25 أكتوبر، 2024 2:22 م
Search
Close this search box.

“السيرة الهلالية” في سيناء .. برواية الشاعر الرحال !

“السيرة الهلالية” في سيناء .. برواية الشاعر الرحال !

خاص : كتب – عمر رياض :    

تمر هذه الأيام الذكرى الثانية لرحيل شاعر “السيرة الهلالية” الكبير، عم “سيد الضوي”، كما كان يطلق عليه المقربون والمستمعون.. ويعتبر “الضوي” أكبر شعراء الجيل الثاني المعروفين بسبب التسجيل الإذاعي والتليفزيوني، ويأتي بعد والده، الحاج “الضوي”، ممن يُطلق عليهم “بحور السيرة”، وتعني أكبر الحفظة للسيرة؛ ومن معاصري “بحر السيرة” الشاعر، “جابر أبوحسين”.

أخذت “السيرة” طريقها، طوال ما يقرب من 9 قرون، عبر الشعراء المجهولين حتى فسرتها وشرحتها تلك الأجيال من الشعراء البسطاء والكبار، بالإضافة إلى جمعها كما فعل الشاعر، “عبدالرحمن الأبنودي”.

فقد أخذت بحور “سيرة بني هلال” من الشعراء؛ جنوب “مصر” مكانًا ومستقرًا ونقطة إنطلاق للعالم مؤخرًا، بينما ظلت أماكن الملحمة الحقيقية ونقاط رحلتها، هامشًا نسبيًا، حاضرًا في الرواية أكثر منه حيًا ومركزًا لها، وعلى الرغم من ظهور العديد من الدراسات النابعة من مختلف الأقطار التي مرت بها الرواية، (تونس والجزيرة العربية.. إلخ)، إلا ان الحضور الشعري الراهن ظل مرتبطًا بجذوره في جنوب “مصر”، (في محافظة “سوهاج”)، بحسب تصنيف “اليونسكو”، ومن ثم تمتد أغصانه وجذوره عبر النسب القبلي لشتى البلاد العربية المنتشرة بها القبائل؛ سواء “بني هلال” أو القبائل المحبة للملحمة والمهتمة بما أنتجته من فن وفلسفة حياة، سوف نبحث في مفاهيمها عبر هذا المقال..

دائمًا ما تتناول الدراسات الأدبية “سيرة بنى هلال”، الرواية، من التاريخ؛ هذا بخلاف الموسيقى بكونها تراثًا، إلا أن اكتشافًا جديدًا قد يغير مفهوم هذه الرؤية بحسب بحث جديد أُعد مؤخرًا.

1 – سيرة “بني هلال” من الرواية التاريخية إلى رواية الجغرافيا..

بالمصادفة؛ تقترب ذكرى شاعر السير الكبير، “سيد الضوي”، من احتفالات النصر في حرب تشرين أول/أكتوبر في “مصر”.

تلك الاحتفالات التي أصبحت، منذ زمن، عسكرية فقط؛ والتي تتذكر “مصر” فيها منطقة هامة وحيوية مثل “سيناء”، التي مازالت تشهد صراعات وحروب ذات طبيعة مختلفة، اليوم، تطلق عليها السلطة “حرب الإرهاب”.

إلا أن الفضاء الأدبي والتراثي لهذه المنطقة، على الأخص، عاد لينافس على استحياء منذ أعوام؛ ليزاحم في إطار الصورة النمطية عن كون المنطق “ساحة حرب”.

فقد أنتجت المنطقة، الأعوام القليلة الماضية، عدد من الروايات ودواوين الشعر والدراسات لأدباء مثل؛ “سامي سعد” و”عبدالله السلايمة” و”شادي سامي” و”حسونة فتحي” و”حاتم عبدالهادي” وآخرين.

وينتظر أدباء وباحثو “شبه جزيرة سيناء”، الحدودية في “مصر”، صدور عدد من الكتب الجديدة أيضًا خلال الأيام القليلة القادمة، وتضم كتب المنطقة دراسة حديثة أعدها الكاتب والباحث السيناوي، “مسعد أبوبدر” عن “رواية سيرة بني هلال في سيناء”.

يذكر عدد من المؤرخين أن رحلة “بني هلال” قد مرت على الكثير من البلدان؛ من ضمنها “إقليم الشام القديم”، الذى يصب في “سيناء” عند نهايته، إلا أن معظم تلك البلدان، حتى وقت قريب، لم يعثر فيها على أثر لتلك الرحلة.

