خاص: إعداد- سماح عادل
“عبد الستار ناصر” قاص وكاتب عراقي، ولد 1947، وعين في وظائف عديدة منها مدير تحرير (مجلة التراث الشعبي) البغدادية.. بدأ الكتابة مبكراً وأصدر العديد من كتب القصة والرواية والنقد.
يعتبر “عبد الستار ناصر”من أبرز الكتاب في جيل الستينيات، كتب ما يزيد عن 50 كتابا في الرواية والقصة والنقد،
سافر “عبد الستار ناصر” إلى الأردن في أواخر التسعينات وكتب أعمالا كثيرة منها (حياتي في قصصي عام 2001)، (سوق السراي)، (كتابات في القصة والرواية والشعر 2002)، ( باب القشلة 2003)، (حمار على جبل 2004)، (على فراش الموز 2006)، (الحكواتي 2006)، (سوق الوراقين .. (كتابات في القصة القصيرة والشعر 2007)، (الطاطران 2007)، (الهجرة نحو الأمس 2008).
براءة الطفولة..
في حوار مع “عبد الستار ناصر” أجراه “مجيد السامرائي” يقول عن جملته ( كل ما أملكه هو إنني رأيت): “رأيت أشياء كثيرة لأن هناك المحلة القديمة (محلة الطاطران) وكنا نعيش في بيت كبير جداً ومكتظ بالمستأجرين، وكانت براءة الطفولة قد انمحت في ذلك البيت..حقيقة كانت هنالك أشياء لا ينبغي لطفل في السابعة أو الثامنة من العمر أن يراها! أو يعيشها، كانت هناك موبقات مخيفة تركتني أمام مصير مجهول انتهى بالكتابة، والحمد لله كان من الممكن لشخص آخر أن يمضي تماماً إلى حياة مختلفة ربما تكون متصفة بحالة من الحالات اللا إنسانية، كان مهيئا لطفل بهذه الأشياء التي يراها أن يتحول إلى مجرم ! أو ربما إلى شخص قليل الأدب وقليل الأخلاق، ولكن الكتابة التي جاءتني مبكراً والقراءات التي جاءتني مبكراً اعتقد الآن هي التي أنقذتني وأعادت لي براءتي.. صحيح أنا لست بريئاً بالمعنى النهائي ولكن على الأقل تخلصت من أشياء كبيرة كانت لربما تلتصق بي من ذلك البيت الشاسع، الكثير الغرف، والكثير من المستأجرين على اختلاف أنواعهم حتى من بينهم أناس على جانب من الإجرام !! ولكن البيت كنا نسكن فيه وكنا مرغمين أن نعيش في ذلك المكان بسبب الفقر الذي كان سائداً في الأربعينات والخمسينات”.
وعن المرأة يقول: “المرأة بالنسبة لي فخ أقف أمامه على مسافة رغم أن هذا النوع من السقوط فيه هو ألذ أنواع السقوط”.
كاتب فاشل..
وعن سؤال هل تشعر بالفشل الآن؟ يجيب “عبد الستار ناصر”: “نعم! أشعر بالفشل لأن هنالك خططا كثيرة في حياتي كان لابد لي أن أخطوها ولكنني مشيت في هذا الطريق، ولكن نزعة النرجسية قصمت ظهري في أزمنة سابقة، وأدت إلى أنني لم أوفق في تحقيق كل ما أصبو إليه.. حقيقة قلت أنا أخطر كاتب قصة لكن العبارة فسرت تفسيراً ملتوياً وسيئا.. قلت أنا أخطر كاتب قصة ولم يقرأوا ما كتبت بعدما قلته، حين خرجت من ظلمات المعتقل وعدت إلى الكتابة فوراً، مع إن أي شخص آخر لو رأى ما رأيت في تلك المعتقلات سوف يكف عن الكتابة إلى الأبد.. شجاعتي وخطورتي تكمن في أنني استمررت في الكتابة”.
التنبؤ..
