أول الكلام:
يبدو أن طاحونة الموت شغّالة بِهِمَّة لا تتوقف ولو لهُنيهة ولا تستريح، فهي ما فتئت تحصد هامات عزيزة مفكرة مبدعة .. ما أحوجنا الى مثلها في زمننا العصيب هذا!
فقبل أيام فقدت مصر والعرب بل وحتى العالم المفكر العالمي المصري الماركسي سمير أمين، الذي عرف ببحوثه الاقتصادية الهامة لبلدان العالم النامي خاصة في أفريقيا التي عمل فيها وخبرها.. وكذلك بحوثه في أزمة الرأسمالية..و ققدنا أيضاً قبل أيام قلائل الممثل المصري الفرنسي اللامع جميل راتب، ذا الأسلوب المميز في التمثيل والمميز في ملامحه الارستقراطية رغم يساريته !!
ويوم أمس فقدنا الروائي “الكويتي” إسماعيل فهد إسماعيل المعروف بنتاجه الروائي المائز كمّا ونوعاً؛ وهو في الحقيقة عراقي من مواليد البصرة في بداية أربعينيات القرن الماضي! وليس أخيراً وفي اليوم ذاته رحل مأسوفاً عليه المفكر الاقتصادي جلال أمين..
***
رحل المُفكر الكبير الدكتور جلال الدين أحمد أمين عن عمر (83 عاما) زاخر بالعطاء وتميزبعمق الثقافة وسعتها العريضة وبأسلوبه السهل المركز، وأنا أصفه بالمصري، لما كتبه من مؤلفات عن مصر أولا ولكونه مات مهموماً بمصر وفياً لها ولشعبها رغم أنه تخرج من بريطانيا وعمل بها وعمل في بلدان الخليج وخاصة الكويت كخبير أقتصادي عالمي في صندوق التنمية والمساعدات للعالم الثالث وزار بلدان شرق آسيا وخص تايلندا بمقالة هامة ووصفها بأنها من أجمل ما رأى في آسيا.. نعم أصفه بالمصري لأنه ظل مصريا في طباعه وأسلوب حيلته وانشغاله بهموم بلده رغم اقترانه بسيدة إنكليزية وأنجب منها، وقفت بوفاء إلى جنبه حتى الرمق الأخير!
وأورد أهم مؤلفاته عن مصر التي تدلل على ما ذكرت آنفا: “وصف مصر في نهاية القرن العشرين” و” ماذا حدث للمصرين؟” و ” محنة الدنيا والدين في مصر” و “مصر والمصريون في عهد مبارك”..وفي كتبه وضع أصبعه على المشكلات الاقتصادية في أرض الكنانة وجذور هذه المشكلات وتجلياتها ومآلاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، وفي كتابه الأخير صدر بعد إزاحة مبارك استعرض فيه سياسة مبارك والتبعية الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة وعلاقة مصر بإسرائيل وما أفضت له سياسة مبارك من هبّات شعبية مصرية أزاحت مبارك والطغمة الحاكمة في مصر، كما وقف ضد توريث الحكم ونبّه عن مخاطره…
ولد الراحل في القاهرة عام 1935 في بيت ثقافة وعلم، فوالده هو المفكر الإسلامي أحمد أمين، وأخوه المذيع والدبلوماسي والكاتب التقدمي حسين أمين الذي تصدى للتطرف الإسلامي بأعمال أدبية وفكرية هامة. تخرج من كلية الحقوق في جامعة القاهرة ثم ابتُعِث الى لندن ليتحصل على الدكتوراه في تاريخ الفكر الاقتصادي..ثم يعود الى مصر أستاذاً في جامعة عين شمس والجامعة الأمريكية في القاهرة..