قام الباحث، “أبوبدر”، بجمع وتسجيل “سيرة بني هلال” من شعراء مجهولين في منطقة “سيناء”؛ ومطابقة ما جمعه مع الرواية المعروفة.

يأتي الإختلاف الظاهر في عمل (السيرة الهلالية.. رواية أهل بادية سيناء)؛ في لهجة البدوي الشمالي والتي تختلف كثيرًا عن لهجة الصعيدي الجنوبي.

يحدث هذا الإختلاف على الرغم من التقارب الشديد للّهجتين البدوية والصعيدية مع الفصحى في نفس الوقت، وهو ما يجعل من المكان قماشة عريضة يبتكر فيها الشاعر وينسج منها هذا الجناس بأنواعه المعروفة في شكل “المربع الشعري” عند الشعراء الشعبيين شمالاً وجنوبًا، وقد ظهر هذا التقارب أيضًا مع ما جمعه الشاعر، “عبدالرحمن الأبنودي”، من “تونس” و”مصر”.

وهذا ما أشار إليه الحوار، في “الحلقة الأولى”، مع شاعر السيرة، “محمد عزت”.

2 – “السيرة الهلالية” رواية بدو سيناء..

“السيرة الهلالية” ملحمة شعبية تتناقلها الشعوب العربية المختلفة وترويها روايات مختلفة بما يناسب ثقافتها ومُثلها العُليا.

و”بدو سيناء.. لهم روايتهم الخاصة بهم والمعبرة عن مجتمعهم وواقعهم.. ونحن نحاول هنا أن نقدم هذه “السيرة” كما وصلت إلينا من بعض رواتها، ولن نزعم الإحاطة والشمول، بل نحن في حاجة ماسة إلى مشاركاتكم الكريمة.. وتقبلوا جهدنا المتواضع”.. هكذا تستهل صفحات (السيرة الهلالية.. رواية بدو سيناء) تقديمها للرواية..

تبدأ “السيرة” بميلاد الشخصيات، وتسير زمنيًا على حسب الرواية القديمة؛ إلا أن “رواية بدو سيناء” أقل من حيث عدد الأبيات المتعارف عليها، وهذا ليس بعيب كما يشير الشعراء.

في الميلاد والنشأة..

الصفحة الأولى:

كان “بني هلال” ساكنين في “نجد” في “جزيرة العرب”، ومن ضمن القوم رجل ينقال له، (سرحان)، ورجل ينقال له، (رزق)، ورجل ينقال له، (غانم)..

قال الراوي: «خرجت “مرة سرحان” – وراوي ثاني بيقول “مرة غانم” – مع “مرة رزق” في نزهة على عين الميه، ومعهن خادمة بتخدمهن..

وكانت الحريم، (النساء)، كلهن حوامل حتى الخادمة كانت حامل، شافن سرب طيور، وشافن طير كبير أبيض بيقود الطيور كلها، إن طار طارت الطيور وإن حط حطت الطيور، قالت “مرة سرحان” – أو “مرة غانم” -: “يا ريت ربي يرزقني بولد يقود ربعه؛ مثل ما هالطير الأبيض بيقود الطيور”. شوية جاء طير أسمر كاسر هجم ع الطيور خلى ريشهن فطاط، قالت “خضرا”، “مرة رزق”: “يا ريت ربي يرزقني بولد مثل هالطير الأسمر، يخوف الطيور كلها”. قالت الخادمة: “وأنا يا حبابات ؟” قالن: “وأنتي ربنا يرزقكي”.

ربك قادر.. ولّدن الحريم، المرة التي تمنت الطير الأبيض كرمها الله بولد أبيض جميل الصورة هو “السلطان حسن” – أو “دياب بن غانم” – حسب اختلاف الرواية. و”خضرا الشريفة”، مرة رزق، رزقها الله بولد أسمر سمته “بركات”.

والخادمة أعطاها الله ولد، هو العبد، “أبوالقمصان”، بيصير بعدين عبد “أبوزيد”.

على أربعين يوم الناس بيطلعوا أولادهم على مقعد الرجال؛ عشان الرجال يشوفوهم. شافوا الولد الأبيض، قالوا: “بسم الله وما شاء الله”.