وفي حوار آخر أجراه “فائز الشرع” و”أثير محمد شهاب” يقول “عبد الستار ناصر” عن الكتابة في الغربة: “ما كتبته في المنفى هو نفسه ما كان ينبغي كتابته في داخل الوطن، لو كانت ثمة حرية في التعبير، وما ذكرته في رواية (أبو الريش) هو امتداد طبيعي لقصة (سيدنا الخليفة) التي اعتقلوني بسببها عاما كاملا تحت الأرض، وتبقى رواية (صندوق الأخطاء) التي تنبأت فيها بسقوط نظام القتل في بغداد، وكنت على أكثر من يقين أن الحياة لا يمكنها أن تستمر تحت خيمة القتل والذبح وقطع الألسن وجزّ رقاب النساء (الشريفات) بحجة الدعارة، كنت أعرف أن القائد بلا قيادة، وأن الكتبة والشعراء أعطوه أكثر من حجمه مليارات المرات، وأن النهاية ستكون محض (فضيحة) من الدرجة المخزية، وكل هذا ذكرته في كتاباتي دون تردد “إن ما أقوله قد لا يكون صحيحا” ولكن الذي جرى أثبت بالدليل الملموس أنني قلت هذا وكتبته قبل ان تأتي ساعة الحقيقة، وأنا بصراحة فخور جدا بما تنبأت”.
وعن نفسه يضيف: “أنا، وعلى عكس افتراضات (الآخر) إنسان بسيط، أخاف حتى من نفسي، وأمنع دقات قلبي من النبض أكثر مما يحتاج قلبي، وحين رأيت نفسي في عمّان الحبابة، شعرت بالحرية تلتف حولي وتربطني برباطها، ومنذ أول ليلة في عمان بدأت الكتابة بانفتاح عظيم، حتى أنني أصدرت (14) كتابا في عمان والقاهرة وبيروت خلال ثلاث سنوات فقط، وهي كمية كبيرة جدا موازاة ما كنت أنشره في بغداد. أرجوكما لا تسألاني عن لغتي، فهي نفسها التي كانت تراودني في وطني، ولا فرق بين ما كنت عليه وما أصبحت الآن فيه، وإذا ما تغيّر القطار قليلا عن سكة المحطة، فهو انعتاق طبيعي بسبب حرية الاتجاه صوب الفرح الشامل الذي شعرت به وأنا أكتب القصة القصيدة التي أريد والمقالة التي أريد والرواية التي كنت أتمناها، وقبل كل هذا الكلمة التي لا يأخذني بعد كتابتها رجل المخابرات ليسألني عن مغزاها!!”.
دون جوان..
وعن المرأة في حياته يقول: “سأقول بأنها تسللت من خصاص الخيبة والأحزان وراحت تركض خائفة من كهولتي ولحيتي وانكساري، ولم أعد ذلك (الدون جوان) الذي تركع أمامه النساء، ولن أصدق ما يقال عن وسامتي وجمال تقاطيع وجهي، أنا غادرت الميناء وابتعدت عن الحانات الصيفية ولم أعد ذاك السوبرمان المذهل الذي ينقذ النساء من البراكين والزلازل والأخطاء.. لقد كتبت خمسة كتب في الحب، وكنت مشتعلا بها أيام كان الحب مشتعلا بين ضلوعي، وفجأة، ولا أدري متى وكيف ولماذا انطفأ الحب تحت مسامات جلدي، وأصبحت مجرد شخص بارد كسول منطفئ توشك الفحولة أن تتبرأ منه، بل أوشكت ذات ليل فاجع أن أبكي ذكرياتي، ولو كنت أكثر قوة وجرأة لقتلت نفسي.. من السبب وراء ذبح ذكورتي؟ أنا أعرفه وأدري أسباب رغبته في قتلي، لكنه مضى والحمد لله إلى غير رجعة بعد أن أشبعنا خرابا وذلا وتهميشا.. يا لتلك السنوات العجاف المجرمة، كيف ترانا عشناها ولم نمت كمدا؟!”.
وعن تفرغه للكتابة يحكي: “أنا منذ الصبا متفرغ للكتابة، لم أهبط إلى مستنقع السياسة ولم أتوسل النجاة بقواربهم المثقوبة، حاول العشرات إغرائي بالدرجات الوظيفية والأموال والسفر والموبقات الحلوة، لكن المقامر الذي يلبسني كان أقوى منهم جميعا، فقد ذهبت إلى مونت كارلو ولندن والقاهرة وبيروت وراهنت على خسارتهم في الروليت والبلاك جاك وأنقذت روحي منهم.. والإبداع في الكتابة كان أجمل حالات جنوني، وبه أنقذت أصابعي من التلوث، وأنا مؤمن أن لا شيء في الأرض أكثر نظافة من وساخة الحبر الذي نكتب أوجاعنا به، وها أنتما تقولا لي بأنني (رفيع المستوى) مع أنني يا صاحبيّ اضحك من مدحكما الرائع هذا، فأي مستوى الذي أنا (رفيع) فيه وقد مات الملايين أمام عيني ولم افعل أي شيء؟!”.
وعن أحب أعماله إليه يقول: “سأعترف أن أول كتاب أحببته أكثر من سواه هو ( الحب رميا بالرصاص) وفي هذا الكتاب أجمل ما كتبت من قصص.. ويأتي (لا تسرق الوردة رجاء) في الترتيب الثاني. كل هذا جرى في الماضي القريب، أما أقرب كتاباتي إلى نفسي اليوم رواية (نصف الأحزان) ورواية (أبو الريش) التي جاءت بعدها بحفنة من السنوات.. ولعل أغرب ما تسمعاه الآن مني هو القول: إن أجمل وأحلى وأخطر ما كتبته في حياتي هو روايتي (الطاطران)، وفيها أحكي عن تجربة رجل عراقي أمضى سنة من حياته ما بين روما وتيريستا ونابولي والبندقية في إيطاليا، رواية تحكي حوار الحضارات، الخسائر، والأمنيات المكبوتة. نعم، كلهم أولادي، لكن آخر العنقود يبقى هو أقرب الأطفال إليك”.
سلطة الكلمة..
وعن مستقبل الإبداع في العراق يرى “عبد الستار ناصر”: “أعتقد أن شعراء الجداريات وعبيد التماثيل يشعرون اليوم بكثير من الخجل، وعليهم الاعتذار من الشعب كله، والمستقبل سوف يشهد انقلابا شاملا في نوعية الإبداع، كما ستظهر تباعا الأعمال المحجوزة في صناديق الذاكرة.. نحتاج اليوم إلى مؤسسات ثقافية تفكر في مدى أهمية المبدع وتبحث في رعايته ومعيشته وتطبع أعماله بشكل محترم، فما عدنا بحاجة إلى شراء السلاح، إن ثمن صاروخ واحد يكفي لطبع مئات الكتب، كما أننا بأمس الحاجة إلى مدة من السلام والأمان والطمأنينة، ولا شيء مثل القراءة من يحقق شيئا من السلام مع النفس وشيئا من الأمان في ربوع الوطن والكثير من الطمأنينة بعد هروب كتّاب التقارير إلى غير رجعة.. أرى أن الإبداع سيأخذ حصة الأسد في أي مشروع لاحق وسوف تأتي دولة الثقافة حين تختفي دولة الأسياد والعبيد، وأكرر أننا بحاجة عظيمة إلى السلام والأمان حتى نبدأ العمل.. المبدع العراقي تحرر الآن من أكبر كابوس حلّ في التربة العراقية منذ مئات السنين، وهذه بداية طيبة لاكتشاف موهبة أديبنا وطبيعة ما كان يخفيه من جروح، ستظهر كتابات لم نكن نصدق أنها مزروعة هكذا في الجسد العراقي.. المؤكد هو أن أية سلطة قادمة لن تتمكن بعد اليوم من تقزيم المبدع وسوف يكون الأديب هو الأقوى، والذي نراه في المشهد القادم هو أن سلطة الكلمة ستكون الأعلى وهذا ما أراهن عليه”.
سيدنا الخليفة..
في مقالة بعنوان (عبد الستار ناصر: القاص الثائر.. (سيدنا الخليفة) أنموذجا) يقول “أحمد عواد الخزاعي”: “سيدنا الخليفة.. قصة قصيرة نشرها القاص عبد الستار ناصر عام 1975، مستخدما فيها الرمزية التي اقتصرت على العنوان فقط، وأما ما طرحه الكاتب في ثناياها فما هو إلا صرخة رفض مدوية وجرس إنذار للمجتمع العراقي بأن ما يحدث هو بداية مرحلة سياسية جديدة في العراق، ستسود فيها العشيرة والعائلة والحكم الفردي على جميع مفاصل الدولة العراقية وسَيُرهن العراق بثرواته وشعبه وحضارته لهذه المنظومة الحاكمة (أن القائد الذي جرّنا إلى التظاهر في وجه الخليفة وضد ما يسميه بالحكم الفردي أو الحكم العشائري، قد انسحب بكل جبروته وأنفه العريض إلى مولانا الخليفة وقد نصبه (محافظا) على جنوب الوطن العزيز)، هذه المنظومة الحاكمة التي أطلقت بالون اختبار كبير في فضاء العراق، لجس النبض ومعرفة مستوى الممانعة التي سيبديها هذا الشعب اتجاه قرارات كانت لا تمثل التوجه الحقيقي للنظام آنذاك ذي النزعة العلمانية، هذه القرارات التي قيدت الحريات الشخصية وفرضت وصاية صارمة على حركة الفرد العراقي داخل مجتمعه، والتي اتخذت طابعا دينيا متشددا يعيش في حالة تناقض مع الوجه العام للدولة كما عبر عنه القاص( حياة سلفية ضمن حياة عصرية).. تبدأ القصة بعبارة خطيرة (حرارة أجسادنا تفوح من المسامات وفوق أجسادنا ونحن في الشتاء، يمكن أن تسلق شيئا من البطاطس والبيض، فقد نصت قرارات الخليفة على أن تعرق في الشتاء وتلبس الثياب الصوفية في الصيف)، ثم ينتقل القاص إلى انتقاد تلك القرارات الجائرة بحق الفرد العراقي والتي وصلت لدرجة تحديد ما يلبس وكيف يتصرف بتعبيره (لقد منعوا كل شيء)، باستحضار شواهد تاريخية كانت يتطلب ذكرها جرأة كبيرة وغير مسبوقة كان أولها الحجاج بن يوسف الثقفي بكل ما يحمل من ارث دموي وسم به تاريخنا الإسلامي، ثم الحزب النازي الألماني، ذلك الحزب الذي جر على البشرية الويلات والدمار في مقاربة موضوعية مع الحزب الحاكم آنذاك، ثم ينتقل لذكر شخصيتين الأكثر وحشية في التاريخ الحديث، نوسكيه أحد الزعماء النازيين، والماركيز دي صاد صاحب نظرية (المتعة الشخصية المطلقة) الغير مقيدة بأعراف اجتماعية أو مبادئ أخلاقية أو قيم دينية.. وفي إشارة إلى انزواء القوى الوطنية وتخاذلها في تلك المرحلة الخطيرة من تاريخ العراق الحديث، وترك الساحة مفتوحة للنظام وأعوانه وخذلانهم للقوى الناعمة من الشعب التي تصدت لهذه القرارات الجائرة، يشير إلى شخصيتين ذات دلالتين الأولى مثيولوجية والأخرى دينية، يوليوس قيصر الذي خانه أقرب الناس إليه ومسلم بن عقيل سفير الحسين إلى الكوفة الذي قتل بعد أن تخاذل الناس عن نصرته.. (سيدنا الخليفة) قصة قصيرة لقاص ثائر تحمل انثيالات فكرية وسياسية كبيرة، قد لا تسعها رواية كبيرة، إلا أن قدرة القاص “عبد الستار ناصر” الاستثنائية على الاختزال وتمكنه الكبير من اللغة مكناه من أن يستحضر مأساة شعب بأكمله في عدة سطور، دفع ثمنها سجنا وتعذيبا لمدة عام كامل.. ذالك العاشق العظيم لأدبه وبالأخص للقصة القصيرة”.
وفاته..
توفي القاص والروائي العراقي”عبد الستار ناصر” عام 2013، عن عمر الـ66 عاما في إحدى مستشفيات كندا أثر مرض عضال.
https://www.youtube.com/watch?v=tvsvSLvCwds