ولو تجاوزنا مؤلفاته الفكرية والاقتصادية والتأريخية الهامة، الى كتب سيرته نقف أمام كتابين هامين شيقين، هما ” ماذا علمتني الحياة؟” و “رحيق العمر”..ولايكتفي بوصف لحياته الشخصية التي عاشها في مصر إبان تفتحه الذهني في مختلف مراحله الدراسية في مصر وبريطانيا إنما تزخر ذكرياته بسرد جميل لحياته في ظل عائلة مثقفة ولمصادر بناء شخصيته التي استمدها من الحياة المعاشة ومن مطالعاته وتأثراته الثقافية والسياسية في بلده مصر حيث ما يلقيه مفكروها وأدباؤها المصريون من مؤلفات ومترجمات، وما شاهد من مسرحيات وأفلام صقلت شخصيته وساهمت في بناء أبناء جيله الذين بدورهم واصلوا درب من سبقهم..
نشأ متحمساً لوطنه مصر ثم تحول تدريجياً نحو القومية حالماً أن يبني العرب دولتهم القومية الموحَّدة فمال الى حزب البعث وسرعان ما انتمى اليه يحدوه أمل أن يستعيد العرب مجدهم المؤثل.. وشكّل مع ثلة من زملائه خلية بعثية وزارهم مشيل عفلق ليبارك لهم حزبهم الواعد وراح يشدهم ويدفعهم لتوسيع المنظمة وكانت طريقة عفلق في طرحه لآرائه ولهجته الغريبة عن أسماعهم وطريقة التعبير بيديه، قد اثارت استغرابهم وحتى سخريتهم وجعلتهم في موضع تساؤل عن جدية هذا السياسي.. سرعان ما هجر البعث غير مأسوف عليه !
وحيث انتقل الى لندن ليحصل على الماجستير في الاقتصاد والدكتوراه في مادة تاريخ الفكر الاقتصادي أقترب من الماركسية واقترن بها أو كاد ظلت مرجعاً له في فهم مشكلات العالم وصارت له مناراً في تحليلاته ودراساته لوضع مصر… ودراسة مصر هي ليست مقصورة على ما هو داخل حدود مصر إنما مصر هي العالم العربي في كل تنوعاته!
والفقيد الراحل جلال أمين لم يكن مبرّزا في اختصاصه كاقتصادي مرموق وحسب بل يتجاوز ذلك الى النقد الشامل أو ما أطلق عليه بالنقدانيه التي تتعلق بشتى مناحي النشاط الفكري الإنساني..ولم أقرأ نقداً هاما لمؤلفات الروائي الإنكليزي جورج أورويل في أروع ما كتب من روايات على رأسها رائعتاه “مزرعة الحيوان” و رواية “1984”، أقول لم أقرأ نقداً وافياً وعرضاً جميلاً مفككاً الرموز وموضحا الدلالة الهامة كما قرأت للناقد جلال أمين..
كنت أتابع مقالاته في الأهرام، فكتبت له ذات مره عمّا كتبه والده عن الإسلام في فجره وظهره وعصره بعض الآراء التي هي متجنية على الحقيقة وبالذات عن الشيعة متسائلاً هل يمكن لكاتب كبير أن يكتب عن فرقة إسلامية هامة مثل الشيعة دون أن يرجع الى مؤلفات أعلامهم المعرِّفة بفكرهم؟ ولماذا يردد ويستقي ما كتبه من كتب أعدائهم؟! … كان بوسع الرجل أن يرد ومالي ومال الذي كتبه والدي قبل سبعين عاماً؟! لكنني وجدت ماكتبتُ منشوراً كتعقيب على مقاله!!
في آخر لقاء معه في إحدى القنوات قال وبدا عليه الضجر: “لم أشاهد تلفزيون منذ عشر سنوات، وأكتفي بمطالعة الصحف صباح كل يوم، وحين أأتصفح ما أراه في الصحف أسأل نفسي هل تستحق هذه الصحف أن أكتب فيها مقالاتي؟! ستقولين عني مغرور، نعم أنا مغرور.. أي واقع مزرٍ هذا الذي وصلناه!!”
رحل المفكر جلال أمين مأسوفاً عليه يوم 25/8/2018.. واخسارتاه!!
27 أيلول//سبتمبر 2018