شافوا الولد الأسمر تعجبوا؛ وقالوا: “كيف خضرا ورزق يخلفوا عبد أسمر وهم أحرار ؟”.. ويعلم الله باللي قالوه في قلوبهم، ويعلم الله بظنهم في الولية الشريفة.

بعد ما روح كل واحد لبيته قال “سرحان” لأخوه “رزق”: “يا رزق، يا إنك تطرد هالمرة – يعني “خضرا” – وولدها الأسمر، يا ترحل معها”.

قال “رزق”: “لا والله، ناوي أطردها”.

روح “رزق” ودخل على مرته “خضرا”، قال: “يا خضرا، ما ليكي مقام في بني هلال. باكر الصبح تشوفي واحد من العبيد يرمي الدبوس في الإبل، واللي الدبوس يجيبه من الإبل تاخذيه. ويرمي الدبوس في الغنم، واللي الدبوس يجيبه من الغنم تاخذيه. وتاخذي هالولد الأسمر اللي فضحنا وكسفنا قدام الناس وترحلي”.

مرحت “خضرا” بحاله كفى الله بشرها شافت فيها العذاب ألوان. وهي في هالحال جاها هاتف قال: “يا خضرا، باكر تلقينيه في المقعد شايب كبير، لما يقولوا اختاري عبد يرمي الدبوس قولي أنا أخترت الشايب هذا”.

الصبح قال “رزق”: “يا خضرا، شوفي عبد يرمي الدبوس”. طلعت على المقعد شافت الشايب، وقالت: “الشايب هذا يرمي الدبوس”.. قالوا: “يا خضرا، هذا شايب ما هو نافع”.. قالت: “اللي يجيبه بيكفي”.

في الاستعداد للرحيل..

الحلقة الخامسة: التغريبة..

قرر “الهلالية” الرحيل نحو الغرب، كان فيه ثلاث أسباب للرحيل، الأول: “يونس”، والثاني: إنهم يردوا ملك “جبر القريشي” طنيبهم، والثالث والأهم هو: “المحل”.

أمر السلطان؛ القوم بالاستعداد للرحيل، وحدد ليهم ميعاد السفر، وحدد أهم سبب من أسباب التغريبة:

نادي المنادي في دواوين “أبوعلي”.. نهار الأربع والخميس نشيل

اللي عنده مهرة ما تطبعت.. يطبعهي ثرا المقام قليل

واللي عنده بنت عمه حليلته.. يدنـّي لها عوج الرقاب تشيل

واللي عنده حرمة أجنبية.. يخايرهي بين الأهل والحليل

من خوف يدعن علينا وإحنا في الحماد دبيل

جفيتينا يا “نجد” وأنتي بلادنا.. ودعي لنا يا “نجد” بالتسهيل

سبع سنين يا “نجد” ما صابنا الندا.. ولا بركت حيرانا في المقيل

مطلقة يا “نجد” بالثلاثة.. طلاق حسن ما هو طلاق عويل

ثم رأى “السلطان حسن” المقابر فحسد أهلها أنهم ما بيرحلوا ولا بيفوتوا بلادهم:

نيالكو يا نايمين بنومكو.. مقيمين ما تطروا يوم رحيل

لا يفرحوا إن هدهد الرعد.. ولا يحزنوا غن جا الزمان محيل

وتعني “عوج الرقاب”: الإبل. “دبيل”: ماشيين. “الندا”: يقصد المطر. “حيرانا”: أولاد إبلنا. “بركت”: استراحت. “المقيل”: وقت القيلولة. (ولا بركت حيرانا في المقيل)؛ كناية عن التعب وقلة الراحة. “عويل”: قاصر غير راشد. “نايمين”: يقصد الموتى. “تطروا”: تذكرو.

في التغريبة..

الحلقة الخامسة: التغريبة..

قال السلطان: “يا رجال.. ودنا نجيب الجازية أم محمد علشان الجازية ليها ثلث الشور”. قالوا: “والله يا سلطان حسن اختك الجازية عند (شكر الشريف بن هاشم) وما هو مخليهي تغرب معنا، هي غالية عليه وهو غالي عليهي وليهم أولاد: محمد وحمدة”. قال “أبوزيد”: “أنتو تمشو تعزموه هو والجازية وبيصير خير”.

