الهجرة من الأوطان من الآفات التي ابتليت بها الشعوب التي وقعت ضحية الاستعمار، والحروب الأهلية، وضياع مفهوم الدولة، وغياب الحرية الفكرية، ولا أظن أن أمة ابتليت بمثل هذه الآفات إلا واضطر الكثير من أهلها للهجرة منذ بدء الخليقة وحتى اليوم.
وقد مرّ العراقيون بمراحل عديدة للهجرة من بلادهم، ويمكن تقسيمها إلى أربع هجرات رئيسية:
الهجرة الأولى: تمثلت بمرحلة ما بعد الغزو العراقي للكويت في العام 1990، فبعد أن وجد العراقيون أنفسهم- في تسعينيات القرن الماضي – أمام كارثة الحصار الدولي نتيجة الغزو اضطر الآلاف للهجرة بحثاً عن لقمة العيش، وجرعة الدواء، والتماس حياة كريمة.
الهجرة الثانية: كانت مع انتهاء الحصار الدولي وبداية الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، الذي سحق معاني الحياة، وهشم القيم الإنسانية في بلاد ادعى أنه جاء لنشر الحرية في أرجائها، وكانت الهجرة النتيجة الحتمية لنمو الظلم المتنوع الأساليب والأنماط، وغياب الأمن، واستفحال مفهوم اللادولة، وحملات الاغتيالات، والاعتقالات، والتهجير الرسمي وغير الرسمي؛ ولهذا وجدنا أكثر من مليون عراقي اضطروا للهجرة إلى بلدان العالم القريبة والبعيدة.
الهجرة الثالثة: وقعت بعد العام 2006، وبالتحديد في بداية شباط/ فبراير، وبعد جريمة تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، والتي كانت واحدة من الجرائم المدروسة بعناية، وآتت ثمارها الخبيثة، بشكل كبير جداً.
في هذه المرحلة اختلط الحابل والنابل، ولم يعد المواطن يأمن على حياته وبيته وشرفه، وكانت المليشيات – وعلى مدى أكثر من ثلاث سنوات- هي الحاكم الفعلي في الشارع العراقي، وذلك كله على مرأى ومسمع من القوات المحتلة؛ ولهذا اضطر أكثر من ثلاثة ملايين مواطن للهجرة إلى المنافي القريبة والبعيدة للحفاظ على حياتهم وشرفهم، وهذه الحقيقة أكدتها الأمم المتحدة في العام 2007، والتي قالت إنها” أمام هجرة لم تقع في الشرق الأوسط منذ العام 1948″!
الهجرة الرابعة: تمثلت بمرحلة سيطرة تنظيم ” داعش” على العديد من مدن العراق، ومن ثمّ انطلاق معارك” التحرير”، التي حرقت الأخضر واليابس، ولم تفرق بين المدنيين والعسكريين، وهنا كانت المرحلة الأخيرة من الهجرة الداخلية والخارجية للعراقيين.
الإحصائيات عن أعداد العراقيين في الخارج غير دقيقة؛ وذلك لأن نسبة ما من العراقيين ذابت في المجتمعات التي هاجرت، أو هُجرت إليها، وبالمحصلة لا توجد إحصائيات دقيقة لأعدادهم في الخارج، ويمكن القول – وبحسب إحصائيات سابقة لمفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة- ” هناك أكثر من أربعة ملايين لاجئ عراقي في جميع أنحاء العالم”.
وزارة الهجرة والمهجرين في العراق لا تمتلك إحصائيات عن العراقيين في الخارج، بل جُلّ ما تقوم به هو إحصائيات تقريبية لأعداد العراقيين المهجرين في الداخل، فيما نجد أن الوزارة تغض الطرف عن العراقيين في الخارج، وهذا خلل إداري حكومي منذ العام 2003، لا يمكن تفهمه مطلقاً!
بالعودة إلى موضوع المقال وهو عن (المهجرين العراقيين والعيد)، فأظن أن نسبة ليست قليلة من العراقيين ما زالوا حتى اليوم غير مندمجين في المجتمعات التي رحلوا إليها لأسباب سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية؛ وبهذا تبقى المناسبات المتنوعة- ومنها العيد- من أسباب تجدد الهم، والألم، والشعور بالضياع، بسبب الحنين إلى الوطن، وحالة عدم الاندماج.
العراقيون المطاردون، أو المهجرون في دولة العالم المختلفة هم – في الغالب- في نظر الحكومة إما من الإرهابيين، أو المخربين، أو غيرها من الصفات الباطلة الماحقة لإنسانية الإنسان، والطاردة لحالة الالتصاق بفكرة العودة إلى الوطن لأنهم – أي حكام بغداد- لم يُفكروا بترميم أرضية العودة للمغتربين بل على خلاف ذلك هم يُزيدون من حجم الهوة التي تفصلهم عن الوطن، وكأنهم يقولون لهم لا تفكروا بالعودة إلى العراق!
العيد له جملة من المعاني الخاصة به، ومنها التصافي والتلاقي والتهادي والتسامح والتكاتف، وتناسي الهموم والأعمال، فهل هذه المعاني موجودة في ديار الغربة؟
العراقيون في دول العالم المختلفة يأملون أن يكون عيدهم الحقيقي بالعودة إلى حضن الوطن والخلاص من حالة الضياع الفكري والنفسي والجسدي وعليه ينبغي على المجتمع الدولي والمنظمات ذات العلاقة السعي لتوفير الأرضية الصالحة لعودة المغتربين وبخلاف ذلك سيبقى الملايين من العراقيين المهجرين في شتات الأرض في حالة ضياع تام سواء في أيام الأعياد، أو غيرها.