عندما كنا في الزمان القديم نجوعُ ونظمأ كنا نضعُ قصائدنا في التنانير ونخبزها كالرغيف، كنا نضع عليها أدامَ الأساطير ونأكلها، ثمَّ نشرب بعدها الخمور المعتَّقة من دنان الموت، كنا نبارزُ أعمامنا وأخوالنا، ونرى الحقَّ يلمع في صفحات السيوف، كنا نموت مراراً ونحن نحفل بالحياة، نحفل بها جداً جداً، حتى أنَّ قتيلنا كان يبقى يرفرف بجناحيه فوق القبر أعواماً طوالاً إلى أن تأتيه روح قاتله فيحجر عليها عنده في الجحيم!
لم تك الأساطير آنذاك تعبر الفضاء إلى الكواكب الأخرى بأجنحةٍ من حديد، كنا نطير نطير وخلفنا الأرض أجمعها زوّادةً وقربةَ ماءٍ، ولم نكُ هكذا نتحرَّج من عناق أقمارنا وهنَّ في أحضان أزواجهنَّ، كنَّ يتقنَ إلينا كثيراً كثيراً، وكنا نتوق إليهنَّ كثيراً كثيراً كذلك، فإذا ما حدث أن سئمننا مرَّةً حدَّثناهنَّ عن رؤوسنا كيف تفارق أجسادنا وهنَّ يرقصنَ فوق صفاح السيوف، كنَّ يبتهجن فيأخذننا بالعناق الطويل الطويل.
يا لروعتهنَّ، أعني الأساطير، حين كنا نستبق ليلتنا في المراعي ونحن نضمر أن نقتل يوسف أو أن نضعه في جبِّه، كانت الأساطير تبكي طويلاً طويلاً، وكنا نهدهدها بقصائدنا بعد منتصف الليل، قصائدنا بعد منتصف الليل ليست من إيحائنا نحن، قصائدنا بعد منتصف الليل كان جبريل يوحي بها فلا يكون من مهمَّتنا سوى إنشادها.
حدث مرَّةً أن تأزَّم جبريلُ جداً، تأزَّم من طريقة إنشادنا لقصائده بعد منتصف الليل، قال إني لويتُ عنانَ الكلام، وسأرحل عنكم قريباً، سأرحل حتى لا أعود مرَّةً أخرى بجنس القصائد، أوجعتني القصائد، أدمت جناحي، أراقت مياهَ عيوني فلم تتحوَّل بحاراً، بل أصبحت في أعين الليل كعيون ميدوزا حجر الكلس لا غير.
عاد جبرائيلُ إلينا، جناحاه لم يعودا مثلما كانا من قبلُ مشتقَّينِ من قمرٍ في الصحارى، جناحاه الآن ضوءٌ ثاقبٌ جداً مشتقٌّ مما هو أبعد من الضوء كثيراً، قلنا نعرفك، قال من أنا؟ قلنا أنت الصاحب القديم القديم الذي كان يشرب معنا لبن الإبل المضيئة، لم يقل شيئاً، وأخرج من فمه سحباً وقال اشربوا منها ولا تبطروا، أتيتكم بالحياة الحياة، فإن شئتم أن تناموا إلى آخر العمر فليس عليكم جناحٌ شريطةَ أن تلتحفوا بصوتي، وأخرج من فمه سحابةً أمطرت، واحتمينا بجناحيه، نمنا جميعاً، وكانت تزخُّ علينا السحابة جهاماً جهاماً، أفقنا فلم نجد السحابة، كانت جهاماً جهاماً، وغاب جبرئيل عن عيوننا فجأةً، سوى أننا نرغب الآن في عودةِ المعجزات.