عزموا “شكر الشريف”، حاكم “مكة”، وجا هو و”الجازية”، حكوا للجازية أنهم ودهم يغربوا على “تونس”، ودهم ياخذوها بحيلة على “شكر”، وافقت “الجازية”، رغم أنها بتحب جوزها وأولادها، ولكن ما رضيت تخلي أهلها.

الصبح قال السلطان لـ”شكر”: “يا شكر ودنا ندور أنا وياك الصيد والقنص”. قال “شكر”: “ماشي”. بيطلعوا كل يوم الصبح بدري وما بيرجعوا غير في نص الليل.

“الهلالية” كل يوم بيسافروا مرحلة، وبينقلوا خيمة “شكر” معهم وبينقلوا النخلتين اللي قدام الخيمة وبيزرعوهن !

بيرجع “شكر” في الليل تعبان بيلقى الخيمة والنخلتين ولا بيخطر في باله أنهم بينقلوه من مكان إلى مكان وهو ما بيدري.

ظلوا على هذا الحال لما النخلتين نشفن. قالوا: “يا جازية علميه وقولي له أحنا أبعدنا والقوم خدعوك !”.

قالت “الجازية” لـ”شكر”: “صادك حسن ضاري على صيد غيرك.. يتابع بك بنات الوحوش الظعاين.. وإن كان مكذنبي فكر في النخل.. نشف يا أمير ما ظل غير الكرايف”.

قال الأمير “شكر”: “يا جازية البعد زاوي بي.. وغطى باينات المعارف”.

قالت: “دروبهي يا شكر ما هي غبيه.. مداهيجهي تقدي القلوب الهبيايب”.

قالت له: “أنا دفنت لك في كل مرحلة زاد وزواد، وأنا والله ما أنا عارفة أرد طلب أخوي السلطان”.

يقول الراوي، بين كل حلقة وحلقة كلمة “ها” ويمدها بالنفس كإستهلال للحلق التالية عندما يرويه.

وفي “الرواية البدوية” للسيرة؛ يمكن أن نتحدث بل ونحتفى بكل تفصيلة واختلاف في مقال أو بحث منفصل.

السيرة وتفرد البداوة بلانهائية والترحال الدائم..

حطت “رواية السيرة” ترحالها على “ضفاف النيل”، وبلاد قليلة أخرى، وظلت تحكي حكايتاها – التاريخ والبطولة والفروسية.. إلخ – ظلت تكرر نفسها، بينما جذبت “السيرة” عند أهل البادية في “سيناء” الرواية إلى مجاهل الصحراء، كثقب أسود بأرضية دائمة الخلق. قطعتها من سياقها التاريخي ووضعتها في مسطح أو فضاء جغرافي، لتصنع من هذا لقاء دائم الإبتكار، عبر حياة البداوة المتفرده بالانهائية.

هنا تصير “السيرة الهلالية” – من فعل الصيرورة – بلا زمان ولا مكان، بل فعل خارجي على المسطح أو الصحراء كلما إحتاج إليها في إبتكار البداوة اليومي.

يأتي الفكر الرحال كـ”فلسفة” محل “التاريخ” وينتج عبر “الفن” وتفاصيل، البداوة والترحال الامكاني، مفاهيمه المتجدة وهو ما يحدث في إرتجال المربعات باللهجة والمفردات الخاصة بالبدوي أو “الرحال”.

يتحدث الفكر المابعد حداثي حول كون “الترحال” من أهم الفلسفات الفكرية إنتاجا للمفاهيم.

ويطلق على الفيلسوف الفرنسي، “غيل دلوز”، البدوي والرحال، كما تسمى فلسفته بـ”الفكر الرحال”.

وفي بحث نحو علم بداوة صنع هذه الإشكالات، وتحدث عن كونها تمثل الراهن. كما استمد منها مفاهيم جديدة حول اللغة والفن.

لا يعتقد أحد أن الفيلسوف البدوي أو المترحل هو من يتحرك كثيرًا. ينبهنا “دولوز” إلى أنه معجب بجملة لـ”توينبي” يقول فيها: “أن البدوي هو الذي لا يتحرك”، فالفيلسوف عند “دولوز” هو أقرب إلى الهضبة منه إلى النهر الجاري.

إلا أن الحركة هنا في رحلته اليومية أو حياته التي تمتزج بالفن وبلغة أقرب إلى إنفلاق الخشب وطقطقة النار.. الخلق الدائم نقد التاريخ وإنغلاقة في سيرة البدوي.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة