تُمثل السياسة في زمننا المعاصر, محورا مهما من محاور الصراع الذي تتناوله نظريات علم الإجتماع السياسي بإسهاب وتفصيل, حيث باتت في جزئها الظاهر تمثل, أو تعني المعركة أو الصراع على السلطة بين جماعات مختلفة أو بين جماعات وأفرادا.
وعادة ما يتميز هذا النوع من الصراع, بتأسيسه إبتداءا على أسس نظرية قيمية أخلاقية عالية, تمثل الدافع أو المشروع الأساس الذي تنطلق منه عملية الصراع السياسي؛ إلا أن الجزء الأكبر من هذا الصراع, إتخذ نمطية المصالح النفعية لأصحابه, مع عدم إنكار وجود مشاريع سياسية سلطوية حقيقية, يمكن عدها مشاريع بناء فعالة في تأريخ السياسة المعاصر.
انقسم مفهوم السلطة في السياسة المعاصرة إلى أقسام كثيرة ومتعددة, لكن هناك نمطين رئيسيين يمثلان الأساس الذي انبثق منه مفهوم السلطة, أو اللذان تمحور وتركز حولهما مفهوم الصراع على السلطة, وهما : السلطة المنبثقة من إرادة السيطرة الفردية أو الاستبدادية التسلطية, والنمط الثاني هي السلطة المنبثقة من حراك مجتمعي سياسي, ناتج عن وعي جماهيري غير مسيطر عليه من الطرف الأول.
أثبتت نظرية ستانلي ميلغرام (عالم الاجتماع السياسي الأمريكي) في دراسة سلوكية للطاعة الناتجة عن شكل السلطة, بأن هناك عملية انصياع مباشرة لأفراد المجتمع تجاه الأوامر السلطوية التي تصدر لهم, حيث أثبتت نظريته, بأنه وكلما كان نمط وشكل الأوامر الصادرة, أو الإيحاءات الصادرة عن سلطة ذات شكل أو جوهر صارم واستبدادي, فإن ردة فعل الأفراد ستكن طاعة إيجابية, حتى وإن كانت هذه الأوامر تقود الأفراد إلى ارتكاب أخطاء إنسانية تصل للتعذيب اللإنساني, والقتل في بعض الأحيان, دون أن يكون هناك مبرر عداء أو انتقام أو طمع لهؤلاء الأفراد, لكي يقوموا بهذه الأفعال, سوى أن الأوامر التي أتتهم, أو التي أوحي لهم بها, هي التي قادتهم لهذا الفعل !
في مجتمع كالمجتمع العراقي, نجد أن مفهوم السلطة لديه, يعيش في كل أدبياته العقلية والتربوية والوجدانية, فمعادلة الإنسان في هذا البلد قائمة على وجود (آمر- مأمور), لأن الوعي المجتمعي (الثقافي والسياسي) لم يصل لمرحلة التكامل الذاتي, والنظر إلى الذات الفردية على أنها مشروع (إلهي, أولا؛ ووطني, ثانيا) , بل كل فرد منا إلى الآن يحتاج إلى أن يكون تابعا لسلطة أمر أو كبح خارجي (خارج ذاته), لتعديل أو ترويض الإرادات والأفعال, والمقصود هنا كل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والقانونية.
تجربة جديدة جدا, أن يكون هناك تيار سياسي شبابي عراقي, حاول أن يعبر مراحل هذه التراتبية السلطوية, من خلال إيمانه بأن الفرد هو مشروع إلهي متكامل, ومشروع وطني متكامل, حيث ان مبدأيته السياسية قد قامت على مبدأ أن الحزبية في هيكلته, هي حزبية تمكين وليست حزبية سيطرة أو تسلط الآمر والمأمور (كالنمط الأول الذي ذكرناه في بداية المقال), بل يحاول (وإن كانت عوامل الفشل الاجتماعي والسياسي, تحيط بمشروعه أكثر من عوامل النجاح) أن يجعل من الفرد السياسي في العملية السياسية في هذا البلد, عبارة عن سلطة بذاتها, يقودها وعي متقدم, لا يمكن رهنه بقرارات سلطوية عليا تتحكم به من خلال مؤثرات دينية أو كارزمية أو عرفية أو حتى علمية.
قد لا يعي الكثير من المثقفين أهمية وخطورة هذا النمط من العمل الحزبي السياسي, لأنه وبصراحة نمط جديد كليا على أدبيات العمل السياسي في العراق بل وفي المنطقة, لأن هذا النمط من العمل الحزبي (في حالة كتب له النجاح المستقبلي), سيحول المجتمع السياسي إلى مجتمع (وعي) مكتفي بذاته, يستطيع إدراك الحقيقة السياسية دون الحاجة إلى مؤثرات سلطوية آمرة, تجعله بخانة المأمور الذي يطبق دون وعي أو فهم, أي من المفترض أن يتحول إلى مجتمع سياسي ليس بحاجة إلى أبطال يقودونه ! فقد توصل ستانلي ميلغرام إلى أن المجتمع الذي ليس بحاجة إلى أبطال (حالة من أسر الوعي والذهن والسلوك), هو أفضل بكثير من المجتمع الذي يكون بحاجة إلى أبطال كُثر !
*دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.