17 نوفمبر، 2024 7:22 م
Search
Close this search box.

رؤية الاخر .. رؤية الذات في اعادة كتابة التاريخ العربي

رؤية الاخر .. رؤية الذات في اعادة كتابة التاريخ العربي

وليد خالد احمدجرت محاولات او دعوات من بعد النصف الثاني من القرن العشرين لاعادة كتابة التاريخ العربي. والواقع ان الدعوة لاعادة كتابة التاريخ الحديث ، دعوة هامة جداً . فنحن طوال مائة السنة الماضية نعيش تحت تأثير القوى الاستعمارية ومن خلفتهم في وطننا من منتفعين وعملاء، وكان اهتمام الاستعمار بالتعليم اهتماماً خاصاً ، اعني تلك النظم التي تخلق اجيالاً جاهلة بالحقيقة ، محدودة الثقافة ، معدومة الكفاءة .. وفي بعض اقطارنا العربية كان التعليم محرماً حتى ان هذه الاقطار واجهت مشكلة الكوادر النادرة على ادارة الدولة بعد الاستقلال . والتاريخ الحديث هو تاريخ ازمتنا مع الاستعمار ، وبطبيعة الحال ، فأن اول ما يتجه اليه التزييف والتضليل هو هذا التاريخ .
لكن الغريب ، انه على الرغم من اهمية هذه الدعوة ، فانه ما ان تخرج من حيز الطرح لتدخل في مرحلة التنفيذ حتى تتحول الى ساحة من ساحات الصراع تتقاتل فيها كل القوى التي لا تريد لتاريخنا ان تعاد كتابته مع القوى الراغبة في القيام بدور يساعد الجماهير العربية على زيادة الوعي بتاريخها كمدخل لزيادة فعاليتها في حاضرها ثم تتعثر القضية وتنام في اقبية اللجان او الاجهزة الحكومية حتى تظهر دعوة اخرى توقظها من سباتها الذي ما تلبث ان تعود اليه .
لذلك ، فانني اميل الى ضرورة الاهتمام بالجهود الفردية .. اميل الى تحبيذ الجهود الفردية لانني اريد ان اجد بين يدي القارئ اعمالاً جيدة في هذا المجال وان كان هذا لا يعني اي رفض لجهود المؤسسات ومراكز الابحاث في هذا الصدد والتي ارجو ان تركز جهدها على جمع المادة التاريخية وحصر الوثائق والمصادر وتبويبها وجعلها متاحة للباحثين في هذا الميدان الحيوي . اما ان تقوم هذه المؤسسات نفسها بكتابة التاريخ فهذا عمل لا اظن ان ظروف وملابسات وطننا العربي الراهنة تستطيع ان تكفل له النجاح .
وفي المحصلة النهائية ، ارى حسب رأيي اننا كعرب لا نستطيع التحرك سياسياً في الاتجاه الصحيح مالم تعد كتابة التاريخ الحديث بدقة وامانة وفهم ، فأغلب الاخطاء التي نقع فيها الآن ناتجة عن جهل بحقيقة الاحداث ومسارها في تلك الحقبة الى جوانب عوامل اخرى .
ــ هل يمكن القول ان لدينا الآن دراسات علمية موضوعية حول التاريخ العربي ؟
بداية ، أميز بين مرحلتين في المجهودات التي رافقت كتابة التاريخ العربي ، الاولى ــ واحددها بالفترة التي شهدت دراسة التاريخ العربي ــ الاسلامي الوسيط وروادها ، المستشرقون الذين عنوا بالتراث العربي كلاً . والثانية ــ احددها بالمرحلة التي تصدى فيها الباحثون لكتابة تاريخ العرب الحديث .
اما دراسة تاريخ العرب الوسيط ، فقد جذبت بعض دراسات المستشرقين الباحثين من العرب انفسهم منذ اوائل القرن العشرين. وقد عمد هؤلاء الباحثون الاوائل الى امهات المصادر في التاريخ العربي الاسلامي ، فلخصوها تلخيصاً وسردوا الوقائع سرداً على منهج اسلافهم دون ان يحللوا او يعللوا او يبدوا وجهات نظر شخصية .
وظهرت بعد ذلك فئة وجدت في التاريخ العربي ذخيرة غنية صالحة لتقديم صور ادبية جذابة يمتزج في نسجها الخيال مع الحقيقة . ولعل طه حسين في كتابيه ( على هامش السيرة ) و ( الوعد الحق ) ؛ وجرجي زيدان في مكتبته التاريخية ــ القصصية المعروفة ، وبنت الشاطئ في ( آمنة بنت وهب ) و ( بنات النبي ) .. لعل هؤلاء وغيرهم امثلة بارزة في هذا المنحى .
لكن المنهج التاريخي الحديث لم يلبث ان اخذ يفرض نفسه على المؤرخين العرب ، فشهدت الفترة الاخيرة اتجاهاً جديداً في كتابه تاريخ العرب الوسيط ، يمكن تلمس ملامحه الرئيسة في الدراسات التي عنيت بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، فضلاً عن تاريخ الحركات السياسية ، وقد ساعد انتشار الوعي على ازدهار حركة كتابة التاريخ ، فبين هذا الكم الهائل من المؤلفات ، نجد نسبة ضئيلة تتوفر فيها الرؤية الواضحة لحركة التاريخ .
صحيح انني لا أقر بشكل حاسم بأن لدينا دراسات تاريخية علمية موضوعية موثوق في صدقيتها حول التاريخ العربي لكنني استطيع القول بأن هناك محاولات فريدة رائدة ، فأذا استبعدنا الدراسات الاجنبية وهي كثيرة جداً ومتعددة الزوايا ، نجد محاولات عربية تقترب بدرجات متفاوته من المنهج الصحيح ، بدءاً من مؤلفات احمد امين ( فجر الاسلام ) الى ( ظهور الاسلام ) وصولاً الى طه حسين في ( الفتنة الكبرى ) .
وفي هذه الفترة وما بعدها ظهرت بعض الدراسات مثل ( ثورة الزنج ) لـ فيصل السامر ، والموسوعة الرائدة التي قدمها جواد علي عن تاريخ العرب قبل الاسلام .
وعلى الرغم من كل هذا .. فأنه يتطلب منا ان تكون لدينا دراسات تاريخية على درجة كبيرة من الاستيعاب والشمول وتنطوي على وجهة نظر علمية ومنظور حضاري وفلسفي .. اي ان المهم عندي ان تفرض عليك الدراسة احترامها كعمل يطمح الى الاستيعاب الشامل لحركة التاريخ سواء كان لشعب او لمرحلة .
ما اقصده هنا ، هو دراسة يكون طموحها العلمي في مستوى طموح الشعب العربي الى التقدم والوحدة ، وتتميز برؤية فلسفية وثورية معاً لحركة التاريخ دراسة تبتعد عن الدراسات المجتزأة ولكنها تستفيد في الوقت نفسه من الجهود التي بذلت في الدراسات الجزئية الجيدة .
ــ ان اسلافنا تركوا لنا تراثاً ضخماً من المعلومات الاولية لم تدع جانباً من جوانب الحياة الوسيطة الا وعالجته ، وهذا ما نفتقده عند بعض مؤرخينا المعاصرين .. وتعليلنا يتلخص في :-
النظرة الاحادية الى المصادر .
ظل هؤلاء الباحثون حبيسي عدد محدود من كتب التاريخ العامة .
اما نظرتنا الى المصادر فتتلخص في انه كان علينا ان نتوجه نحو مفهوم اوسع للمصادر بحيث يدخلون في حساباتهم كتب الادب ودواوين الشعر والادب الجغرافي والقصص الشعبي ، وهي ينبوع غني لدراسة المجتمع وحياة الناس اذا اخذت بتحفظ .. ولكن مهما كانت درجة تحفظنا على هذه المصادر / المؤلفات ، فهي تعتبر فتحاً جديداً وتمهيداً لدراسات اكثر علمية .
فمع تفاوت هذه الدراسات في الدقة العلمية واهمية الموضوع المعالج فانها تعتبر اسهاماً اولياً وضرورياً لتهيئة مجال البحث .. ويستطيع الباحث العربي الآن ان يجد مصادر حديثة يطمئن اليها الى حد ما عن الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والفكرية في احقاب مختلفة للتاريخ العربي ، واغلب هذه المصادر من عمل اقسام التاريخ في الكليات العربية . ومع ذلك فقد لا نعدو الصواب اذا قلنا ان الكثير من هذه الابحاث انجز دون تواصل منظم بين المشتغلين بالتاريخ العربي ودون حوار علمي او تقسيم منهجي .
ما اقصده من كل ما تقدم .. هو دراسة يكون طموحها العلمي في مستوى طموح الشعب العربي الى التقدم والى الوحدة ، وتتميز برؤية فلسفية وثورية معاً لحركة التاريخ دراسة تبتعد عن الدراسات المجتزأة ولكنها تستفيد في الوقت نفسه من الجهود التي بذلت في الدراسات الجزئية الجيدة .
اي لا نكتب تاريخ امتنا العربية من وجهة نظر الحكام ولكن من وجهة نظر الجماهير الشعبية ، لا تسلم بالمسلمات الرائجة في سوق التاريخ كالعملة الماسحة لا يعرف احد ما مصدرها او قيمتها ، ولكن الجميع يتبادلونها ولا تفتقر الى المنهج العلمي الصارم ، لا تفصل حركة التاريخ السياسي عن حركة الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وهي تؤرخ لامتنا العربية ولا يكون الشمول فيها مبرراً للتسريح او السطحية . هذا النوع من الدراسات التاريخية لا يزال مفقوداً في المكتبة العربية .
ـــ لكن من حقي ان اتساءل في هذا الصدد ، هل كتب احد من مؤرخينا دراسة في مستوى طموح تاريخ الطبري على الرغم من كل التحفظات على منهجه ورؤيته ؟
من الناحية العلمية ، مستوى تحفظي على هذه الدراسات .. تكمن في ان تطور علم التاريخ والعلوم الانسانية الاخرى التي ترفد الدراسة التاريخية تضع المؤرخ المعاصر في وضع يحسده عليه المؤرخ القديم ، لكن ما اعنيه هو طموح هذه الدراسات للاستيعاب والشمول .
* اختلال المناهج وقواعد تحليلها
في اكثر الدراسات الجيدة لا حظنا ان هناك مشاكل اساسية تتخللها ، واثناء قراءتنا لهذه الدراسات ، عثرنا على اختلال مناهجها او قواعدها التحليلية ، بسبب النظرة الجزئية او الاحادية في معالجة موضوعاتها ، وهي سمة تظهر في البدايات دائماً ، كالتقيد الحرفي بوجهة نظر في فلسفة التاريخ ومن امثال هذا العيب ، التجاوز عن النظر الشمولي لحركة التاريخ العربي ، ومعالجة موضوع البحث من زاوية واحدة ، كالصراع الطبقي مثلاً ، باعتباره اداة اساسية لتفسير وفهم حركة التاريخ ، وغالباً ما ينحصر الباحث في الفترة التي يعالجها ويسقط عليها تصوراته العصرية دون ان يلقي بالاً الى ان هناك وحدة لمسار حركة التاريخ العربي تلعب فيها التحديات الخارجية والتخلخلات الداخلية والمفاهيم الخاطئة دوراً اكثر اساسية من التوتر الطبقي ، بل لعل الصراع الطبقي الجوهري والمحرك للمسار التاريخي في هذا الزمان كان بين قوى اجتماعية اخرى غير التي اتجه اليها نظر الباحث وعوامل تخلف عامة قد تصل بالاختيارات الخاطئة لافكار مطروحة ليست مناسبة للتحرك او للمواجهة .
*ماذا نقصد بهذه الاختيارات ؟
سنجد في التاريخ العربي افكاراً صحيحة لكن المتصدين للقيادة ـــ بكتلهم المتصارعة ـــ تجاوزوها الى اختيارات ليست صحيحة ، وهذا ــ مثلاً ــ عنصر يتجاوزه بعض الباحثين لتركز اهتمامهم على عنصر آخر كالصراع الطبقي بين طبقتين قد يكون صدامهما في هذه المرحلة ليس هو الاساس في مسار الحركة .

* النموذج الحضاري
في تراثنا العربي اسهامات في خلق النموذج الحضاري عبر العصور ، في مرحلتنا المعاصرة كيف نوظف هذا العطاء الانساني لصالح حركة التجديد والنهضة العربية وتعميق منجزاتها الفكرية والمادية ، وهي تخوض اليوم معركة التحدي الحضاري ؟
اولاً ــ كل اسهام هو وليد مرحلته التاريخية ، وكما اننا لا نستطيع ان نمده الى زماننا المعاصر بعد ان انقطع ، لا نستطيع ان نرجع نحن الى زمانه .. اننا في الحالتين نكون مخطئين . ولكن اعتقد ان تاريخ أية امة هو حركة متصلة تتوالد فيها المواقف بالسلب والايجاب ، تختفي الافكار وتعود الى الظهور معدلة وفق الظروف الجديدة او تبرز افكار جديدة تماماً لافكار تبين لها جذوراً قديمة .
ثانياً ـــ ان غياب الدراسة التاريخية الشاملة لا يمكن معرفة الاضاءات المهمة والاسهامات الجوهرية في خلق النموذج الحضاري عبر العصور .. ذلك :- ان الدراسة العلمية الشاملة لتاريخنا مهمة ليس فقط لانها ستمكننا من معرفة ماضينا بشكل جاد . ولكن ايضاً لانها ستكون هادياً لنا في عملية اعادة استكشاف هذا الماضي واعادة تقييمه بصورة يتحول معها ماضينا وتراثنا الى طاقة دفع خلاقة في حاضرنا لأن استيعاب الماضي يمكننا من فهم الحاضر واستشراف المستقبل بفهم وبصيرة . فمعرفتنا بالماضي ليست هدفاً في حد ذاتها وليست مصدراً يزودنا بأمجاد قديمة نستنيم الى مفاخرها او نستخدمها لتبرير عثرات الحاضر ، ولكنها المرايا التي ينعكس عليها الحاضر ، ولهذا فاننا ان كنا سنستلهم من الفترات والاسهامات المضيئة في ماضينا الامل والقوة فأن علينا ان نستلهم من التجربة الانسانية العريضة فهم حركة الجماهير الشعبية نحو المستقبل وان نستفيد من تجارب الشعوب الاخرى مع الثورة والتقدم .
من الممكن القول ، بأن لحركة النهضة والانبعاث العربية الجديدة ، لا يمكن اعتبارها حركة سياسية بالمعنى الضيق تحمل معنى التحرر من اشكال السلطوية والقمع وكبح الحريات المختلفة واعادة تنظيم المجتمع على اسس قويمة عادلة .
ان هذا جانب من جوانبها او طريق اليها ، هي حركة بعث جديد ونهضة تنطلق دوافعها من تسرب التراث الى كياننا النفسي وكونه في خلايانا الواعية وغير الواعية ، ومن المواجهة المعقدة التي تمت بيننا وبين الحضارة الغربية التي تمثلت في اشكال عدوانية من جهة وفي اشكال تثويرية من جهة اخرى ، ومن تطورات اجتماعية واقتصادية حديثة .
يعني مما تقدم ، ان هناك تعارضاً واختلافاً بين نهضتين ، لكن اين سنجد مرتكز هذا الاختلاف وما هي طبيعتهما ؟
ان هذا الاختلاف وارد ، فالنهضة الاوربية انطلقت من فترة تخلف حضارية ترجع الى ان قبائل بربرية متخلفة ظلت تدق وتدك اسوار الامبراطورية الرومانية المسيحية دقاً متواصلاً ، فساعد تخلخلها الداخلي على مزيد من التخلخل الى ان تم تقريباً التدهور والانحلال وظهور مراكز متعددة في الانحاء الاوربية المتبربرة ، ومع ذلك فأن تفاعلاً حياً تم بين القبائل الاوربية المتبربرة وبين الحضارة الرومانية اليونانية لم تظهر آثاره الا عندما احتكت هذه القبائل في مراكزها الجديدة بالحضارة العربية . وكان من الطبيعي ان ترتد النهضة الاوربية الى التراث اليوناني الروماني وان تستمد منه افكاراً ومفاهيم تساعدها على التقدم .. وكانت الحضارة العربية هي محرك التفاعل الجديد والمسهمة فيه .
اما النهضة العربية فعلى العكس من ذلك ، انها تنطلق في عصر معقد ، فخلال مائة السنة الماضية قد انجز في العلم والتكنولوجيا والفن اكثر مما انجزته البشرية في تاريخها كله ، ونحن لسنا قبائل بربرية تدك اسوار امبراطورية قديمة منهارة ، وان كانت الحضارة الاوربية بوجهها الرأسمالي الاستغلالي قد اوقعت نفسها في طريق مسدود .. اننا لسنا كذلك .. أنما نحن امة تبلور فيها منذ تاريخها القديم ، الاحساس بالرسالة ، احساس بألتزام اممي ، وامتلكنا دائماً نظرة شاملة تتخطى اقاليمنا الى العالم كله . وفي الوقت نفسه وقعت علينا معاناة كل الجوانب السيئة من الحضارة الغربية الحديثة ، فنحن نمتلك بحكم التكوين الحضاري الحس الانساني العام ، ونمتلك ايضاً كل منجزات الحضارة الحديثة على الجانب النظري في بعض النواحي ، وعلى الجانبين النظري والتطبيقي في نواح آخر .
ان عجز الحضارة الغربية ووجهها القبيح نراه نحن بكل بشاعة نتيجة لمعاناتنا له ، نراه بما لا تستطيع ان تراه الشعوب الاوربية ، لأن ما أنعكس علينا قبيحاً لم ينعكس بنفس صورته على هذه الشعوب .
ثالثاً ـــ ان المؤرخ لا يكون مجرد راوية امين لوحدات الماضي فقط ، فهذا واجب من واجباته فحسب . ان الواجب الاكثر اهمية واصالة في ان يكون المؤرخ طرفاً نشيطاً في تفسير احداث عصره تفسيراً واعياً .
واذا كان من واجب المؤرخ ان يكون بين القوى المنظمة للحياة الحاضرة والمساعدة على دفعها الى الامام ، فأن مؤرخينا مدعوون الى ان يسلطوا الضوء على الحلقات المضيئة والعلامات الدالة على حيوية الحضارة العربية كي نجعل من التاريخ حافزاً من حوافز نضالنا ونهوضنا الحديث .
ــــ هل يعتبر التاريخ منجزاً من منجزات الحضارة ؟ وما الفرق بين التراث والتاريخ ؟
ليس التاريخ منجزاً من منجزات الحضارة ولكنه كل منجزات الحضارة ، انه الحصيلة النهائية لكل الصراعات والتناقضات الاجتماعية . انه الحياة الانسانية في مجتمع من المجتمعات بكل ابعادها الحضارية المختلفة وقد اصبحت ماضياً اي تاريخاً . وهو ايضاً جزء من حاضر الحياة الانسانية بمعنى ان الحاضر استمرار للماضي .
والفرق بين التراث والتاريخ ، هو ان التراث جزء من التاريخ بمعناه الشامل . ولكن الدراسة التاريخية الجيدة وحدها هي جزء من التراث ، فتراث اية امة هو جزء من تاريخها وهو الجزء النظري من هذا التاريخ انه انجاز هذه الامة في المجالات الثقافية والفكرية والعلمية ..
ويختلف التاريخ عن التراث ، فالتاريخ هو سجل تحرك مجتمع من المجتمعات وحظه من الفشل او النجاح . اما التراث فهو جماع ثقافة الامة ، هو شخصية الامة ذاتها ، هو عقلها وروحها ومزاجها والتاريخ ، ما هو الا تجلي التراث في الاحداث والوقائع .. ومن هذا تبدو العلاقة بين التاريخ والتراث ، فكما ان شخصية الامة تحدد نوع فعلها التاريخي او نوع استجابتها للتحديات الخارجية والمحلية البشرية والطبيعية ، فان الفعل يشكل الشخصية ايضاً .
وقديماً قال ارسطو الانسان هو فعله ، اي ان شخصية الانسان تتحدد بافعاله والفعل حين يصدر عن مجتمع ما فهو دال على هذا المجتمع من ناحية ومؤثر فيه من ناحية اخرى .
فأنا انطلق برأيي من ان افعالنا تخلقنا وتشكل شخصيتنا كما اننا بافعالنا نشكل حركة حياتنا ومسارها . ولذلك يصبح التاريخ جزءاً من التراث وملمحاً من ملامح حياتنا .
من هنا تبدو خطورة كل قرار نتخذه اننا لا نحل به مشكلة او نردع به تحدياً بل في نفس الوقت نرسم به شخصيتنا الآن وفي المستقبل وعلى قدر استيعابنا للظروف المحيطة وصحة اختياراتنا نبني شخصيتنا وننميها ونطورها او نزيدها ضعفاً او هزالاً وتشويهاً .. وهذا لا ينصرف بالطبع الى شخصية هذا الجيل وحده بل الى شخصية الاجيال التالية ايضاً .. ولعل في هذا ما فيه من الخطورة .
كما ان حروب هذه الامة وقضايا صراعاتها الطبقية او الدينية او العرقية او الاقليمية وثوراتها وتجاربها الاقتصادية والسياسية .. تصوغ مع تراثها النظري وتاريخها .. وقد تصبح كل هذه الاحداث العملية جزءاً من التراث الحضاري والثقافي للأمة اذا انتقلت من مرحلة الحدث الى مرحلة البنية المكونة لوعي الامة .
* الى اي حد المستشرق فهم بعمق طبيعة تاريخنا العربي ؟
قبل الاجابة على هذا السؤال ، لابد من الاشارة الى مسألتين . اولاهما ـــ ان الحقيقة المجردة في مجال العلوم الانسانية لا وجود لها لأن الحقائق في هذا الميدان ترى خلال منظور ووجهة نظر قد تتضح حتى يمكن لمسها ، وقد تتخفى فيصعب استخلاصها . وثانيهما ـــ ان اي دارس يدرس بلداً وثقافة غريبة عنه لا يستطيع ان يرى هذا البلد وتلك الثقافة الا من خلال مرشح خاص هو بلده وثقافته هو مهما حاول التخلص من هذا المرشح ومهما ادعى التجرد والموضوعية في تناوله لهذا الموضوع الغريب عنه .
والتعليل الاجتماعي الذي يقف وراء هذا المنطق ، هو الانسان ذاته كائن اجتماعي بالمعنى الواسع للكلمة بصورة يظل فيها لمكونات واقعه وبالتالي شخصيته دور في صياغة رؤاه وتصوراته . صحيح انه قد يستطيع تجاوز رؤى واقعة وقد يتمرد عليها لكن ذلك يتم خلال عملية جدلية لا ينتفي معها كلية وجود هذا المرشح الثقافي بين الدارس وموضوعه الغريب عنه .
ان المستشرقين يدرسون واقعنا ويحاكمونه وفق المناهج المستخلصة من واقعهم هم وثقافتهم هم ، بل كانوا ينطلقون في معظم الاحيان من مسلمة ضمنية بان واقعهم هم هو المثال وان الحكم على واقع أية ظاهرة اخرى يتم بقياسها بهذا المثال ، وقد يكون مفهوماً من خلال الابعاد المختلفة لفكرة المرشح الثقافي ان تتبنى دراسات المستشرقين هذا الموقف ولكن غير المفهوم وغير المعقول هو ان ينطلق الكثير من دراساتنا نحن من هذا المنطلق ذاته وان محاولتنا لتفهم خصوصية أية ظاهرة ندرسها اقل بكثير من محاولتنا لقياس الظاهرة وفق مقاييس النموذج الغربي.
بشكل عام ومهما تكن الظروف ، فان ابحاث المستشرقين عن تاريخنا لم تكن مكتوبة لنقرأها ، كان العالم الغربي يتفتح على العالم من جديد وكان يعرف كل شيء عن تاريخ وحياة الشعوب والامم الاخرى ، واعتقد ان هذا هو احد الاسباب الرئيسة لنشؤ حركة الاستشراق ونموها .
ان تعرف الغرب على تاريخنا كان يحمل في طياته بعدين : الاول ـــ معرفة حقيقة امتنا ، والثاني ـــ تبرير السيطرة علينا واعطاء كلمة ( الاستعمار ) معنى حضارياً خادعاً . لذلك فان فيه من ( العلم ) القدر اللازم من روح البحث عن الحقيقة وفيه من التبرير القدر اللازم لاخفاء الطابع البربري لتحرك الجيوش واستيلائها على مقدرات البلاد المغزوة .
ان ابحاث المستشرقين تتفاوت من حيث درجة الانتماء الى العلم او التبرير ، فهناك من المستشرقين من احبوا العرب وتاريخهم كل على طريقته ، وهناك ايضاً المؤسسات الاستعمارية التي تستغل علماء الاستشراق في بلادها في الدراسات والاستشارات المختلفة التي نوضع على اساسها خطط السيطرة الاستعمارية .. وهذا لا يمنع ان نعيد النظر في تاريخنا بالاستفادة من الجهود الضخمة التي بذلها المستشرقون الامين منها وغير الامين ، علينا قبل ذلك ان نفحص هذه الدراسات الاستشراقية فحصاً جديداً وان نقيمها التقييم الصحيح .
وبالطبع ، ومهما تكن للقدرات والخبرات التي تمتع بها المستشرقون ، فأن احداً لا يستطيع ان يُقيَّم تاريخنا ويعيد فحصه واثباته اكثر منا نحن العرب . واعتقد ان لدينا ابحاثاً معاصرة اعمق وادق من دراسات المستشرقين الجادة، وهو امر طبيعي ومنطقي ، وحين تتوافر لدينا الاجهزة العلمية لتنظيم المكتبات واصول البحث وفقاً للتطورات الحديثة ، فان مجال ابداعنا سيكون المرجع الاساس لكل الدراسات العربية في العالم .
لم تكن دوافع الاستشراق نبيلة كلها ، فأذا كانت هناك جماعة من المستشرقين دفعتهم الى دراسة التاريخ العربي والتراث العربي بصورة عامة دوافع علمية صادقة فأن لفيفاً آخر وخاصة بين المستشرقين الأول ، كانت تحدوهم الى دراسة التاريخ العربي دوافع التبشير من جهة واهداف خدمة المصالح الاستعمارية من جهة اخرى . وكان لتعصب الغربيين القومي وحماستهم الدينية وجهلهم بتاريخنا خلال العصور الوسطى أثره الفعال ايضاً .
وظل الامر كذلك حتى عهد قريب بحيث لم يكن نصيب الاسلام من محاضرات اغلب المستشرقين التي استهدفت تفهم الديانات العالمية الكبرى الا معالجة قاسية وجافة عبرت عنها اراء المستشرقين .. وعلى الرغم من التقدم الكبير في الغرب نحو تفهم الاسلام من جانب المستشرقين ، فأنه ما تزال الاحكام القديمة والافكار المغرضة تلازم مواقفهم من الاسلام ، وهذا ما لا يمكن اغفاله عند تقدير مؤلفاتهم .
لطالما كان الفكر العربي هدفاً لحملة ظالمة من جانب بعض المستشرقين ، ففي محاضرة القاها الفيلسوف رينان 1882 ، زعم ان الاسلام يقف ضد العلم والفلسفة وحرية التفكير وامام الردود التي تعرض لها رينان آنذاك ، فأنه عدل اراءه فقال ـــ ان الاسلام الأصيل لم يكن ضد العلم وانما تحول المسلمون ضد العلم والفلسفة حين خرجوا على روح الاسلام .. غير ان هناك جوانب ايجابية في حركة الاستشراق ، فقد اسهم كثير منهم في احياء اللغة العربية والتاريخ العربي وفي نشر امهات المصنفات التي عثروا عليها في مظانها :-
كرس دوزي نفسه لدراسة تاريخ العرب في اسبانيا وكتابه ( تاريخ مسلمي اسبانيا ) دلل على صبره في قراءة وتقصي المصادر العربية واللاتينية والاسبانية المخطوطة .
وكتب بلاتيوس عشرات البحوث في الفلسفة العربية وعن الاصول العربية للكوميديا الالهية .
ويعتبر كراتشكوفسكي من المتحمسين للحضارة العربية وتراثها في كتابه (الادب الجغرافي عند العرب)، كما انه ترجم القرآن الكريم الى الروسية .
وكان فلوغل ذا تأثير بارز في نشر المصادر التراثية كالفهرست لابن النديم وكتاب التعريفات للمرجاني وكشف الظنون لحاجي خليفة .. الى غير ذلك من الاسماء المهمة في تاريخ الاستشراق .
اما اليوم فقد تغير مفهوم الاستشراق ، فلم يعد دعوة قائمة في احضان الغرب او وسيلة لترويج التعصب العنصري او الديني . اما الى اي حد يمكن لباحث مستشرق ان يفهم طبيعة التاريخ العربي . صحيح ، ان المستشرقين نبتوا في بيئة مغايرة وهم ابناء ثقافة اخرى وان منطلقاتهم تبدو مختلفة عن منطلقات العرب في فهم تاريخهم ، الا ان دراسات كثير منهم تستحق التقدير العالي لا من اجل الاحكام التي توصلوا اليها بل بسبب المنهج السليم الذي اتبعوه في التأليف وبسبب صبرهم في تقصي الحقائق وجمع المصادر ودراستها دراسة مقارنة، وانا من الداعين الى ترجمة الدراسات الجادة التي وضعها المستشرقون عن تاريخنا وحضارتنا ليطلع عليها ابناء العربية ولكي يستطيعوا ايضاً ان يردوا على الاحكام الخاطئة التي جادت فيها .
اما عن ارتباط حركة الاستشراق بالظاهرة الاستعمارية ، فأنا أؤيد هذا الرأي في محاولة من العلم لأن يكون في خدمة السياسة ، كما هو في معظم الاحيان تبين لنا ان علينا ان نتناول الظاهرة الاستشراقية كلها بشيء من الحذر .. غير ان هذا الحذر لا ينفي وجود بعض الجوانب الايجابية في هذه الظاهرة وفي دراسات المستشرقين .

أحدث المقالات