلا قلب الأشياء ذاتها، أي إدراكها بالعقل والقلب معاً هي صفات الله، أما قبل خلق الأشياء فلا أحسب أنَّ الله محتاجٌ إلى عرشٍ أصلاً، فالله ذاته غنيٌّ عن العرش، لكنَّ الأشياء عندما توجد تحتاج أن يكون لها إدراكٌ من العقل والقلب معاً، ولن يتشكَّل هذا الإدراك إلا بصفته عرشاً للخالق، هذا هو التأويل الهرمنيوطيقيّ المناسب لمعنى العرش، ومن الطبيعيّ أن يكون قلب الإنسان بعد أن يبلغ مرحلة الانصهار في أتون العشق هو المرشَّح الأوَّل لهذه المهمة بالذات، فالقلب العاشق للإنسان هو هو عرش الله، فلا تكفره لحظةً فتكون من الخاسرين.