قبل ان نوغل بدراسة المجتمع العراقي ومقوماته, لا بد لنا اولا ان نعرف مفهوم البداوة والحضارة بشكل يسير.
البداوة من الناحية العلمية, تعني نظام اجتماعي لا يمكن ان ينشأ إلا في البيئة الصحراوية القائمة على التنقل والرعي, حيث يتميز افراد هذا المجتمع بالعصبية القبلية التي تعتبر البديل عن الدولة هناك فضلا عن مفاهيم الغزو والخشونة, التي يتميز بها هؤلاء الأفراد و التي خلقتها بطبيعة الحال الظروف الصحراوية القاسية المعروفة .
اما بالنسبة لمفهوم الحضارة فهي نظام اجتماعي تعتبر الدولة احدى اركانها الأساسية , يعنى بالإنتاج الثقافي والإقتصادي فضلا عن العلوم والفنون وهي قائمة _اي الحضارة_ على الثبات والإستقرار بخلاف البداوة القائمة على التنقل والرعي, فأفراد المجتمع الحضري يتميزون بعوامل الإبداع والإبتكار والتطلع, ناهيك عن عوامل النعومة والترف التي يتميز بها هؤلاء الأفراد .
اما حديثنا اليوم فيتناول بشيء من التفصيل طبيعة المجتمع العراقي الذي يعتبر حلقة تتوسط الصراع بين مفهوم البداوة والحضارة , وذلك لأسباب كثيرة تتعلق بعوامل تاريخية وجغرافية عديدة .
فإذا نظرنا اولا الى العامل التاريخي سنكتشف ان اول حضارة نشأت في الوجود هي بابل في العراق, فمعروف عن مدى عراقة واصالة هذه الحضارة , ومدى ما وصلت اليه من علوم وفنون وابداعات على مر التاريخ, لا زالت اليوم حديث الكثير من العلماء والمهتمين.
اما بالنسبة الى العامل الجغرافي الذي يعتبر السبب الرئيسي لظهور البداوة في العراق, فيجب ان لا ننسى ان العراق يقع على حافة الصحراء مباشرة دون وجود اي فاصل طبيعي بينهما, فكما قلنا ان الصحراء تعتبر الموطن الأصلي لنشوء البداوة وعلى هذا الأساس, جاءت الموجات البدوية الى العراق بشكل متتابع على مر الأزمان, مما حذا بالمجتمع العراقي ان يتبنى الكثير من القيم البدوية التي لا زالت موجودة لدى الكثير من افراده .
فوجود هذان النقيضان الكبيران (البداوة والحضارة) داخل قطر واحد خلق فيما بعد الكثير من التناقضات والإزدواجيات, داخل المجتمع انعكست على الواقع العراقي ومقوماته, فتارة نجد مناطق عراقية تتمسك بالعادات والقيم البدوية بشكل كبير, وهو ما نصطلح على تسميتها بالقرى والأرياف, وتارة نجد مناطق اخرى تتبنى القيم الحضرية القائمة على الإستقرار والتنظيم والإنتاج, وهي ايضا ما نصطلح على تسميتها بالمدن فهذا المد والجزر بين عامل الحضارة من جهة وعامل البداوة من جهة اخرى, جعل من المجتمع العراقي مقسم الى كانتونات متنازعة غير متجانسة ان صح التعبير, وبالتالي دخل المجتمع العراقي ذروة الصراع الحاد بين القيم البدوية والقيم الحضرية, ونستطيع ان نتلمس طبيعة هذا الصراع من خلال سلوك الكثير من العراقيين القائم على الإزدواجية والتذبذب في اغلب الأحيان, فالعادات والتقاليد البدوية مسيطرة بقوة من جهة, والقيم والإتجاهات الحضرية مسيطرة بقوة من جهة اخرى, فهذا الأمر بطبيعة الحال يكشف بوضوح مدى انعكاس الصراع بين البداوة والحضارة التي بدأت أولى ثماره بالظهور في عهد سيدنا آدم, وولديه قابيل وهابيل.
لكن ما يهمنا هنا هو المجتمع العراقي اذ كيف سيتخلص من تراكمات هذا الصراع الأزلي , التي لا زلنا نرى اعراضها تتفاقم كل ما مر بنا الزمن الى الأمام؟, وكيف يمكن لنا ان نصحح الكثير من الأخطاء التي ارتكبها اسلافنا , في الماضي نتيجة لهذا الصراع الطويل؟.
اعتقد بأن الإجابة على هذه التساؤلات, تتطلب منا قضايا كثيرة والدولة طبعا لها النصيب الأكبر في تحمل المسؤولية في هذا الشأن فعلينا أولا ان نعيد النظر في الكثير من الثغرات, التي افرزها هذا الصراع ونقف عليها قليلا فضلا عن العمل على نشر الوعي الحقيقي, بين افراد المجتمع و نبذ الخلافات العنصرية, و التقليل من خطورتها والعمل ايضا على توجيه دفة الفرد, نحو المشاركة الفعلية والبناء الإجتماعي, وتقديم كل ما ينفع من أجل الوطن ولأجل الوطن, فهذه المحاور وغيرها ان طبقت على ارض الواقع بشكل صحيح, نستطيع في هذه الحالة ان نجزم بأن نتائج الصراع بين البداوة والحضارة, وما أفرزته من تناقضات داخل المجتمع, قد يمكن لها ان تقل بشكل تدريجي, وطبعا هذا الأمر بحد ذاته يحتاج الى جهد كبير قد يأخذ منا زمنا طويلا بالتأكيد .
[email protected]