بين النحل وتوارد الخواطر ونظرية التأثر والتأثير
1 – المقدمة :
الغيرة والحسد ، وإن جمّلتَ القول فقل عنهما : الغبطة والتنافس ، هذه طبائع جُبل عليها الإنسان من أجل الصراع الحيوي – ولا أعرف سلوك الجمادات – المتعدد الجوانب على هذه الأرض ، وإذا عجز عن الفعل (الأنسان العاجز أو المتعاجز) للحاق بالإنسان الآخر يلجأ للنفاق والقيل والقال لتخفيف عبء ما يختلج في نفسه من تراكمات الصراع النفسي المكبوت بالعُقد ، أو ما يعانيه من كسل وإهمال ، فلا هو يركد مثل الحكماء ويسكت ويتفهم الأمور بعمق ، ولا هو يطفو مثل عامة الناس للعيش بعفوية ولا يبالي بهذه الأشياء لأنها ليست من شغله أو أكثر وقتاَ مما يتوفر لديه للقيام بها ، وترى هذا لصراع في كل المجالات المادية والاجتماعية والقيادية والقكرية والإبداعية ، والصراع الشريف مشروع لكل الناس ، فالناس سواسية في قابلياتهم ، لو استغلوها أحسن استغلال ، ونظموها أفضل تنظيم ، ولكنهم يحتاجون إلى عزيمة جبارة ، و إصرار عنيد ، ومواصلة مستمرة ، ولـِ (الأنا ) ، وإبراز الذات دور فعال للنجاح فيها ، و (الإرادة ) القوية هي التي تحرك (العقل) وتسيره وتفعّله ، كما ذهب شوبنهور الألماني (ت 1860م) ، وما (عقل ) الجاحظ والمعتزلة والمتنبي والمعري إلا كناية عن ( الإرادة ) ، فالناس كلهم يمتلكون العقول ، ولكنهم لم يستغلوا إلا الجزء اليسير من قدراته الهائلة بسبب ضعف الإرادة ، بل يعتبر الدكتور الوردي ، وربما استعار المعنى من ( الفريدأدلر- 1937م) ، إن العقل عضو كالناب والعين والعضلة وأشواك النباتات ، وإنما يتميز عند من يحسن استخدامه ويطوره ويعوّده ، ومن هنا وردت كلمة عالم البيئة الأمريكي في العصر الحديث الحديث ( جون واسطن) مؤسس المدرسة السلوكية العلاجية (تأسست 1913م) بقوله : «أعطوني عشرة أطفال أصحاء أسوياء التكوين فسأختار أحدهم جزافًا وأدربه فأصنع منه ما أريد: طبيبًا أو فنانًا أو عالمًا أو تاجرًا أو لصًا… بغض الطرف عن ميوله وسلالة أسلافه ” ، ومن هنا أيضاً جاءت كلمة ثلثي العبقرية كدٌّ وتعبٌ ، وأنا أزيد حتى 80% ، لا يكفي الإنسان أن يمتلك بوادر العبقرية وراثياً – إن صح التعبير – وتبقى نقطة لا تنمو ولا تثمر إلا بالسعي والإصرار.
إذاً الطبائع الإنسانية والصراع وحب الجاه مادياً واجتماعيا وعلميا وابداعيا ، تقف وراءه الإرادة الشريفة التي منحها الله لعبده ، يقول حافظ ابراهيم :
فــإذا رزقــت خـلـيقة مـحـمودة *** فـقـد اصـطـفاك مـقسّم الأرزاق
فـالـناس هــذا حـظـهٌ مــالٌ وذا*** عــلـمٌ وذاك مــكـارم الأخـــلاقِ
2 – سرقة أعمال المبدعين ونحلها لمن لا يستحقها ويفقهها :
إنّّ بعض الناس من أنصاف القادرين والمثقفين ، ممن يريد الشهد دون إبر النحل ، يحاول الوصول إلى الشهرة العلمية أوالإبداعية الخالدة دون طرق شرعية – شهرة المغنيين ولاعبى الرياضة وملكات الجمال غير خالدة لانها عضلية وعضوية – والشهرة ما هي بعمل هين دونها الأهوال والصواعق والأعاصير، ومن هؤلاء يتخيلون سرقة أعمال الغير لتكفيهم شر القتال والصراع ، وينسون التواصل والإصرار إلى آخر رمق من الحياة ، وهذه الظاهرة قديمة قدم الإبداع الأدبي والعلمي من قبل الإنسان ، يقول الأساذ ( ريوقي عبد الحليم – المجمع الجزائري للغة العربية) في مدونة (الأدب واللغة) : ” فالسّرقة الأدبيّة قديمة قدم الإبداع الأدبي “فأسطورة أوديب [على سبيل المثال هي] أسطورة قديمة ألّفها ” هوميروس” في نصف القرن التّاسع قبل الميلاد في النّشيد الحادي عشر من ملحمة الأديسيا ، وفي القرن الخامس قبل الميلاد جاء ثلاثة شعراء يونانيين كبار هم: ” أسخيلوس”،”سوفوكليس” و”يوربيديس”، وأعادوا كتابتها لإعجابهم بها، وأعادها كتاب كثيرون مثل الشّاعر الإنجليزي “دريدن” في القرن السّابع عشر بعد الميلاد، والشّاعر الإيطالي “الفييري” في القرن الثّامن عشر بعد الميلاد، أمّا الفرنسيون فقد فتن شعراؤهم، وكتابهم بقصّة أوديب منذ أواخر القرن السّادس عشر إلى أن وضع كورناي قصّة تمثيلية لأوديب فتن بها معاصريه” (1) ، ويؤكد قوله بأنها سرقات بمواصلته الكلام :
” والسرقات الأدبية عرفت طريقها إلى الفكر العربي منذ العصر الجاهلي وحسبنا هنا قول طرفة بن العبد ( ت حوالي 72 ق هـ) :
ولا أغير عـلى الأشعار أسرقها **عنها غنيت وشرّ النّاس من سرقا
وإن أحسن بيت أنــــت قائـــله*** بيت يقـــال إذا أنشــدته صـــــدقا
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه في شعره الذي قاله قبل إسلامه (ت 50هـ) :
لا أسرق الشّعراء ما نطقوا بل ***لا يوافق شعرهم شعري ” (2).
( النجوم بين الأشطر من وضع كاتب هذه السطور) .
رأي الأستاذ (يروقي ) حسب وجهة نظري المتواضعة عليه مؤاخذات كثيرة ، وفق هذا العصر والعصور القديمة ، هذه ليست بسرقات ولا توارد خواطر ولا هم يحزنون ، فهوكرر كلمة السرقة والسرقات مرتين ، و الأساطير كتب عنها كثير من عباقرة الدنيا بلغتهم وأسلوبهم وبثوا فيها من روحهم وأنفاسهم لتحول إلى إبداع جديد ، وتطور التجديد حسب ملائمة عصورهم ، وأذواق ناسهم ، وقد ذكرنا في حلقة أخرى ٌقول المازني ” وتعجبني كلمة كتبها جُوته إلى معاصره وزميله شِلـّر، قال :
” لقد عادت النفس فحدّتني أنْ أنظم في قصة ” وليم تل ” قصيدة ، ولست أخشى عليّ من روايتك . ولا بأس عليك منـّي ، ولا بأس عليّ منك ” . (3) ، والقصة المسرحية لشيللر تتكلم عن اسقلال سويسرا ، وبطلها ( وليام تل ) ، كتبها قبل (200)عام ، أي بعد (500) عام من التحرير والبطل السويسري.
وقل لي رجاء كم من العرب والمسلمين كتبوا عن سيرة النبي (ص) ، وكل سيرة عمل تاريخي وديني وإبداعي مستقل ، هل هذه سرقات ؟!
أبدأ من سيرة ابن هشام ، ثم هذبها عبد السلام هارون ، وسيرة ابن كثير ، وسيرة ابن إسحاق ،و جوامع السيرة لابن حزم الأندلسي ، وسيرة السيد محسن الأمين ، وعلى هامش السيرة د . طه حسين ، وحياة محمد للمستشرق الفرنسي أميل در منغم ، وحياة محمد د. محمد حسين هيكل ، وعبقرية محمد للأستاذ العقاد ، ناهيك عن كتب المغازي ، هذه ليست كتب سرقات ولا توارد خواطر ، كل واحد بكتب بإسلوبه الإبداعي ، تقرأها كلها و لا تمل وتقول هل من مزيد؟!
وكذلك من كتبوا عن جلجامش وانكيدوا والإمام(ع) ، الخليفة عمر بن الخطاب والمتنبي وأبي العلاء المعري عشرات المؤلفات والترجمات ، هل هذه سرقات ، وتواردخواطر ؟
كلا هذا إبداع لا تشوبه شائبة ، بشرط عدم سرقة تشكيلات الصياغة البلاغية ، والمعاني والأفكار الخاصة .
أما الشعر الذي ذكره الأستاذ ، فليس فيه مصداقية لسرقة ، لكن القيل والقال والحسد والصراع للكسب المادي والجاه يدفعهم لدفاع عن النفس وهجاء بقية الشعراء في عصور كان للشعر منزلة اجتماعية رفيعة ,ربما تأتي كلمات أو جمل من غـَرف بحر اللغة دون تقصد مشابهة لمن سبق أن استخدمها ، ومن هنا تأتي نصيحة الأصمعي لأبي نؤاس أحفظ عشرات الآلآف من أبيات الشعر ، وحفظها خلال سنتين ، ثم قال إذهب سنتين لنسيانها ، ولما حصل على ثروة لغوية ، قال له أبدأ بالنظم الآن ، ولكن من البديهي أن تتوارد كلمات أو جمل مما حفظ في شعره دون تقصد ، وقد تقحم الذهن خواطر متشايهة – كما سنتكلم في النقطة الثانية من هذه الحلقة ، وأنا أتكلم عن الشعراء الشعراء ، وليس عن أنصاف الشعراء ، وأنصاف الموهوبين , ولكن قبل الأنتقال أنقل لكم هاتين الحادثتين .
3 – أ – بين بشار بن برد وسلم الخاسر ..!! :
تعارف نقاد الأدب قديماً وحديثاً على أن الشاعر (السارق) الآخذ من زميله معنى ، وأجاد فيه ، وأحسن عرضه ، وأضاف فيه ، فالسرقة تكون محمودة ، فهذا سلم الخاسر بن عمرو بن حماد البصري عجبه بيتاً لبشار بن برد يقول فيه :
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ***وفاز بالطيبات الفاتك اللهجُ
فصعد (سلم الخاسر) الرابح , واستلهم المعنى بإيجاز وبلاغة قائلاً :
من راقب الناس مات همّاً *** وفاز باللذة الجسورُ
وغضب بشار كثيراً ، لأن الناس أخذوا يرددون بيت (الخاسر) ، وعبروا بيت بشار ونسوه ، وذكر الجرجاني في (الوساطة) قول بشار ، وسرقات حماد لشعره :
إذا أنشد حماد*** فقد أحسن بشار
هذا قول مجاملة ، ما زال شطر سلم الحماد يكتب مثلاً في كل مكان (من راقب الناس مات همّاً) .
3 – ب – قصيدة الطين لإيليا أبي ماضي : طه حسين يثني عليها ، والعزيزي يتهمه بسرقتها من الشاعر البدوي علي الرميثي معنىً وتشكيلا …!!
من المضحك المبكي ، إن الدكتور طه حسين قد نقد ديوان إيليا أبي ماضي (الجدوال) في الجزء الثالث من (حديث الأربعاء) يشكل فيه من القساوة الشديدة ، فيرى أن شعره مضطرب المعاني ، ضعيف الموسيقى ، رديء اللغة ، والقضية الوحيدة التي أثنى عليها هي قصيدة (الطين) ، أعجب بسمو ها الإنساني ، وجعلها في مقدمة شعر المحدثين ، ولكن أخذ عليها قافيتها (الدال الساكنة) التي ينقطع عندها النفس ، ولكن هذه القصيدة الرائعة ، يقول عنها الباحث الأردني روكس بن زائد العزيزي عام 1954 م ، إنها مسروقة المعاني كاملة (محال توارد خواطر) من شاعر بدوي مغمور يدعى (علي الرميثي) ، وأذيعت هذه القصة من (محطة الشرق العربي) ، وتناولتها صحف عديدة لا تقل عن خمس عشرة صحيفة ، وإليك بعض المقارنة بين القصيدتين التي أوردها العزيزي بيتاً بيتاً ، وعليك الحكم والفصل،أما أنا فرأيي بالطبع من رأي (عزيزي) ، ولوأنني أجلّ (أبا ماضي) بأعظم الأحترام ، ومعجب بشعره شديد الإعجاب ، ولكن أقرأ وقارن :
الرميثي: يا خوي ما نحن فحمة ما بها سنى *** ولا أنت شمس تلهب الدو بضياه
أبو ماضي : يا أخي لا تملْ بوجهك عني *** فما أنا فحمة ولا أنت فرقدْ
الرميثي: لصار ما تأكل ذهب لو تبلى *** يا خوي شو نفع الذهب لو تقناه
أبو ماضي : أنت لا تاكل النضار إذا جعتْ*** ولا تشرب الجمان المنضدْ
الرميثي: نحلم حلوماً حلوة يوم نرضى*** وتمــــر يوم السعد ما بان طاه
أبو ماضي :ولقلبي كما لقلبك أحلام ***حسان فأنها غير جلمدْ
الرميثي : كلنا للترب نمشي ونحيا ***ولا توهمك يا الضبع نفسك يمشاه
أبو ماضي : أنت مثلي من الثرى وإليه ***فلماذا يا صاحبي التيه والصدْ (4)
وهكذا تستمر القصيدة حتى الآخير بسرقة المعنى كاملاً ، وأحيانا كثيرة الألفاظ ، والعزيزي كما هو معروف اهتم بالتراث البدوي ، وإن والد الشاعر أبي ماضي كان يتاجر مع بدو منطقة مادبا موطن الشاعر الرميثي ، وكذلك اكتشف الدكتور أحمد زكي أبو شادي مصادفة إن قصيدة أبي ماضي (هي) ليست سوى ترجمة حرفية لقصيدة بالأنكليزية تحت عنوان (نخب الفارس) ، وأخيراً من الإنصاف أن نذكر أن العزيزي هو صديق مخلص للدكتور أبي شادي خصم الشاعر أبي ماضي في المهجر .(5)
4 – فذلكة الأقوال الباررزة:
إن سلم الخاسر بن حماد ، لم يسرق سوى معنى واحد ونجح في مبناه ، لأن الشعر ليس معنى فقط ، وإنما معنى ومبنى ، وغفر النقاد له واستحسنوه و أجادوه ، ومن هنا لو الشاعر المترجم للأعمال الأدبية يعلن عن ترجمته ، قد ينجح العمل أكثر مما هو مكتوب بلغته الأصلية ، فللتشكيل أثر فعال ومهم في العمل الإبداعي ، ولكن سرقة أبي ماضي للمعنى من لغة عربية حتى أنها تشمل بعض الألفاظ ، وبالرغم من إصرار أبي ماضي أن القصيدة غير مسروقة ، ولكن العزيزي حتى أواخر عمره (1983) ورجليه في القبر يصر على صحة روايته ، ويدافع عنها ، مهما يكن من أمر ، فإيليا أ بو ماضي من شعراء العرب الكبار ، لا ريب قي ذلك.
5 – توارد الخواطر والسرقات اللاسرقات !!:
مما لا شك فيه أنّ الأفكار والخواطر تتولد في أكثر من عقل ، وتختمر في عدة أذهان مادام الإنسان هو الإنسان ، والصراع في الحياة هو الصراع من أجل البقاء ، والتنافس حول المادة والجنس والجاه الاجتماعي ، ومحاولة تفهم سر الحياة ولغز وجودها ، والموت وما بعده ، هذه مجتمعة هي الشغل الشاغل لديه ، وخصوصاً في العقول الواعية المتأملة ، ربما سرالوجود وقضية الموت تأخذ حيزاً أوسعاً لدى الفلاسفة والمفكرين ، وينظرون بعين البصيرة للصراع الفاني ، وربما تنبثق إلى الوجود بمظهر واحد أو عدة مظاهر لها ماهية واحدة في عصر واحد أو عدة عصور متقاربة أو متباعدة لنفس الأمة أو من أمم مختلفة ، ولا ريب في البيئة الواحدة قد تكثر توارد الخواطر نفسها لتشابه الظروف الموضوعية (لكلِّ امرىءٍ من دهره ما تعوّدا) .
وقد يستهوي شاعر أ و كاتب فكرة معينة ، فيقتبسها ويضفي عليها من روحه وفكره ويجيد ،هذه لا تعتبر سرقة ، فالمعاني والتجارب الحياتية متوفرة في الوجود وبين أفراد البشر ، وتمر أمام الجميع ولا ينتبهون إليها ، قد يعرفها من يعرف ، والشاطر اللبيب من يشير إليها ويمسك بها ويقدمها للإنسانية على صحن من ذهب ، والصياغة البلاغية قد تعجب كثير من الشعراء ويعارضونها عمداً لا صدفة ، وهنا يجب أن تكون المعارضة لا تقل عن النسخة الأصلية ، لأن فيها شيئاً من التحدي ، كمعارضات أحمد شوقي ( ت 1932م) لسينية البحتري ( ت 284 هـ /897م) في وصف إيوان كسرى :
صُنْتُ نَفسي عَمَّا يُدَنِسُ نَفْسي*** وتَرَفَّعْتُ عن جَدا كل جِبْسِ
أما شوقي فوصف الأندلس ، وآثار مصر على نفس الوزن والقافية والروي :
اختلاف النهار والليل ينسي *** اذكرا لي الصبا وأيام أنسي
ولدالية الحصري القيرواني الضرير ( 488هـ /1095م)،التي عارضها ثلاثة وتسعون شاعراً كبيراً ، فعجزوا عن مجاراتها :
يا ليلُ الصبّ ُ متى غدُهُ *** أقيامً الساعةٍ موعدُهُ
ربّما شوقي كان أفضلهم بقصيدته ، ولكن ما وصل إليها :
مُضْنــــاك جفـــاهُ مَرْقَـــدُهُ *** وبَكــــاه ورَحَّــــمَ عُـــوَّدُهُ
وعارض قصيدة ابن زيدون ( ت 463 هـ / 1071م) ( أضحى التنائي بديلا من تدانينا ) وغيرها ، وكان يروم أن يثبت جدارته ومقدرته . وكان موفقاً ، والمعاراضات كانت معروفة من قبل بشكل عفوي أو مقصود ، وإذا وضع الشويعر القصيدة المٌعارضة أمامه وحبك مثلها تقليدا مشوهاٌ ، فهذه أتعس من السرقة ، أو سرقة مصطنعة مكانها سلة المهملات .
أنا معجب بدعبل بن علي الخزاعي (148 هـ – 246 هـ / 765 – 860م) ، وألفت عنه كتاباُ بأكثر من خمسمائة صفحة ، لأنه صاحب موقف قل وجوده في التاريخ العربي لهجائه المقذع ، وسخريته العجيبة قبل ظهور هذا الفن وأوسمت كتابي المخطوط (دعبل …الوجه الآخر للشعر العربي ) هجا أكبر وأعظم خلفاء بني العباس كهارون والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل بوزرائهم وولاتهم وحجابهم وقادتهم العسكريين والأمنيين ، ولكن مدحه لايقل عن هجائه ، بل أكثر لآل البيت وغيرهم، يشبهه المرحوم هادي العلوي بظاهرة مظفر النواب في هذا العصر ، والنواب تأثر بشعره وثبتت ذلك في كتابي بالشواهد ، مع فارق كان دعبل ملتزماً بخط آل البيت ، إذ كانوا يمثلون المعارضة العقائدية فمدحهم وأطال ، المهم مع هذا لا أوافقه على قوله ورأيه بحق أبي تمام ( 180 هـ – 228 هـ / 796 – 843م) شاعر المعتصم ، ومدحه بقصيدته الرائعة بعد انتصاره بفتح عمورية (223 هـ / 838م ) ، بقوله الشهير:
السيف أصدق أنباءً من الكتب ***في حدّه الحدّ بين الجدِّ واللعبِ ِ
إذ يقول عن أبي تمام لما سئل عنه فقال : ثلث شعره مسروق وثلث شعره صال وثلث شعره غث .
دعبل في عصره كان شيخ الشعراء وأشهرهم و وأكبرهم ، كان ديوانه سبعة مجلدات ، والآن لا يتجاوز ألف ومائتين بيت شعر ، وله (طبقات الشعراء ) لم يصل إلينا ، ولكن قوله في شعر أبي تمام غير منصف ، فهو شعر رائع الصنعة ،متين الإجاز ، قوي البنيان ، ذهب على ألسنة الناس كالأمثال ، وارتقى إلى العقول الرفيعة ، ولكن هنالك بعض الإفراط في الصناعة . زاد على ما بدأه مسلم بن الوليد (صريع الغواني (130 هـ – 209هـ / 747 – 823م), و الإسفاف في بعض المعاني ، وقلنا سابقاً ونعيد اتفق نقاد الأدب قديما وخديثاً : إنّ الشاعر الآخذ من زميله معنى ، إذا ما أحسن عرضه ، وأضاف إليه ، فالسرقة تكون محمودة ، وتسألني لماذا؟ لأن الشعر والنثر الأدبي الرائع ليس معنى فقط ، بل قابلية إبداعية فذة إضافة إلى صياغة وبناء وبلاغة واسلوب ، وهذه أمور مهمة للنص الأدبي .
فأبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي ( ت 370 هـ/ 981 م) الذي سيطر على التراث النقدي حتى عصره. وكان ناقداً بناء، وكان منهجه واضحاً في اكبر اثر نقدي وصل إلينا من آثاره وذلك هو كتاب ” الموازنة بين الطائيين ” ، وما كان منصفاً في أحكامه ، فهو ميال للسيد البحتري ، وكان يؤثر طريقته ويميل إليها.
ومن اجل ذلك جعلها ” عمود الشعر ” ونسبها إلى الأوائل وصرح بأنه من هذا الفريق دون مواربة ، فقد عرض لسرقات أبي تمام من جميع الشعراء ، وخرج بالمجموع (151) بيتا مسروق المعنى ، على نحو تفصيلي. فلما وصل إلى البحتري، اكتفى بكر ما سرقه البحتري من أبي تمام وحسب . (6)
وكتب مهلهل بن يموت ( سرقات أبي نؤاس) .حياة أبي نؤاس بين (145 هـ – 198 هـ / 762 – 813) , وأنا أظن كثيراً أكبر خمس سنوات من العمر المذكور (142 – 200 هـ) ، وأبن وكيع التنيس ألف ( المنصف في الدلالات على سرقات المتنبي ) ، بالإضافة إلى ما ذكر القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني عن السرقات في كتابه ( اوساطة بين المتنبي وخصومه) ، ناهيك عن (الرسالة الحاتمية ) الموسومة (الرسالة الموضحة عن ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره) لمحمد بن الحسن المهلبي صاحب الوزير المهلبي (7) ،هل سمعت لهؤلاء ؟
أما المتنبي فعاش بين (303 هـ – 354 هـ / 915 – 965 م ) ، هذة السرقات المزعومة كلها كلام هراء بالنسبة للشعراء العباقرة ، أنا العبد الفقير لله ، ولا يمكن مقارنتي ولو بقيد شعرة بهؤلاء العظام أقول :
لغة ٌ أطوّعها كبعض أناملي ***أنـّى أشاءُ وأيُّ قول ٍ يملحُ
أما أن تقول لي المتنبي يسرق والجواهري ينتحل ، هذه مسخرة ، لأن هؤلاء حين الإلهام الشعري ، تأتيهم الشوارد من حيث يدرون أو لا يدرون ، يقول المتنبي :
أنامُ ملء جفوني عن شواردها *** ويسهر الخلق جراها ويختصمُ
ويقول الجواهري:
لا تقترح جنس مولودٍوصورته *** وخلـّها حرّة تأتي بما تلدُ
كان الشعراء في ذلك الوقت لهم قدسية ، وعلو مرتبة ، ومنزلة اجتماعية رفيعة ، وحالة مادية هائلة ، وخدم وحشم ، فيحاول بعض المتنفذين من الإشارة للكتاب والحجاب، وربما للخلفاء والسلاطين باتهامهم بشتى التهم كالسرقات الأدبية ، والإلحاد ، والزندقة ، والفسق ، وهم على كل حال بشر ، ولكن تضخم عليهم الأمور ، فلذا أرجوك أن لا تتخيل أني سأقدم لك أمثلة مزيفة عن سرقات هؤلاء الكبار، أبحث عن أنصاف الشعراء ، وأرباع المثقفين ، واللغة كالبحر تهطل عليه القصائد العظيمة ، والنثر الرفيع ، والأدب البليغ ، ويصبح ملك الأمة ، فيحق لكل أديب أن يغرف منه ما يشاء ويحفظ في عقله الباطن والظاهر، ويختمر بذهنه ، ويبدع مستجداً، ويبثه من اللاوعي أو بشكل لا إرادي ، فتخرج كلمة من المتني وثانية من المعري وتالتة من الجواهري ورابعة من العقاد ، وخامسة وسادسة وسابعة مما يعرف ، دون إحساس ولا تقصد ، والسارق من يضع النصوص أمامه ويرتب بلا فهم ولا معرفة , ولا تعب , ولا موروث , ولا دراسة متعمقة ، وهؤلاء هم أنصاف المثقفين ، لذلك قسم بعض العرب اللطفاء الشعراء إلى ثلاثة : شاعر وشويعر وشعرور !! – إن صح التعبير – .
6 – ابن الأثير يذكر لنا أقسام السرقات :
1- النسخ :أخذ اللفظ والمعنى.
2 – السلخ : أخذ بعص المعنى.
3 – المسخ : إحالة المعنى إلى ما دونه.
4 – أخذ المعنى مع الزيادة.
5 – عكس المعنى إلى ضده .(8)
وكلام ابن الأثير لا ينطبق على العمالقة ، وإن بحث في ثنايا شعرهم ، لأن عصره كان يندهش لهذه المعرفةالواهمة ، والمقارنة التي وردت في أبيات شعرهم ، وقد يقع الحافر على الحافر ، أما بالنسبة لغيرهم من المتشاعرين ، فقد يصدق عليهم على أعلب الظن .
7 – أما في الأدب الغربي ، فقبل أن نسلط الضوء على توارد الخواطر بين شعراء العرب ، وشعراء الغرب ، وربما العرب سبقوهم في الأفكار ، ولكن نأخذ بشكل مختصر رأي بعض النقاد الغربيين لإطالتنا في هذه الحلقة ، يقول (نورثروب فراي) ” الشاعر أيضاً كالمؤرخ ، يقلد الأعمال في كلمات ، على الأقل في المسرخيات والملاحم ، إلا أن الشاعر لا يقدم أقوالاً معينة حقيقية …الشاعر لايملك نموذجاً خارجياً يحتذى به ، لذا يحكم عليه بالنسبة لسلامة بنيته الكلامية ، أو تماسكها ” .(9)
وهذا ما ذهبنا إليه سابقاً ، الشعر ليس بتاريخ ، وإنما رؤية جديدة لما يحدث ، أو لما سيحدث ، ويعتمد على الصياغة البلاغية ، ولك أن تقول الكلامية ، فأنت كطرب للكلام الجميل الطروب ، يسحرك بحاسة السمع ، وتتفاعل مع المعاني السامية ، أو الوقائع الجارية ، تنفث همومك ، أو همومك ، أو تنفح سرورك ،
وهكذا يذهب “(غولدمان) (10) : يمكننا أن نكتشف التشابه والتماهي في عدة نصوص شعرية من دون أن يعني هذا التشابه سرقة أو تحايلاً أو تآمراً ” .(11 )
أمّا (الفرد هو سمان) فيذكر : إن الشعر ليس المعنى الذي يقال ، ولكن هو الطريقة التي يعبر بها عن هذا المعنى ، فنفس الفنان تستوعب ما ترى ، وما تختبر ، وتظل تختزن حصيلة ما يصل إليها عن طريق الحواس التي تربطها إحساسياً بالعالم الخارجي ، فضلاً عن الموروث في اللاشعور الجماعي ، ومن هذا الحشد تنبثق سطور الخوالج والمشاعر والغواطف ” .(12)
وقد فصل القول في هذا المجال الدكتور مصطفى سويف في كتابه القيم ( الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة ) بقوله : لذا في ضوء هذه المكتشفات أسقط النقد الأدبي الحديث فكرة السرقات .(13)
وعلى أساس فكرة التأثر والتأثير بين الآداب قام صرح الأدب المقارن ، ولما ألغينا فكرة سرقة المعاني لدى الشعرا الشعراء التي شغلت أفكار واهتمام القدماء لعدم توفر الكوامن النفسية ،ونتائج علم النفس الحديث وحقائقه ، يجب أنْ لا ننسى نصيحة الأصمعي الذكية لأبي نؤاس ، وأن لا نضع قصيدة شاعرآخر أمام أعيننا ونبني على أساسها معاني قصائدنا وتشكيلها , مثل ما يقال عن إيليا أبي ماضي – والله أعلم –
نعم يسمح للمبتدئين أن يقوموا نفسهم ، ويسألون ويجدون ، والشعر ليس بصعب على الموهوبين بهذا المجال , استميحكم عذراُ لتكملة الموضوع في الحلقة القادمة ، والمقال طالت طوائله، وأخشى من ملل القارئ الكريم ، تحية لصبركم وكرمكم .
توارد الخواطربين عباقرة العرب والغرب تلميحاً
8 – قصة ( حي بن يقظان) لابن طفيل ، وكتاب الأب اليسوعي (جرثيان) سرقات أم توارد خواطر؟!!
أسبقك القول ..!!
وإنْ كانت تعمداً قُبستْ ، فهي تخضع لنظرية التأثر والتأثير، وليست بسرقات ، لأنها لم تنقل شكلاً ومضموناً ، والتشكيل في الأدب العربي والعالمي هو الأساس بأسلوبه وسحره وفنّه وجماله ، فالأسلوب هو الإنسان نفسه كبصمات الأصابع أو أضبط !! وإلّا فالمعاني مطروحة على أرصفة الشوارع على حدّ تعبير الجاحظ العظيم …فالسيرة النبوية هي السيرة نفسها ، ولكنها كتبت بمئات الأقلام ، والتشكيلات النتباينة ، ومثلها قصص الأحداث العالمية الكبرى ، وأذواق الناس أجناس …. !!
من توارد الخواطر أنّ قصة ( حي بن يقظان) لابن طفيل (495 هـ – 581 هـ / 1100 – 1185م) الذي ولد قي (وادي آش) كما يسمى اليوم (14) على مسافة 53 كم من الشمال الشرقي من قرطبة ، وتأثر بابن باجة ، واشتغل بحضرة ابن يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن القيسي سلطان الموحدين ، وهو الذي أوصل ابن رشد إلى السلطان أبي يعقوب ، وتوفي في مراكش، وإن قصتة (حي بن يقظان) ، كانت من أوفر الكتب حظاً من التقدير والعناية والتأثر في أوربا في العصر الحديث ، ويثبت فيها لقاء المعقول والمنقول حيث حي بن يقظان وصل للهداية بالمعقول و(أبسان) وصل إلى الهداية بالمنقول ، وهكذا أن العقل والنقل متفقان ، وكذلك أن الدين والفلسفة متفقان ، والدين حقٌّ ، والحقّ لا يتعدد.
ومن العجيب أن الأب اليسوعي (جرثيان) نشرما بين السنوات ( 1650 – 1653م) كتاباً بعنوان وسمه …..(15) ، والنصف الأول منه يشبه تماماً قصة (حي بن يقظان) ، فهل كان ذلك عرضاً واتفاقاً؟!!
هذه مستبعدة لشدة التشابه في كليهما ، لكن كيف عرف جرثيان بقصة حي بن يقظان ، وإن ترجمة (كوك) لم تظهر إلا في سنة (1681م) ، وكذلك لم يظهر النص العربي إلا سنة (1681م) ، فكيف عرف جرثيان بالقصة ، وهو لم يكن يعرف اللغة العربية؟ !!
هذا ما نشرته في كتابي (للعبقرية أسرارها…) (16) ، الصادر من دمشق عام (1996) ، وقد أوجزته من ( موسوعة تراث الإنسانية) (17) ، ووقعت عيني هذة الأيام على كتاب للدكتورة بسمة الدجاني (18) ، ولكنهم لم يعلقوا ، والسرقة واضحة في فكرتها تماماً، وسردها الدقيق ،لو كان الأمر معكوساً لأتهم العربي المسلم بالسرقة ، ولقامت الدنيا وما قعدت ، لأهمية الموضوع الإنساني وإبداعه المتناهي ، أما كيف وصل الكتاب وتـُرجم ، فهنالك ألف طريقة وطريقة ، وكان الأجدر بجرثيان أن يوضح الأمر ، ولكن لم يكن بعيد النظر لتطور الزمان بهذا الشكل السريع ، نعم سرقة واضحة المعالم لا تقبل النقض ، ولكن نعود لنقول من قبلُ ( من يعرف فطيمة بسوق الغزل) ، تاهت الأمور وبقت السرقة.
9 – أبو العلاء المعري ( 972 – 1057م و (رسالة غفرانه) …ودانتي الإيطالي (1265 – 1331) و ( كوميديته الإلهية) تأثر أم توارد خواطر !!
وإليك مثال آخر ، فهذا أبو العلاء المعري أخذته الهواجس والخيال ليستقلب التاريخ في (رسالة غفرانه) التي تستوحي الفكر الإسلامي ، والتراث العربي فيها ، وهي مكمنة في لا وعيه ، وفي وعيه ، ولا أعتقد قد تأثر بإسطورة أخرى لثلاثة أسباب ، فقد جاءت الرسالة مباشرة دون تخطيط مسبق ، فكان في شغل شاغل عنها ، ولم يكن في خاطره ، الكتابة عن العالم الأخر لولا رسالة علي بن منصور الحلبي (ابن القارح) ، ثم أنه ما كان يجيد اللغات الأخرى إلا لماما ، وأفكار رسالته إسلامية عربية بحتة ، وتأثر بعصره المتشيع حيث الفاطميين والحمدانيين والبويهيين ، إذ خطر ببال المعري أن يقوم بنزهة في دار البقاء ، فبعث من قبره ووقف في الخلائق في ساعة الحشر لمدة ستة أشهر حتى نظم قصيدة في مدح الإمام علي على منوال ما يحدث في الدنيا ، فلم تقبل منه ، واستنجد بحمزة سيد الشهداء ، فحوله إلى الإمام علي بن أبي طالب ، فقال له الإمام : لك إسوة بابناء أبيك آدم ، وبعد جهد جهيد وصل إلى النبي (ص) ، فاستجار به فأجاره ، ودخل الجنة فتحادث مع الشعراء والأدباء واللغويين ، ثم قصد زيارة الجحيم ، ويطلع على أبليس – لعنه الله – مضطرباً في الأغلال والسلاسل ويلتقي ببشار وامرئ القيس .
أما القسم الثاني من رسالة الغفران يتناول المعري المسائل التي وجهها إليه ابن القارحفيجيبه عليها بالتفصيل ، ويتطرق إلى مواضيع أخرى لم يسأل عنها كالزمان والمكان والتناسخ و القرامطة ومذهب الحلول والذي يجب أن يقال قي هذا الصدد ونؤكد عليه ، إن رسالة الغفران لأبي العلاء مستوحاة من ذهنه ، وقدحت من قريحته ، وبينا الأسباب سابقاً ، تدل الرسالة على سعة علمه في جميع أصناف المعارف ، ووقف فيها موقف الناقد الساخر.
أمّا دانتي الإيطالي (1265 – 1331) ، نظم (الكوميديا الإلهية) وهي مائة نشيد يروي فيها دانتي قصة رؤيا ، زار فيها الآ خرة يتصور وجوده في غابة مظلمة موحشة ثم وجد نفسه على سفح تل ، وتطلع إلى ضوء الشمس وأراح نفسه ، ولكن سرعان ما اعترضت طريقه فهدة مرقشة ( رمز نوايا الحسد) ، ومرّ بأسد رمز ( الكبرياء والعنف) ، وتعترضه ذئبة جائعة رمز (الجشع) ، إلى هنا ينطلق من بيئته الإيطالية بجبالها وغاباتها وحيواناتها الضارية، وهي ترمز بسلوكها إلى سلوك عينات من البشر ، لم تكن أقل منها وحشية وجشعاً ، ويواصل صعود التل ويترائ له شبح الشاعر (فرجيل) (شاعر إيطالي 70 ق م – 19 ق م صاحب الإنياذة) ، واستنجد به حتى وصل إلى (جهنم) ، ويصل بعدها إلى ( النعيم) ، وكانت (بياتريس) حبيبته في الأرض الملاك الجميل التي تزوجت من غيره ، وتوفيت (1290 م) هي مرشدته في الجنة بإيعاز من فرجيل .
المستشرق الأسباني المختص بالدراسات العربية المدعو ” ميجوبل آسين بلاسيوس” ، وكان في شرخ شبابه آنذاك ، أكد بإصرار عجيب على علاقة رواية (المعراج الإسلامية) ، والعقائد الإسلامية مثل الحشر و النشر والجنة والنار في الكوميديا الإلهية ، وتأثر دانتي في ذلك بـ (ابن عربي) ، ولكن أكد أسين في نهاية بحثه أنّ هذه العلاقة لا تنقص من عبقرية دانتي ، والإيطاليون كانوا منشغلين برؤية نظرية النقد والجمال الفني ، فلم يعيروا اهتماماً لبحث أسين وكتابه (فكرة) ، ولكن هل كان دانتي يلم بالعربية بحيث يعرف نصوص ابن عربي وأبي العلاء المعري الصعبة ، وأسين يجيب ربما عثر دانتي على ترجمات تتناول هذه المفاهيم الإسلامية ، حملها معه (برونيتو) ، ثم وصل عالمان أحدهما أسباني والآخر إيطالي لم يعرف أحدهما الآخر، ثم تعارفا و نشرا خلال هذه السنوات النصين اللاتيني والفرنسي لكتاب إسباني عربي يدور حول فلسفة الحشر العربية الإسلامية. وقد ثبت أن هاتين الترجمتين كانتا معروفتين في إيطاليا في القرن الرابع عشر(19) .
10 – توارد الخواطر بين عباقرة العرب وعباقرة الغرب :
وعلى السريع ، ودون تفصيل ، ومن أراد التفصيل مراجعة كتابي (للعبقرية أسراها …) ، الفصل المخصص لتوارد الخواطر عند العباقرة ، فأبو العلاء الذي يقول :
أمس الذي مرّعلى قربه ***يعجز أهل الأرض عن رده
والشاعر الروماني (ايتزيك ….ولادة 1900م) الذي عاش في القرن العشرين يقول في مطلع قصيدته (انشودة الطاووس الذهبي ) والتي ترجمها د. صفاء خلوصي : ” وهكذا طار الطاووس الذهبي ضارباً في الآفاق مشرقاً باحثاً عن أمسه الدابر ” ، والمقارنة لكاتب هذه السطور.
هنالك فكرة واحدة هدفها أن يعيش الإنسان بسعادة وهناء في مدينته أو دولته ، كل مؤلف يكتب ما يرتأيه حسب ييئته وعقيدته وزمنه وثقافته وفلسفته ومدى تشعبه في سبك معلوماته لعلاقة الناس مع بعضهم ومع دولتهم ، وصفات قاداتهم وطبقاتهم،تربط بين (جمهورية أفلاطون) ألفه سنة 360 ق. م. ، إذ قسم المجتمع إلى طبقات ، ولكل طبقة فضيلتها فللتجار والحرفيين ضبط النفس ، وللحراس الشجاعة ، للملوك الفلسفة ، والعدل يضم الجميع ، و(المدينة الفاضلة ) للفارابي محمد بن محمد طرخان (873- 950م) عاصر سيف الدولة الحمداني ، وعاش من بعده ، وعاصر المتنبي ، جامل سيف دولته في مدينته، رغم أنه عاش عيشة الكفاف وكان زاهدا في دنياه ، ومن عجيب قفزاته الفكرية طالب بالعدل ومنح الدرهم والدينار للسكان ، بل ألزم الدولة بإلزامية التعليم المجاني لهم ليتمتعوا بالمعارف الضرورية لتعايشهم ، وتحقيق إنسانيتهم في الدنيا العاجلة ، والآخرة الآجلة. (20)
أمّا الكتاب الثالث (يوتوبيا ) الدولة المثالية أو المكان الذي لا وجود له من تأليف (توماس بور) ، وهو من مواليد لندن (7 /2 / 1478م) ، وألقي من برج لندن بعد أن حوكم وأزهقت روحه في ( 6 /11/ 1535م) في عهد الملك هنري الثامن ، أنّ الكتاب المذكور (يوتوبيا) ، ليصلح الأخطاء الأجتماعية في انكلترا ، طالب بفترة العمل ست ساعات ، ويريد تحكيم العقل في السياسة في السياسة القومية والعلاقات الدولية ، وأشد ما يرعب فيه (مور) محو الذهب ، والفضة من الحياة الإقتصادية ، وعلى لسان الفيلسوف (روفائيل هيتلوداي) يذكر عدم الرغبة في المال أو السلطان وعدم مصاحبة الملوك لاهتمامهم بالحروب لتوسيع ملكهم (21) ، وعارض طلاق هنري الثامن من زوجته كارتين أراغون ، وهيمنته على الكنيسة ، فحبس وقطع رأسه.
وأبو نؤاس (762 – 813م / 145 هـ – 198 هـ ) الماجن الوجودي العابث الذي آمن في أواخر حياته :
رضيت لنفسك سؤاتها *** ولم تأل جهداً لمرضاتها
وحسنت أقبح أعمالها*** وصغرت أكبر زلاتـها
وهذي القيامة قد أشرفتْ**تريك مخاوف فزعاتها
وقوله :
أشرب فديتْ علانية***أم التستر زانية
هو الذي يقول :
يا كبير الذنب عفْـــوالله عن ذنبك أكبرْ
ولا أطيل معك وشعر أبي نؤاس مليء بالتناقضات مابين شعره في مدى حياته حتى أواخر حياته بعد إيمانه الصادق ، وهذه تنطبق مع الوجودية المؤمنة التي تزعمها الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد بعد أكثر من ألف عام (1813 – 1855م) حيث يقول ” إنّ شعورنا بالخطيئة ليس شيئاً آخر سوى شعورنا العميق بوجودنا ، إن الذات تؤكد وجودها بالخطيئة التي تقودنا إلى أعتاب الوجود الديني الصحيح ، والرجل الخاطئ والمذنب لابدّ أن يجد نفسه وحيداً وهو لا بد أيضاً من أن يتأمل حريته في صميم تلك تلك الحرية ” (22)
نعم أبو نؤاس وصل في آخر حياته بعد تشبعه بالمعاصي والمجون إلى التوبة الصادقة :
من لم يكن لله متهماُ*** لم يمس ِمحتاجاً إلى أحدِ
وهنا أيضاً ” (لوثر) يلتقي مع أبي نؤاس في الوقوف مع الله عند الشعور بالخطيئة والإثم ، هو السبيل إلى الإيمان أو الوصول إلى ما يسمى بدوائر الإيمان العليا, وأنه ينبغي أنْ يمرّبعذاب الضمير ، وعذاب الضمير الناجم عن الشعور بالخطيئة هو الذي يحقق ما يسمى بالوجود أمام الله ” (23)
طال الموضوع ولابد من الإختصار بعد أن تكلمنا عن السرقات والمعارضات ونظرية النقد الحديثة (التأثر والتأثير ) وأهمية التشكيل اللغوي في الإبداع،وأخذنا (السياب ) مثلاً.
4 – إشارة لتوارد الخواطر بين عباقرة العرب والغرب :
:أ – نرجع إلى أبي نؤاس (813م) ، تتجلى تتوار الخواطر بين قول أبي نؤاس
دارت على فتية دار الزمان بهم ***فما يصيبهم إلا بما شاءوا
وهذا يشبه قول (غوته – ت 1832 م ) الألماني ” الحكمة هي أن يجعل الإنسان ارادته فيما يريد له القدر حتى إذا أصابه بشيءٍ كان كأنما شاء أن يصيبه القدر ..” (24)
ولابن الرومي ( ت 896 م )، في هذا القدر أقوال منها :
والناس يلحون الطبيب وإنما ***خطأ الطبيب إصابة الأقدار
فعندما والد الجواهري الشيخ عبد الحسين قاربته المنية استشهد بالبيت السابق ، ويقول الجواهري في (ذكرياتي ج1) ، بقيت ثلاث سنوات حتى عرفته للعبقري الخالد ابن الرومي ، والأخير أيضاً نظمه قبل وفاته ( ت 283 هـ ) .
:(ب – ويقول الشاعر الألماني (فون أرنت
Der Gott der Eisen Wachsen Liess
Der Woilte Kelue K nechte
ومعناه ” والذي أنبت الحديد من الأرض أبى أن يكون في الأرض عبدُ ” ، وذكر أبو العلاء قبل ألف عام من قول أرنت :
والله إذ خلق المعادن عالم *** إنّ الحداد البيض منها تصنعُ (25)
ومن يتأمل يرى أن أبا العلاء عمم (المعادن) ، ولم يحرر المعادن من العبودية فقط ، بل جعلها سيدة مسلطة على رقاب الكائنات …!!
: ( ج – وكذلك يقول الشاعر الفرنسي الفريد موسيه (ت 1857م
L’hommer evirnt toujours
a’ ses premiers amours
هو نفس ما قاله الشاعر أبو تمام ( ت 843م) ، قبل أكثر من ألف عام :
كم منزل في العمر يألفه الفتى *** وحنينه أبداً لأول منزل ِ. (26)
د – وقد جاء في أثار الشاعر الأنكليزي ريتشارد بارنفيلد (1627 م) : صديقك الحق هو الذي يهرع إلى معونتك ، إذا ألمت بك شدّة.
ربما المعنى مطروق لدى كل الأمم ، ولكن كصيغة شعر من شاعر عربي كبير ، فقد قال بشار بن برد (ت 784 م) :
خير إخوانك المشارك في الضرِّ*** وأين الشريك في الضرّ أينا
الذي شهدت سرّك في الحيِّ *** وإذا غبت كــــــان أذناً وعينا
: هـ – وجاء في بعض آثار الخطيب والسياسي الروماني سيشرون ( ت 43 ق . م)
Birds of afeather flock togather
وتعني الطيور ذوات الريش المتشابهة , يألف بعضها بعضاً, ويقول المثل العربي ( إنّ الطيور على أشكالها تقع) ، ويقول المتنبي ( ت 965م)
وشبه الشيء منجذبٌ إليه *** وأشبهنا بدنيانا الطغامُ (27)
و – ويقول الشاعر الأنكليزي درايتون (عام 1596م ) :
كثيرا ما يموت الجبناء
Gow ardsdie often
وبعده بثلاث سنوات (1599 م) ، قال شكسبير في مسرحيته ( يوليوس قيصر)
“الجبناء يموتون عدّة مرات قبل أن يدركهم الموت ”
ويقول المتنبي :
وقد يترك النفس الذي لا تهابه *** ويخترم النفس التي تتهيبُ (28)
و فاعلا (يترك) و (يخترم ) هما ضميران مستتران تقديرهما (هو) يعودان على الموت ، وهنالك مثل عربي شائع ( أطلب الموت توهب الحياة ) ، ونذكر قول ابن الرومي الرائع :
وإذا أتاك من الأمور مقدرٌ*** وهربت منه فنحوه تتوجهُ
والمسكين بالرغم من معرفته بالأمور أراد أن يهرب من الموت بتملقه للوزير القاسم ابن عبيد الله ،ووقع في الفخ فاستضعفه ابن عبيد وأكله ، فسمه الوزير بخشتنانة على يد اللغوي ابن فارس (283 هـ / 896م) ، معرفتك بالمرض لا يعفيك من الموت به !!
على حين دعبل الخزاعي كما ذكرت في الحلقة السابقة هجا كبار الخلفاء والوزراء والقادة والولاة ، وكان يقول ” لي خمسون عاماً أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها ، فلم أجد” ، وعمر طويلاً كاد أن يبلغ القرن من الأعوام (148 هـ – 246 هـ / 765- 860 م) . …وكلّمن عليها فانٍ ، ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
wner\Desktop\ (1) – ريوقي عبد الحميد : مدونة اللغة والأدب ( السرقات الأدبية و توارد الخواطر ) ، لم يذكر المصادر والمراجع سوى أرقام .
(2) المصدر نفسه .
(3) (ابن الرومي حياته وشعره ) : كمال أبو مصلح ، تقديم المازني ص 31 – 1987 م – المكتبة الحديثة.
(4) ( للعبقرية أسرارها …) : كريم مرزة الاسدي ص 154 – 155 – دار فجر العروبة – 1996م – دمشق ، نقلا عن (مجلة العربي ) العدد (94) مايو – 1983 – مقال بقلم توفيق أبو الرب .
(5) (للعبقرية أسرارها …) : المصدر نفسه.
(6) راجع عن (الآمدي)
http://www.dahsha.com/old/viewarticle.php?
(تلخيص كتاب النقد الأدبي عند العرب ) : إحسان عباس – الفصل الثاني .
(7) بعض الأفكار مأخوذة من مقال لكاتب هذه السطور من حلقة واحدة ، نشر في جريدة (الوطن)العراقية , تحت العنوان نفسه في العدد (39) بتاريخ : (1 أيار 1996م) .
(8) المصدر نفسه .
(9) (الماهية والخرافة – دراسة في الميثولجيا الشعرية ) : نورثروب فراي ص 83 ترجمة هيفاء هاشم – منشورات وزارة الثقافة – 1992 – دمشق.
(10) ربما يقصد الكاتب الآتي ذكره ( لوسيان غولدمان)(1913 – 1970) ، وهو فيلسوف فرنسي يهتم بعلم الاجتماع الأدبي ، ويعتبر من أهم وجوه البنيوية التكوينية ، لآن هنالك عدة علماء يحملون اسم (غزلمان.
(11) جريدة الوطن : مقال بقلم ناجي خسين – مقال تحت عنوان (تحامل أم ماذ ؟ !!!) العدد 39 ص (14) .
(12) ( إليوت) : الدكتور فائق متي ص 58 م. س.
(13) المصدر نفسه ، وراجع ( الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة ) : د . مصطفى سويف – دار المعرف – ج .م. ع .الطبعة الرابعة – بلا.
(14)(GUADIX)
)15) (ELCRITICOR)
(16) (للعبقرية أسرارها …) : كريم مرزة الاسدي ص144 م. س.
(17) (موجز موسوعة تراث الإنسانية) : م 1 ، ص 222 عدد من المؤلفين – 1994 – 1995م – الهيئة المصرية .
(18) ( دور الترجمة في حوار الحضارات …) : د. بسمة أحمد صدقي الدجاني ص 158 نقلاً عن…. م . س.
(19) مجلة التراث العربي- مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب – دمشق العدد 41 – السنة 11 – تشرين الأول “أكتوبر” 1990 – ضوء جديد على دانتي والإسلام* – فرانسسكو غابريلّي – ت.د.موسى الخور.
(20) (الفارابي فيلسوف الإسلام) المستشارية الثقافية في دمشق ,مقال بقلم الدكتور حسن نصرالله ص 314 ، ومقال بقلم الشيخ محمد جعفر شمس الدين ص 32 – 35 راجع.
(21) (للعبقرية أسرارها) : ص 147م. س.
(22) ( أبو نؤاس) : أحلام الزعيم ص 167 ، ( الفلسفة الوجودية : الدكتور زكريا إبراهيم ص (41 – 43) .
(23) (الأدب وقيم الحياة المعاصرة) : الدكتور محمد زكي العشماوي (ص 57)
(24) ( أبو نؤاس – حياته وشعره ) : ص 20 مقال بقلم الأستاذ عبد الرحمن شكري.
(25) للعبقرية أسرارها …) : ص 153 مصدر سابق .
(26) (سعدي الشيرازي ) : نيسان 1985م مقال بقلم الدكتور عمر فروخ في مؤتمر بدمشق.
(27) راجع (للعبفرية أسرارها …) : ص 154 مصدر سابق نقلاً عن : (مصابيح التجربة ) : منير البعلبكي ص 8 ،21 ,28 ملحق (قاموس المورد .)
(28) المصادر نفسها .
كريم مرزة الأسدي
ُ
السرقات الأدبية نقداً جامعاً مانعا…!!
بين النحل وتوارد الخواطر ونظرية التأثر والتأثير
كريم مرزة الأسدي
1 – المقدمة :
الغيرة والحسد ، وإن جمّلتَ القول فقل عنهما : الغبطة والتنافس ، هذه طبائع جُبل عليها الإنسان من أجل الصراع الحيوي – ولا أعرف سلوك الجمادات – المتعدد الجوانب على هذه الأرض ، وإذا عجز عن الفعل (الأنسان العاجز أو المتعاجز) للحاق بالإنسان الآخر يلجأ للنفاق والقيل والقال لتخفيف عبء ما يختلج في نفسه من تراكمات الصراع النفسي المكبوت بالعُقد ، أو ما يعانيه من كسل وإهمال ، فلا هو يركد مثل الحكماء ويسكت ويتفهم الأمور بعمق ، ولا هو يطفو مثل عامة الناس للعيش بعفوية ولا يبالي بهذه الأشياء لأنها ليست من شغله أو أكثر وقتاَ مما يتوفر لديه للقيام بها ، وترى هذا لصراع في كل المجالات المادية والاجتماعية والقيادية والقكرية والإبداعية ، والصراع الشريف مشروع لكل الناس ، فالناس سواسية في قابلياتهم ، لو استغلوها أحسن استغلال ، ونظموها أفضل تنظيم ، ولكنهم يحتاجون إلى عزيمة جبارة ، و إصرار عنيد ، ومواصلة مستمرة ، ولـِ (الأنا ) ، وإبراز الذات دور فعال للنجاح فيها ، و (الإرادة ) القوية هي التي تحرك (العقل) وتسيره وتفعّله ، كما ذهب شوبنهور الألماني (ت 1860م) ، وما (عقل ) الجاحظ والمعتزلة والمتنبي والمعري إلا كناية عن ( الإرادة ) ، فالناس كلهم يمتلكون العقول ، ولكنهم لم يستغلوا إلا الجزء اليسير من قدراته الهائلة بسبب ضعف الإرادة ، بل يعتبر الدكتور الوردي ، وربما استعار المعنى من ( الفريدأدلر- 1937م) ، إن العقل عضو كالناب والعين والعضلة وأشواك النباتات ، وإنما يتميز عند من يحسن استخدامه ويطوره ويعوّده ، ومن هنا وردت كلمة عالم البيئة الأمريكي في العصر الحديث الحديث ( جون واسطن) مؤسس المدرسة السلوكية العلاجية (تأسست 1913م) بقوله : «أعطوني عشرة أطفال أصحاء أسوياء التكوين فسأختار أحدهم جزافًا وأدربه فأصنع منه ما أريد: طبيبًا أو فنانًا أو عالمًا أو تاجرًا أو لصًا… بغض الطرف عن ميوله وسلالة أسلافه ” ، ومن هنا أيضاً جاءت كلمة ثلثي العبقرية كدٌّ وتعبٌ ، وأنا أزيد حتى 80% ، لا يكفي الإنسان أن يمتلك بوادر العبقرية وراثياً – إن صح التعبير – وتبقى نقطة لا تنمو ولا تثمر إلا بالسعي والإصرار.
إذاً الطبائع الإنسانية والصراع وحب الجاه مادياً واجتماعيا وعلميا وابداعيا ، تقف وراءه الإرادة الشريفة التي منحها الله لعبده ، يقول حافظ ابراهيم :
فــإذا رزقــت خـلـيقة مـحـمودة *** فـقـد اصـطـفاك مـقسّم الأرزاق
فـالـناس هــذا حـظـهٌ مــالٌ وذا*** عــلـمٌ وذاك مــكـارم الأخـــلاقِ
2 – سرقة أعمال المبدعين ونحلها لمن لا يستحقها ويفقهها :
إنّّ بعض الناس من أنصاف القادرين والمثقفين ، ممن يريد الشهد دون إبر النحل ، يحاول الوصول إلى الشهرة العلمية أوالإبداعية الخالدة دون طرق شرعية – شهرة المغنيين ولاعبى الرياضة وملكات الجمال غير خالدة لانها عضلية وعضوية – والشهرة ما هي بعمل هين دونها الأهوال والصواعق والأعاصير، ومن هؤلاء يتخيلون سرقة أعمال الغير لتكفيهم شر القتال والصراع ، وينسون التواصل والإصرار إلى آخر رمق من الحياة ، وهذه الظاهرة قديمة قدم الإبداع الأدبي والعلمي من قبل الإنسان ، يقول الأساذ ( ريوقي عبد الحليم – المجمع الجزائري للغة العربية) في مدونة (الأدب واللغة) : ” فالسّرقة الأدبيّة قديمة قدم الإبداع الأدبي “فأسطورة أوديب [على سبيل المثال هي] أسطورة قديمة ألّفها ” هوميروس” في نصف القرن التّاسع قبل الميلاد في النّشيد الحادي عشر من ملحمة الأديسيا ، وفي القرن الخامس قبل الميلاد جاء ثلاثة شعراء يونانيين كبار هم: ” أسخيلوس”،”سوفوكليس” و”يوربيديس”، وأعادوا كتابتها لإعجابهم بها، وأعادها كتاب كثيرون مثل الشّاعر الإنجليزي “دريدن” في القرن السّابع عشر بعد الميلاد، والشّاعر الإيطالي “الفييري” في القرن الثّامن عشر بعد الميلاد، أمّا الفرنسيون فقد فتن شعراؤهم، وكتابهم بقصّة أوديب منذ أواخر القرن السّادس عشر إلى أن وضع كورناي قصّة تمثيلية لأوديب فتن بها معاصريه” (1) ، ويؤكد قوله بأنها سرقات بمواصلته الكلام :
” والسرقات الأدبية عرفت طريقها إلى الفكر العربي منذ العصر الجاهلي وحسبنا هنا قول طرفة بن العبد ( ت حوالي 72 ق هـ) :
ولا أغير عـلى الأشعار أسرقها **عنها غنيت وشرّ النّاس من سرقا
وإن أحسن بيت أنــــت قائـــله*** بيت يقـــال إذا أنشــدته صـــــدقا
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه في شعره الذي قاله قبل إسلامه (ت 50هـ) :
لا أسرق الشّعراء ما نطقوا بل ***لا يوافق شعرهم شعري ” (2).
( النجوم بين الأشطر من وضع كاتب هذه السطور) .
رأي الأستاذ (يروقي ) حسب وجهة نظري المتواضعة عليه مؤاخذات كثيرة ، وفق هذا العصر والعصور القديمة ، هذه ليست بسرقات ولا توارد خواطر ولا هم يحزنون ، فهوكرر كلمة السرقة والسرقات مرتين ، و الأساطير كتب عنها كثير من عباقرة الدنيا بلغتهم وأسلوبهم وبثوا فيها من روحهم وأنفاسهم لتحول إلى إبداع جديد ، وتطور التجديد حسب ملائمة عصورهم ، وأذواق ناسهم ، وقد ذكرنا في حلقة أخرى ٌقول المازني ” وتعجبني كلمة كتبها جُوته إلى معاصره وزميله شِلـّر، قال :
” لقد عادت النفس فحدّتني أنْ أنظم في قصة ” وليم تل ” قصيدة ، ولست أخشى عليّ من روايتك . ولا بأس عليك منـّي ، ولا بأس عليّ منك ” . (3) ، والقصة المسرحية لشيللر تتكلم عن اسقلال سويسرا ، وبطلها ( وليام تل ) ، كتبها قبل (200)عام ، أي بعد (500) عام من التحرير والبطل السويسري.
وقل لي رجاء كم من العرب والمسلمين كتبوا عن سيرة النبي (ص) ، وكل سيرة عمل تاريخي وديني وإبداعي مستقل ، هل هذه سرقات ؟!
أبدأ من سيرة ابن هشام ، ثم هذبها عبد السلام هارون ، وسيرة ابن كثير ، وسيرة ابن إسحاق ،و جوامع السيرة لابن حزم الأندلسي ، وسيرة السيد محسن الأمين ، وعلى هامش السيرة د . طه حسين ، وحياة محمد للمستشرق الفرنسي أميل در منغم ، وحياة محمد د. محمد حسين هيكل ، وعبقرية محمد للأستاذ العقاد ، ناهيك عن كتب المغازي ، هذه ليست كتب سرقات ولا توارد خواطر ، كل واحد بكتب بإسلوبه الإبداعي ، تقرأها كلها و لا تمل وتقول هل من مزيد؟!
وكذلك من كتبوا عن جلجامش وانكيدوا والإمام(ع) ، الخليفة عمر بن الخطاب والمتنبي وأبي العلاء المعري عشرات المؤلفات والترجمات ، هل هذه سرقات ، وتواردخواطر ؟
كلا هذا إبداع لا تشوبه شائبة ، بشرط عدم سرقة تشكيلات الصياغة البلاغية ، والمعاني والأفكار الخاصة .
أما الشعر الذي ذكره الأستاذ ، فليس فيه مصداقية لسرقة ، لكن القيل والقال والحسد والصراع للكسب المادي والجاه يدفعهم لدفاع عن النفس وهجاء بقية الشعراء في عصور كان للشعر منزلة اجتماعية رفيعة ,ربما تأتي كلمات أو جمل من غـَرف بحر اللغة دون تقصد مشابهة لمن سبق أن استخدمها ، ومن هنا تأتي نصيحة الأصمعي لأبي نؤاس أحفظ عشرات الآلآف من أبيات الشعر ، وحفظها خلال سنتين ، ثم قال إذهب سنتين لنسيانها ، ولما حصل على ثروة لغوية ، قال له أبدأ بالنظم الآن ، ولكن من البديهي أن تتوارد كلمات أو جمل مما حفظ في شعره دون تقصد ، وقد تقحم الذهن خواطر متشايهة – كما سنتكلم في النقطة الثانية من هذه الحلقة ، وأنا أتكلم عن الشعراء الشعراء ، وليس عن أنصاف الشعراء ، وأنصاف الموهوبين , ولكن قبل الأنتقال أنقل لكم هاتين الحادثتين .
3 – أ – بين بشار بن برد وسلم الخاسر ..!! :
تعارف نقاد الأدب قديماً وحديثاً على أن الشاعر (السارق) الآخذ من زميله معنى ، وأجاد فيه ، وأحسن عرضه ، وأضاف فيه ، فالسرقة تكون محمودة ، فهذا سلم الخاسر بن عمرو بن حماد البصري عجبه بيتاً لبشار بن برد يقول فيه :
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ***وفاز بالطيبات الفاتك اللهجُ
فصعد (سلم الخاسر) الرابح , واستلهم المعنى بإيجاز وبلاغة قائلاً :
من راقب الناس مات همّاً *** وفاز باللذة الجسورُ
وغضب بشار كثيراً ، لأن الناس أخذوا يرددون بيت (الخاسر) ، وعبروا بيت بشار ونسوه ، وذكر الجرجاني في (الوساطة) قول بشار ، وسرقات حماد لشعره :
إذا أنشد حماد*** فقد أحسن بشار
هذا قول مجاملة ، ما زال شطر سلم الحماد يكتب مثلاً في كل مكان (من راقب الناس مات همّاً) .
3 – ب – قصيدة الطين لإيليا أبي ماضي : طه حسين يثني عليها ، والعزيزي يتهمه بسرقتها من الشاعر البدوي علي الرميثي معنىً وتشكيلا …!!
من المضحك المبكي ، إن الدكتور طه حسين قد نقد ديوان إيليا أبي ماضي (الجدوال) في الجزء الثالث من (حديث الأربعاء) يشكل فيه من القساوة الشديدة ، فيرى أن شعره مضطرب المعاني ، ضعيف الموسيقى ، رديء اللغة ، والقضية الوحيدة التي أثنى عليها هي قصيدة (الطين) ، أعجب بسمو ها الإنساني ، وجعلها في مقدمة شعر المحدثين ، ولكن أخذ عليها قافيتها (الدال الساكنة) التي ينقطع عندها النفس ، ولكن هذه القصيدة الرائعة ، يقول عنها الباحث الأردني روكس بن زائد العزيزي عام 1954 م ، إنها مسروقة المعاني كاملة (محال توارد خواطر) من شاعر بدوي مغمور يدعى (علي الرميثي) ، وأذيعت هذه القصة من (محطة الشرق العربي) ، وتناولتها صحف عديدة لا تقل عن خمس عشرة صحيفة ، وإليك بعض المقارنة بين القصيدتين التي أوردها العزيزي بيتاً بيتاً ، وعليك الحكم والفصل،أما أنا فرأيي بالطبع من رأي (عزيزي) ، ولوأنني أجلّ (أبا ماضي) بأعظم الأحترام ، ومعجب بشعره شديد الإعجاب ، ولكن أقرأ وقارن :
الرميثي: يا خوي ما نحن فحمة ما بها سنى *** ولا أنت شمس تلهب الدو بضياه
أبو ماضي : يا أخي لا تملْ بوجهك عني *** فما أنا فحمة ولا أنت فرقدْ
الرميثي: لصار ما تأكل ذهب لو تبلى *** يا خوي شو نفع الذهب لو تقناه
أبو ماضي : أنت لا تاكل النضار إذا جعتْ*** ولا تشرب الجمان المنضدْ
الرميثي: نحلم حلوماً حلوة يوم نرضى*** وتمــــر يوم السعد ما بان طاه
أبو ماضي :ولقلبي كما لقلبك أحلام ***حسان فأنها غير جلمدْ
الرميثي : كلنا للترب نمشي ونحيا ***ولا توهمك يا الضبع نفسك يمشاه
أبو ماضي : أنت مثلي من الثرى وإليه ***فلماذا يا صاحبي التيه والصدْ (4)
وهكذا تستمر القصيدة حتى الآخير بسرقة المعنى كاملاً ، وأحيانا كثيرة الألفاظ ، والعزيزي كما هو معروف اهتم بالتراث البدوي ، وإن والد الشاعر أبي ماضي كان يتاجر مع بدو منطقة مادبا موطن الشاعر الرميثي ، وكذلك اكتشف الدكتور أحمد زكي أبو شادي مصادفة إن قصيدة أبي ماضي (هي) ليست سوى ترجمة حرفية لقصيدة بالأنكليزية تحت عنوان (نخب الفارس) ، وأخيراً من الإنصاف أن نذكر أن العزيزي هو صديق مخلص للدكتور أبي شادي خصم الشاعر أبي ماضي في المهجر .(5)
4 – فذلكة الأقوال الباررزة:
إن سلم الخاسر بن حماد ، لم يسرق سوى معنى واحد ونجح في مبناه ، لأن الشعر ليس معنى فقط ، وإنما معنى ومبنى ، وغفر النقاد له واستحسنوه و أجادوه ، ومن هنا لو الشاعر المترجم للأعمال الأدبية يعلن عن ترجمته ، قد ينجح العمل أكثر مما هو مكتوب بلغته الأصلية ، فللتشكيل أثر فعال ومهم في العمل الإبداعي ، ولكن سرقة أبي ماضي للمعنى من لغة عربية حتى أنها تشمل بعض الألفاظ ، وبالرغم من إصرار أبي ماضي أن القصيدة غير مسروقة ، ولكن العزيزي حتى أواخر عمره (1983) ورجليه في القبر يصر على صحة روايته ، ويدافع عنها ، مهما يكن من أمر ، فإيليا أ بو ماضي من شعراء العرب الكبار ، لا ريب قي ذلك.
5 – توارد الخواطر والسرقات اللاسرقات !!:
مما لا شك فيه أنّ الأفكار والخواطر تتولد في أكثر من عقل ، وتختمر في عدة أذهان مادام الإنسان هو الإنسان ، والصراع في الحياة هو الصراع من أجل البقاء ، والتنافس حول المادة والجنس والجاه الاجتماعي ، ومحاولة تفهم سر الحياة ولغز وجودها ، والموت وما بعده ، هذه مجتمعة هي الشغل الشاغل لديه ، وخصوصاً في العقول الواعية المتأملة ، ربما سرالوجود وقضية الموت تأخذ حيزاً أوسعاً لدى الفلاسفة والمفكرين ، وينظرون بعين البصيرة للصراع الفاني ، وربما تنبثق إلى الوجود بمظهر واحد أو عدة مظاهر لها ماهية واحدة في عصر واحد أو عدة عصور متقاربة أو متباعدة لنفس الأمة أو من أمم مختلفة ، ولا ريب في البيئة الواحدة قد تكثر توارد الخواطر نفسها لتشابه الظروف الموضوعية (لكلِّ امرىءٍ من دهره ما تعوّدا) .
وقد يستهوي شاعر أ و كاتب فكرة معينة ، فيقتبسها ويضفي عليها من روحه وفكره ويجيد ،هذه لا تعتبر سرقة ، فالمعاني والتجارب الحياتية متوفرة في الوجود وبين أفراد البشر ، وتمر أمام الجميع ولا ينتبهون إليها ، قد يعرفها من يعرف ، والشاطر اللبيب من يشير إليها ويمسك بها ويقدمها للإنسانية على صحن من ذهب ، والصياغة البلاغية قد تعجب كثير من الشعراء ويعارضونها عمداً لا صدفة ، وهنا يجب أن تكون المعارضة لا تقل عن النسخة الأصلية ، لأن فيها شيئاً من التحدي ، كمعارضات أحمد شوقي ( ت 1932م) لسينية البحتري ( ت 284 هـ /897م) في وصف إيوان كسرى :
صُنْتُ نَفسي عَمَّا يُدَنِسُ نَفْسي*** وتَرَفَّعْتُ عن جَدا كل جِبْسِ
أما شوقي فوصف الأندلس ، وآثار مصر على نفس الوزن والقافية والروي :
اختلاف النهار والليل ينسي *** اذكرا لي الصبا وأيام أنسي
ولدالية الحصري القيرواني الضرير ( 488هـ /1095م)،التي عارضها ثلاثة وتسعون شاعراً كبيراً ، فعجزوا عن مجاراتها :
يا ليلُ الصبّ ُ متى غدُهُ *** أقيامً الساعةٍ موعدُهُ
ربّما شوقي كان أفضلهم بقصيدته ، ولكن ما وصل إليها :
مُضْنــــاك جفـــاهُ مَرْقَـــدُهُ *** وبَكــــاه ورَحَّــــمَ عُـــوَّدُهُ
وعارض قصيدة ابن زيدون ( ت 463 هـ / 1071م) ( أضحى التنائي بديلا من تدانينا ) وغيرها ، وكان يروم أن يثبت جدارته ومقدرته . وكان موفقاً ، والمعاراضات كانت معروفة من قبل بشكل عفوي أو مقصود ، وإذا وضع الشويعر القصيدة المٌعارضة أمامه وحبك مثلها تقليدا مشوهاٌ ، فهذه أتعس من السرقة ، أو سرقة مصطنعة مكانها سلة المهملات .
أنا معجب بدعبل بن علي الخزاعي (148 هـ – 246 هـ / 765 – 860م) ، وألفت عنه كتاباُ بأكثر من خمسمائة صفحة ، لأنه صاحب موقف قل وجوده في التاريخ العربي لهجائه المقذع ، وسخريته العجيبة قبل ظهور هذا الفن وأوسمت كتابي المخطوط (دعبل …الوجه الآخر للشعر العربي ) هجا أكبر وأعظم خلفاء بني العباس كهارون والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل بوزرائهم وولاتهم وحجابهم وقادتهم العسكريين والأمنيين ، ولكن مدحه لايقل عن هجائه ، بل أكثر لآل البيت وغيرهم، يشبهه المرحوم هادي العلوي بظاهرة مظفر النواب في هذا العصر ، والنواب تأثر بشعره وثبتت ذلك في كتابي بالشواهد ، مع فارق كان دعبل ملتزماً بخط آل البيت ، إذ كانوا يمثلون المعارضة العقائدية فمدحهم وأطال ، المهم مع هذا لا أوافقه على قوله ورأيه بحق أبي تمام ( 180 هـ – 228 هـ / 796 – 843م) شاعر المعتصم ، ومدحه بقصيدته الرائعة بعد انتصاره بفتح عمورية (223 هـ / 838م ) ، بقوله الشهير:
السيف أصدق أنباءً من الكتب ***في حدّه الحدّ بين الجدِّ واللعبِ ِ
إذ يقول عن أبي تمام لما سئل عنه فقال : ثلث شعره مسروق وثلث شعره صال وثلث شعره غث .
دعبل في عصره كان شيخ الشعراء وأشهرهم و وأكبرهم ، كان ديوانه سبعة مجلدات ، والآن لا يتجاوز ألف ومائتين بيت شعر ، وله (طبقات الشعراء ) لم يصل إلينا ، ولكن قوله في شعر أبي تمام غير منصف ، فهو شعر رائع الصنعة ،متين الإجاز ، قوي البنيان ، ذهب على ألسنة الناس كالأمثال ، وارتقى إلى العقول الرفيعة ، ولكن هنالك بعض الإفراط في الصناعة . زاد على ما بدأه مسلم بن الوليد (صريع الغواني (130 هـ – 209هـ / 747 – 823م), و الإسفاف في بعض المعاني ، وقلنا سابقاً ونعيد اتفق نقاد الأدب قديما وخديثاً : إنّ الشاعر الآخذ من زميله معنى ، إذا ما أحسن عرضه ، وأضاف إليه ، فالسرقة تكون محمودة ، وتسألني لماذا؟ لأن الشعر والنثر الأدبي الرائع ليس معنى فقط ، بل قابلية إبداعية فذة إضافة إلى صياغة وبناء وبلاغة واسلوب ، وهذه أمور مهمة للنص الأدبي .
فأبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي ( ت 370 هـ/ 981 م) الذي سيطر على التراث النقدي حتى عصره. وكان ناقداً بناء، وكان منهجه واضحاً في اكبر اثر نقدي وصل إلينا من آثاره وذلك هو كتاب ” الموازنة بين الطائيين ” ، وما كان منصفاً في أحكامه ، فهو ميال للسيد البحتري ، وكان يؤثر طريقته ويميل إليها.
ومن اجل ذلك جعلها ” عمود الشعر ” ونسبها إلى الأوائل وصرح بأنه من هذا الفريق دون مواربة ، فقد عرض لسرقات أبي تمام من جميع الشعراء ، وخرج بالمجموع (151) بيتا مسروق المعنى ، على نحو تفصيلي. فلما وصل إلى البحتري، اكتفى بكر ما سرقه البحتري من أبي تمام وحسب . (6)
وكتب مهلهل بن يموت ( سرقات أبي نؤاس) .حياة أبي نؤاس بين (145 هـ – 198 هـ / 762 – 813) , وأنا أظن كثيراً أكبر خمس سنوات من العمر المذكور (142 – 200 هـ) ، وأبن وكيع التنيس ألف ( المنصف في الدلالات على سرقات المتنبي ) ، بالإضافة إلى ما ذكر القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني عن السرقات في كتابه ( اوساطة بين المتنبي وخصومه) ، ناهيك عن (الرسالة الحاتمية ) الموسومة (الرسالة الموضحة عن ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره) لمحمد بن الحسن المهلبي صاحب الوزير المهلبي (7) ،هل سمعت لهؤلاء ؟
أما المتنبي فعاش بين (303 هـ – 354 هـ / 915 – 965 م ) ، هذة السرقات المزعومة كلها كلام هراء بالنسبة للشعراء العباقرة ، أنا العبد الفقير لله ، ولا يمكن مقارنتي ولو بقيد شعرة بهؤلاء العظام أقول :
لغة ٌ أطوّعها كبعض أناملي ***أنـّى أشاءُ وأيُّ قول ٍ يملحُ
أما أن تقول لي المتنبي يسرق والجواهري ينتحل ، هذه مسخرة ، لأن هؤلاء حين الإلهام الشعري ، تأتيهم الشوارد من حيث يدرون أو لا يدرون ، يقول المتنبي :
أنامُ ملء جفوني عن شواردها *** ويسهر الخلق جراها ويختصمُ
ويقول الجواهري:
لا تقترح جنس مولودٍوصورته *** وخلـّها حرّة تأتي بما تلدُ
كان الشعراء في ذلك الوقت لهم قدسية ، وعلو مرتبة ، ومنزلة اجتماعية رفيعة ، وحالة مادية هائلة ، وخدم وحشم ، فيحاول بعض المتنفذين من الإشارة للكتاب والحجاب، وربما للخلفاء والسلاطين باتهامهم بشتى التهم كالسرقات الأدبية ، والإلحاد ، والزندقة ، والفسق ، وهم على كل حال بشر ، ولكن تضخم عليهم الأمور ، فلذا أرجوك أن لا تتخيل أني سأقدم لك أمثلة مزيفة عن سرقات هؤلاء الكبار، أبحث عن أنصاف الشعراء ، وأرباع المثقفين ، واللغة كالبحر تهطل عليه القصائد العظيمة ، والنثر الرفيع ، والأدب البليغ ، ويصبح ملك الأمة ، فيحق لكل أديب أن يغرف منه ما يشاء ويحفظ في عقله الباطن والظاهر، ويختمر بذهنه ، ويبدع مستجداً، ويبثه من اللاوعي أو بشكل لا إرادي ، فتخرج كلمة من المتني وثانية من المعري وتالتة من الجواهري ورابعة من العقاد ، وخامسة وسادسة وسابعة مما يعرف ، دون إحساس ولا تقصد ، والسارق من يضع النصوص أمامه ويرتب بلا فهم ولا معرفة , ولا تعب , ولا موروث , ولا دراسة متعمقة ، وهؤلاء هم أنصاف المثقفين ، لذلك قسم بعض العرب اللطفاء الشعراء إلى ثلاثة : شاعر وشويعر وشعرور !! – إن صح التعبير – .
6 – ابن الأثير يذكر لنا أقسام السرقات :
1- النسخ :أخذ اللفظ والمعنى.
2 – السلخ : أخذ بعص المعنى.
3 – المسخ : إحالة المعنى إلى ما دونه.
4 – أخذ المعنى مع الزيادة.
5 – عكس المعنى إلى ضده .(8)
وكلام ابن الأثير لا ينطبق على العمالقة ، وإن بحث في ثنايا شعرهم ، لأن عصره كان يندهش لهذه المعرفةالواهمة ، والمقارنة التي وردت في أبيات شعرهم ، وقد يقع الحافر على الحافر ، أما بالنسبة لغيرهم من المتشاعرين ، فقد يصدق عليهم على أعلب الظن .
7 – أما في الأدب الغربي ، فقبل أن نسلط الضوء على توارد الخواطر بين شعراء العرب ، وشعراء الغرب ، وربما العرب سبقوهم في الأفكار ، ولكن نأخذ بشكل مختصر رأي بعض النقاد الغربيين لإطالتنا في هذه الحلقة ، يقول (نورثروب فراي) ” الشاعر أيضاً كالمؤرخ ، يقلد الأعمال في كلمات ، على الأقل في المسرخيات والملاحم ، إلا أن الشاعر لا يقدم أقوالاً معينة حقيقية …الشاعر لايملك نموذجاً خارجياً يحتذى به ، لذا يحكم عليه بالنسبة لسلامة بنيته الكلامية ، أو تماسكها ” .(9)
وهذا ما ذهبنا إليه سابقاً ، الشعر ليس بتاريخ ، وإنما رؤية جديدة لما يحدث ، أو لما سيحدث ، ويعتمد على الصياغة البلاغية ، ولك أن تقول الكلامية ، فأنت كطرب للكلام الجميل الطروب ، يسحرك بحاسة السمع ، وتتفاعل مع المعاني السامية ، أو الوقائع الجارية ، تنفث همومك ، أو همومك ، أو تنفح سرورك ،
وهكذا يذهب “(غولدمان) (10) : يمكننا أن نكتشف التشابه والتماهي في عدة نصوص شعرية من دون أن يعني هذا التشابه سرقة أو تحايلاً أو تآمراً ” .(11 )
أمّا (الفرد هو سمان) فيذكر : إن الشعر ليس المعنى الذي يقال ، ولكن هو الطريقة التي يعبر بها عن هذا المعنى ، فنفس الفنان تستوعب ما ترى ، وما تختبر ، وتظل تختزن حصيلة ما يصل إليها عن طريق الحواس التي تربطها إحساسياً بالعالم الخارجي ، فضلاً عن الموروث في اللاشعور الجماعي ، ومن هذا الحشد تنبثق سطور الخوالج والمشاعر والغواطف ” .(12)
وقد فصل القول في هذا المجال الدكتور مصطفى سويف في كتابه القيم ( الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة ) بقوله : لذا في ضوء هذه المكتشفات أسقط النقد الأدبي الحديث فكرة السرقات .(13)
وعلى أساس فكرة التأثر والتأثير بين الآداب قام صرح الأدب المقارن ، ولما ألغينا فكرة سرقة المعاني لدى الشعرا الشعراء التي شغلت أفكار واهتمام القدماء لعدم توفر الكوامن النفسية ،ونتائج علم النفس الحديث وحقائقه ، يجب أنْ لا ننسى نصيحة الأصمعي الذكية لأبي نؤاس ، وأن لا نضع قصيدة شاعرآخر أمام أعيننا ونبني على أساسها معاني قصائدنا وتشكيلها , مثل ما يقال عن إيليا أبي ماضي – والله أعلم –
نعم يسمح للمبتدئين أن يقوموا نفسهم ، ويسألون ويجدون ، والشعر ليس بصعب على الموهوبين بهذا المجال , استميحكم عذراُ لتكملة الموضوع في الحلقة القادمة ، والمقال طالت طوائله، وأخشى من ملل القارئ الكريم ، تحية لصبركم وكرمكم .
توارد الخواطربين عباقرة العرب والغرب تلميحاً
8 – قصة ( حي بن يقظان) لابن طفيل ، وكتاب الأب اليسوعي (جرثيان) سرقات أم توارد خواطر؟!!
أسبقك القول ..!!
وإنْ كانت تعمداً قُبستْ ، فهي تخضع لنظرية التأثر والتأثير، وليست بسرقات ، لأنها لم تنقل شكلاً ومضموناً ، والتشكيل في الأدب العربي والعالمي هو الأساس بأسلوبه وسحره وفنّه وجماله ، فالأسلوب هو الإنسان نفسه كبصمات الأصابع أو أضبط !! وإلّا فالمعاني مطروحة على أرصفة الشوارع على حدّ تعبير الجاحظ العظيم …فالسيرة النبوية هي السيرة نفسها ، ولكنها كتبت بمئات الأقلام ، والتشكيلات النتباينة ، ومثلها قصص الأحداث العالمية الكبرى ، وأذواق الناس أجناس …. !!
من توارد الخواطر أنّ قصة ( حي بن يقظان) لابن طفيل (495 هـ – 581 هـ / 1100 – 1185م) الذي ولد قي (وادي آش) كما يسمى اليوم (14) على مسافة 53 كم من الشمال الشرقي من قرطبة ، وتأثر بابن باجة ، واشتغل بحضرة ابن يعقوب يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن القيسي سلطان الموحدين ، وهو الذي أوصل ابن رشد إلى السلطان أبي يعقوب ، وتوفي في مراكش، وإن قصتة (حي بن يقظان) ، كانت من أوفر الكتب حظاً من التقدير والعناية والتأثر في أوربا في العصر الحديث ، ويثبت فيها لقاء المعقول والمنقول حيث حي بن يقظان وصل للهداية بالمعقول و(أبسان) وصل إلى الهداية بالمنقول ، وهكذا أن العقل والنقل متفقان ، وكذلك أن الدين والفلسفة متفقان ، والدين حقٌّ ، والحقّ لا يتعدد.
ومن العجيب أن الأب اليسوعي (جرثيان) نشرما بين السنوات ( 1650 – 1653م) كتاباً بعنوان وسمه …..(15) ، والنصف الأول منه يشبه تماماً قصة (حي بن يقظان) ، فهل كان ذلك عرضاً واتفاقاً؟!!
هذه مستبعدة لشدة التشابه في كليهما ، لكن كيف عرف جرثيان بقصة حي بن يقظان ، وإن ترجمة (كوك) لم تظهر إلا في سنة (1681م) ، وكذلك لم يظهر النص العربي إلا سنة (1681م) ، فكيف عرف جرثيان بالقصة ، وهو لم يكن يعرف اللغة العربية؟ !!
هذا ما نشرته في كتابي (للعبقرية أسرارها…) (16) ، الصادر من دمشق عام (1996) ، وقد أوجزته من ( موسوعة تراث الإنسانية) (17) ، ووقعت عيني هذة الأيام على كتاب للدكتورة بسمة الدجاني (18) ، ولكنهم لم يعلقوا ، والسرقة واضحة في فكرتها تماماً، وسردها الدقيق ،لو كان الأمر معكوساً لأتهم العربي المسلم بالسرقة ، ولقامت الدنيا وما قعدت ، لأهمية الموضوع الإنساني وإبداعه المتناهي ، أما كيف وصل الكتاب وتـُرجم ، فهنالك ألف طريقة وطريقة ، وكان الأجدر بجرثيان أن يوضح الأمر ، ولكن لم يكن بعيد النظر لتطور الزمان بهذا الشكل السريع ، نعم سرقة واضحة المعالم لا تقبل النقض ، ولكن نعود لنقول من قبلُ ( من يعرف فطيمة بسوق الغزل) ، تاهت الأمور وبقت السرقة.
9 – أبو العلاء المعري ( 972 – 1057م و (رسالة غفرانه) …ودانتي الإيطالي (1265 – 1331) و ( كوميديته الإلهية) تأثر أم توارد خواطر !!
وإليك مثال آخر ، فهذا أبو العلاء المعري أخذته الهواجس والخيال ليستقلب التاريخ في (رسالة غفرانه) التي تستوحي الفكر الإسلامي ، والتراث العربي فيها ، وهي مكمنة في لا وعيه ، وفي وعيه ، ولا أعتقد قد تأثر بإسطورة أخرى لثلاثة أسباب ، فقد جاءت الرسالة مباشرة دون تخطيط مسبق ، فكان في شغل شاغل عنها ، ولم يكن في خاطره ، الكتابة عن العالم الأخر لولا رسالة علي بن منصور الحلبي (ابن القارح) ، ثم أنه ما كان يجيد اللغات الأخرى إلا لماما ، وأفكار رسالته إسلامية عربية بحتة ، وتأثر بعصره المتشيع حيث الفاطميين والحمدانيين والبويهيين ، إذ خطر ببال المعري أن يقوم بنزهة في دار البقاء ، فبعث من قبره ووقف في الخلائق في ساعة الحشر لمدة ستة أشهر حتى نظم قصيدة في مدح الإمام علي على منوال ما يحدث في الدنيا ، فلم تقبل منه ، واستنجد بحمزة سيد الشهداء ، فحوله إلى الإمام علي بن أبي طالب ، فقال له الإمام : لك إسوة بابناء أبيك آدم ، وبعد جهد جهيد وصل إلى النبي (ص) ، فاستجار به فأجاره ، ودخل الجنة فتحادث مع الشعراء والأدباء واللغويين ، ثم قصد زيارة الجحيم ، ويطلع على أبليس – لعنه الله – مضطرباً في الأغلال والسلاسل ويلتقي ببشار وامرئ القيس .
أما القسم الثاني من رسالة الغفران يتناول المعري المسائل التي وجهها إليه ابن القارحفيجيبه عليها بالتفصيل ، ويتطرق إلى مواضيع أخرى لم يسأل عنها كالزمان والمكان والتناسخ و القرامطة ومذهب الحلول والذي يجب أن يقال قي هذا الصدد ونؤكد عليه ، إن رسالة الغفران لأبي العلاء مستوحاة من ذهنه ، وقدحت من قريحته ، وبينا الأسباب سابقاً ، تدل الرسالة على سعة علمه في جميع أصناف المعارف ، ووقف فيها موقف الناقد الساخر.
أمّا دانتي الإيطالي (1265 – 1331) ، نظم (الكوميديا الإلهية) وهي مائة نشيد يروي فيها دانتي قصة رؤيا ، زار فيها الآ خرة يتصور وجوده في غابة مظلمة موحشة ثم وجد نفسه على سفح تل ، وتطلع إلى ضوء الشمس وأراح نفسه ، ولكن سرعان ما اعترضت طريقه فهدة مرقشة ( رمز نوايا الحسد) ، ومرّ بأسد رمز ( الكبرياء والعنف) ، وتعترضه ذئبة جائعة رمز (الجشع) ، إلى هنا ينطلق من بيئته الإيطالية بجبالها وغاباتها وحيواناتها الضارية، وهي ترمز بسلوكها إلى سلوك عينات من البشر ، لم تكن أقل منها وحشية وجشعاً ، ويواصل صعود التل ويترائ له شبح الشاعر (فرجيل) (شاعر إيطالي 70 ق م – 19 ق م صاحب الإنياذة) ، واستنجد به حتى وصل إلى (جهنم) ، ويصل بعدها إلى ( النعيم) ، وكانت (بياتريس) حبيبته في الأرض الملاك الجميل التي تزوجت من غيره ، وتوفيت (1290 م) هي مرشدته في الجنة بإيعاز من فرجيل .
المستشرق الأسباني المختص بالدراسات العربية المدعو ” ميجوبل آسين بلاسيوس” ، وكان في شرخ شبابه آنذاك ، أكد بإصرار عجيب على علاقة رواية (المعراج الإسلامية) ، والعقائد الإسلامية مثل الحشر و النشر والجنة والنار في الكوميديا الإلهية ، وتأثر دانتي في ذلك بـ (ابن عربي) ، ولكن أكد أسين في نهاية بحثه أنّ هذه العلاقة لا تنقص من عبقرية دانتي ، والإيطاليون كانوا منشغلين برؤية نظرية النقد والجمال الفني ، فلم يعيروا اهتماماً لبحث أسين وكتابه (فكرة) ، ولكن هل كان دانتي يلم بالعربية بحيث يعرف نصوص ابن عربي وأبي العلاء المعري الصعبة ، وأسين يجيب ربما عثر دانتي على ترجمات تتناول هذه المفاهيم الإسلامية ، حملها معه (برونيتو) ، ثم وصل عالمان أحدهما أسباني والآخر إيطالي لم يعرف أحدهما الآخر، ثم تعارفا و نشرا خلال هذه السنوات النصين اللاتيني والفرنسي لكتاب إسباني عربي يدور حول فلسفة الحشر العربية الإسلامية. وقد ثبت أن هاتين الترجمتين كانتا معروفتين في إيطاليا في القرن الرابع عشر(19) .
10 – توارد الخواطر بين عباقرة العرب وعباقرة الغرب :
وعلى السريع ، ودون تفصيل ، ومن أراد التفصيل مراجعة كتابي (للعبقرية أسراها …) ، الفصل المخصص لتوارد الخواطر عند العباقرة ، فأبو العلاء الذي يقول :
أمس الذي مرّعلى قربه ***يعجز أهل الأرض عن رده
والشاعر الروماني (ايتزيك ….ولادة 1900م) الذي عاش في القرن العشرين يقول في مطلع قصيدته (انشودة الطاووس الذهبي ) والتي ترجمها د. صفاء خلوصي : ” وهكذا طار الطاووس الذهبي ضارباً في الآفاق مشرقاً باحثاً عن أمسه الدابر ” ، والمقارنة لكاتب هذه السطور.
هنالك فكرة واحدة هدفها أن يعيش الإنسان بسعادة وهناء في مدينته أو دولته ، كل مؤلف يكتب ما يرتأيه حسب ييئته وعقيدته وزمنه وثقافته وفلسفته ومدى تشعبه في سبك معلوماته لعلاقة الناس مع بعضهم ومع دولتهم ، وصفات قاداتهم وطبقاتهم،تربط بين (جمهورية أفلاطون) ألفه سنة 360 ق. م. ، إذ قسم المجتمع إلى طبقات ، ولكل طبقة فضيلتها فللتجار والحرفيين ضبط النفس ، وللحراس الشجاعة ، للملوك الفلسفة ، والعدل يضم الجميع ، و(المدينة الفاضلة ) للفارابي محمد بن محمد طرخان (873- 950م) عاصر سيف الدولة الحمداني ، وعاش من بعده ، وعاصر المتنبي ، جامل سيف دولته في مدينته، رغم أنه عاش عيشة الكفاف وكان زاهدا في دنياه ، ومن عجيب قفزاته الفكرية طالب بالعدل ومنح الدرهم والدينار للسكان ، بل ألزم الدولة بإلزامية التعليم المجاني لهم ليتمتعوا بالمعارف الضرورية لتعايشهم ، وتحقيق إنسانيتهم في الدنيا العاجلة ، والآخرة الآجلة. (20)
أمّا الكتاب الثالث (يوتوبيا ) الدولة المثالية أو المكان الذي لا وجود له من تأليف (توماس بور) ، وهو من مواليد لندن (7 /2 / 1478م) ، وألقي من برج لندن بعد أن حوكم وأزهقت روحه في ( 6 /11/ 1535م) في عهد الملك هنري الثامن ، أنّ الكتاب المذكور (يوتوبيا) ، ليصلح الأخطاء الأجتماعية في انكلترا ، طالب بفترة العمل ست ساعات ، ويريد تحكيم العقل في السياسة في السياسة القومية والعلاقات الدولية ، وأشد ما يرعب فيه (مور) محو الذهب ، والفضة من الحياة الإقتصادية ، وعلى لسان الفيلسوف (روفائيل هيتلوداي) يذكر عدم الرغبة في المال أو السلطان وعدم مصاحبة الملوك لاهتمامهم بالحروب لتوسيع ملكهم (21) ، وعارض طلاق هنري الثامن من زوجته كارتين أراغون ، وهيمنته على الكنيسة ، فحبس وقطع رأسه.
وأبو نؤاس (762 – 813م / 145 هـ – 198 هـ ) الماجن الوجودي العابث الذي آمن في أواخر حياته :
رضيت لنفسك سؤاتها *** ولم تأل جهداً لمرضاتها
وحسنت أقبح أعمالها*** وصغرت أكبر زلاتـها
وهذي القيامة قد أشرفتْ**تريك مخاوف فزعاتها
وقوله :
أشرب فديتْ علانية***أم التستر زانية
هو الذي يقول :
يا كبير الذنب عفْـــوالله عن ذنبك أكبرْ
ولا أطيل معك وشعر أبي نؤاس مليء بالتناقضات مابين شعره في مدى حياته حتى أواخر حياته بعد إيمانه الصادق ، وهذه تنطبق مع الوجودية المؤمنة التي تزعمها الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد بعد أكثر من ألف عام (1813 – 1855م) حيث يقول ” إنّ شعورنا بالخطيئة ليس شيئاً آخر سوى شعورنا العميق بوجودنا ، إن الذات تؤكد وجودها بالخطيئة التي تقودنا إلى أعتاب الوجود الديني الصحيح ، والرجل الخاطئ والمذنب لابدّ أن يجد نفسه وحيداً وهو لا بد أيضاً من أن يتأمل حريته في صميم تلك تلك الحرية ” (22)
نعم أبو نؤاس وصل في آخر حياته بعد تشبعه بالمعاصي والمجون إلى التوبة الصادقة :
من لم يكن لله متهماُ*** لم يمس ِمحتاجاً إلى أحدِ
وهنا أيضاً ” (لوثر) يلتقي مع أبي نؤاس في الوقوف مع الله عند الشعور بالخطيئة والإثم ، هو السبيل إلى الإيمان أو الوصول إلى ما يسمى بدوائر الإيمان العليا, وأنه ينبغي أنْ يمرّبعذاب الضمير ، وعذاب الضمير الناجم عن الشعور بالخطيئة هو الذي يحقق ما يسمى بالوجود أمام الله ” (23)
طال الموضوع ولابد من الإختصار بعد أن تكلمنا عن السرقات والمعارضات ونظرية النقد الحديثة (التأثر والتأثير ) وأهمية التشكيل اللغوي في الإبداع،وأخذنا (السياب ) مثلاً.
4 – إشارة لتوارد الخواطر بين عباقرة العرب والغرب :
:أ – نرجع إلى أبي نؤاس (813م) ، تتجلى تتوار الخواطر بين قول أبي نؤاس
دارت على فتية دار الزمان بهم ***فما يصيبهم إلا بما شاءوا
وهذا يشبه قول (غوته – ت 1832 م ) الألماني ” الحكمة هي أن يجعل الإنسان ارادته فيما يريد له القدر حتى إذا أصابه بشيءٍ كان كأنما شاء أن يصيبه القدر ..” (24)
ولابن الرومي ( ت 896 م )، في هذا القدر أقوال منها :
والناس يلحون الطبيب وإنما ***خطأ الطبيب إصابة الأقدار
فعندما والد الجواهري الشيخ عبد الحسين قاربته المنية استشهد بالبيت السابق ، ويقول الجواهري في (ذكرياتي ج1) ، بقيت ثلاث سنوات حتى عرفته للعبقري الخالد ابن الرومي ، والأخير أيضاً نظمه قبل وفاته ( ت 283 هـ ) .
:(ب – ويقول الشاعر الألماني (فون أرنت
Der Gott der Eisen Wachsen Liess
Der Woilte Kelue K nechte
ومعناه ” والذي أنبت الحديد من الأرض أبى أن يكون في الأرض عبدُ ” ، وذكر أبو العلاء قبل ألف عام من قول أرنت :
والله إذ خلق المعادن عالم *** إنّ الحداد البيض منها تصنعُ (25)
ومن يتأمل يرى أن أبا العلاء عمم (المعادن) ، ولم يحرر المعادن من العبودية فقط ، بل جعلها سيدة مسلطة على رقاب الكائنات …!!
: ( ج – وكذلك يقول الشاعر الفرنسي الفريد موسيه (ت 1857م
L’hommer evirnt toujours
a’ ses premiers amours
هو نفس ما قاله الشاعر أبو تمام ( ت 843م) ، قبل أكثر من ألف عام :
كم منزل في العمر يألفه الفتى *** وحنينه أبداً لأول منزل ِ. (26)
د – وقد جاء في أثار الشاعر الأنكليزي ريتشارد بارنفيلد (1627 م) : صديقك الحق هو الذي يهرع إلى معونتك ، إذا ألمت بك شدّة.
ربما المعنى مطروق لدى كل الأمم ، ولكن كصيغة شعر من شاعر عربي كبير ، فقد قال بشار بن برد (ت 784 م) :
خير إخوانك المشارك في الضرِّ*** وأين الشريك في الضرّ أينا
الذي شهدت سرّك في الحيِّ *** وإذا غبت كــــــان أذناً وعينا
: هـ – وجاء في بعض آثار الخطيب والسياسي الروماني سيشرون ( ت 43 ق . م)
Birds of afeather flock togather
وتعني الطيور ذوات الريش المتشابهة , يألف بعضها بعضاً, ويقول المثل العربي ( إنّ الطيور على أشكالها تقع) ، ويقول المتنبي ( ت 965م)
وشبه الشيء منجذبٌ إليه *** وأشبهنا بدنيانا الطغامُ (27)
و – ويقول الشاعر الأنكليزي درايتون (عام 1596م ) :
كثيرا ما يموت الجبناء
Gow ardsdie often
وبعده بثلاث سنوات (1599 م) ، قال شكسبير في مسرحيته ( يوليوس قيصر)
“الجبناء يموتون عدّة مرات قبل أن يدركهم الموت ”
ويقول المتنبي :
وقد يترك النفس الذي لا تهابه *** ويخترم النفس التي تتهيبُ (28)
و فاعلا (يترك) و (يخترم ) هما ضميران مستتران تقديرهما (هو) يعودان على الموت ، وهنالك مثل عربي شائع ( أطلب الموت توهب الحياة ) ، ونذكر قول ابن الرومي الرائع :
وإذا أتاك من الأمور مقدرٌ*** وهربت منه فنحوه تتوجهُ
والمسكين بالرغم من معرفته بالأمور أراد أن يهرب من الموت بتملقه للوزير القاسم ابن عبيد الله ،ووقع في الفخ فاستضعفه ابن عبيد وأكله ، فسمه الوزير بخشتنانة على يد اللغوي ابن فارس (283 هـ / 896م) ، معرفتك بالمرض لا يعفيك من الموت به !!
على حين دعبل الخزاعي كما ذكرت في الحلقة السابقة هجا كبار الخلفاء والوزراء والقادة والولاة ، وكان يقول ” لي خمسون عاماً أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها ، فلم أجد” ، وعمر طويلاً كاد أن يبلغ القرن من الأعوام (148 هـ – 246 هـ / 765- 860 م) . …وكلّمن عليها فانٍ ، ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
wner\Desktop\ (1) – ريوقي عبد الحميد : مدونة اللغة والأدب ( السرقات الأدبية و توارد الخواطر ) ، لم يذكر المصادر والمراجع سوى أرقام .
(2) المصدر نفسه .
(3) (ابن الرومي حياته وشعره ) : كمال أبو مصلح ، تقديم المازني ص 31 – 1987 م – المكتبة الحديثة.
(4) ( للعبقرية أسرارها …) : كريم مرزة الاسدي ص 154 – 155 – دار فجر العروبة – 1996م – دمشق ، نقلا عن (مجلة العربي ) العدد (94) مايو – 1983 – مقال بقلم توفيق أبو الرب .
(5) (للعبقرية أسرارها …) : المصدر نفسه.
(6) راجع عن (الآمدي)
http://www.dahsha.com/old/viewarticle.php?
(تلخيص كتاب النقد الأدبي عند العرب ) : إحسان عباس – الفصل الثاني .
(7) بعض الأفكار مأخوذة من مقال لكاتب هذه السطور من حلقة واحدة ، نشر في جريدة (الوطن)العراقية , تحت العنوان نفسه في العدد (39) بتاريخ : (1 أيار 1996م) .
(8) المصدر نفسه .
(9) (الماهية والخرافة – دراسة في الميثولجيا الشعرية ) : نورثروب فراي ص 83 ترجمة هيفاء هاشم – منشورات وزارة الثقافة – 1992 – دمشق.
(10) ربما يقصد الكاتب الآتي ذكره ( لوسيان غولدمان)(1913 – 1970) ، وهو فيلسوف فرنسي يهتم بعلم الاجتماع الأدبي ، ويعتبر من أهم وجوه البنيوية التكوينية ، لآن هنالك عدة علماء يحملون اسم (غزلمان.
(11) جريدة الوطن : مقال بقلم ناجي خسين – مقال تحت عنوان (تحامل أم ماذ ؟ !!!) العدد 39 ص (14) .
(12) ( إليوت) : الدكتور فائق متي ص 58 م. س.
(13) المصدر نفسه ، وراجع ( الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة ) : د . مصطفى سويف – دار المعرف – ج .م. ع .الطبعة الرابعة – بلا.
(14)(GUADIX)
)15) (ELCRITICOR)
(16) (للعبقرية أسرارها …) : كريم مرزة الاسدي ص144 م. س.
(17) (موجز موسوعة تراث الإنسانية) : م 1 ، ص 222 عدد من المؤلفين – 1994 – 1995م – الهيئة المصرية .
(18) ( دور الترجمة في حوار الحضارات …) : د. بسمة أحمد صدقي الدجاني ص 158 نقلاً عن…. م . س.
(19) مجلة التراث العربي- مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب – دمشق العدد 41 – السنة 11 – تشرين الأول “أكتوبر” 1990 – ضوء جديد على دانتي والإسلام* – فرانسسكو غابريلّي – ت.د.موسى الخور.
(20) (الفارابي فيلسوف الإسلام) المستشارية الثقافية في دمشق ,مقال بقلم الدكتور حسن نصرالله ص 314 ، ومقال بقلم الشيخ محمد جعفر شمس الدين ص 32 – 35 راجع.
(21) (للعبقرية أسرارها) : ص 147م. س.
(22) ( أبو نؤاس) : أحلام الزعيم ص 167 ، ( الفلسفة الوجودية : الدكتور زكريا إبراهيم ص (41 – 43) .
(23) (الأدب وقيم الحياة المعاصرة) : الدكتور محمد زكي العشماوي (ص 57)
(24) ( أبو نؤاس – حياته وشعره ) : ص 20 مقال بقلم الأستاذ عبد الرحمن شكري.
(25) للعبقرية أسرارها …) : ص 153 مصدر سابق .
(26) (سعدي الشيرازي ) : نيسان 1985م مقال بقلم الدكتور عمر فروخ في مؤتمر بدمشق.
(27) راجع (للعبفرية أسرارها …) : ص 154 مصدر سابق نقلاً عن : (مصابيح التجربة ) : منير البعلبكي ص 8 ،21 ,28 ملحق (قاموس المورد .)
(28) المصادر نفسها .