لم تمر سنة من السنوات السابقة إلا وأضاف أبناء جيلنا أو قبلهم العديد من المفردات والرموز الأدبية والتربوية والعلمية والاجتماعية ، وينطبق الحال على موروثنا الشعبي الغني بالمفردات والرموز الايجابية وذات الدلالات المهذبة التي تغطي مختلف مفردات الحياة ، ولسنا هنا بصدد تعدادها وذكرها والإيتاء بعشرات ومئات الأمثلة عنها والتي جعلت لهجتنا العامية اقرب إلى العربية الفصحى والأبعد عن الكلمات والتسويفات (البذيئة) والتي يطلق عنها البعض كونها أحاديث وكلمات سوقية ، وحين نقول ( السوقية ) لا نقصد قط المصطلحات والرموز الاقتصادية المتعلقة بآليات الأسواق من العرض والطلب والأسعار وإنما الألفاظ الهابطة والبعيدة كل البعد عن الذوق العام والمألوف والموروث وتعاليم الدين والأعراف والقيم الاجتماعية التي اتصف بها شعبنا خلال القرون والعقود السابقة ، ولا ننكر هنا دخول بعض الكلمات الغريبة في التعاملات اليومية بعد الحروب والمغامرات التي شهدتها سنوات بعد الثمانينات سيما بعد 1990 إذ دخلت كلمات مثل ( البوري ) و ( التقفيص ) وغيرها التي كانت تثير الاشمئزاز وتلاقي رفضا اجتماعيا للأجيال السابقة رغم سرعة انتشارها و التداول أو التعامل بها من باب الضرورة أو الاستهزاء .
لقد اضطررت لذكر هذه المقدمة التذكرية وأنا اسمع بتداول كلمة غريبة مرت بي للمرة الأولى في حياتي قبل أيام ، فحين كنا نناقش موضوع دراسة الجدوى الاقتصادية والفنية لأحد المشاريع المقترحة للقطاع الخاص مع مجموعة لا ينتمون لجماعة أل ( 56 ) لاحظت وجود رقم كبير غير مبوب تم إدراجه ضمن التكاليف الاستثمارية وأنا لم أضعه أو اقترحه أو اعلم به ، وحين استفسرت من الموجودين عن ماهية وتفاصيل هذا الرقم ذكروا لي بأنه عبارة عن ( محروقات ) ولان مشروعنا الذي كنا نناقشه ليست له علاقة باستخدام المحروقات بيعا أو شراء أو استعمال ، ابتسم الحاضرون فقالوا إن المقصود بالمحروقات ليس الكازاويل أو البانزين أو أي مصدر آخر للطاقة وانه يمثل المبلغ الذي يدفع كرشاوى وهدايا وهبات وشراء ذمم للأشخاص الذين يملكون القرار ويدخل الوسطاء كالقمل لتمشية الخطوات التي تتطلبها مراحل انجاز المشروع من معاملات وتعاملات وذكروا أمثلة عن تلك الجهات وهؤلاء الأفراد ومنهم فهمت ان أي مشروع يراد له الولادة والظهور للحياة لابد وان تقابله ( محروقات ) .
ان الاطلاع على تفاصيل المحروقات يفيد من نواح متعددة : أولها إن من يعرقل ويعطل مسيرة اقتصادنا هم مجموعة من الطفيليين واغلبهم يتقاضون رواتب ومخصصات مجزية من الدولة وسر قوتهم إنهم مسنودين من بعض الجهات وهذا الإسناد قد يكون كلي أو جزئي أو حقيقي وربما مجرد احتيال أو ادعاء ، وثانيها إن الحديث والتداول بنظرية المؤامرة ليس دقيقا في كل الحالات فالشائع إن بعض دول الجوار تحاول ذبح اقتصدنا لفتح الأسواق لبضائعهم وربما يكون الصحيح في العديد من الحالات إن خونة الوطن وبائعيه من المتنفذين والمنتفعين هم يروجون لذلك لوأد أية محاولة لتطوير الاقتصاد وهذا هو الفساد المتخفي الذي يصعب الوصول إليه ، وثالثها إن هناك ثقافة انتشرت بين المستثمرين المحليين والخارجيين بان أي مشروع يحتاج إلى محروقات وهذا ربما استسلام و ليس بالضرورة مفهوم صحيح ولكن الهالة التي انتشرت في بيئة العراق تعطي هذا الانطباع ، ورابعها إن هناك قصورا وتقصير سمحا بإشاعة هذا الجو من خلال قبولنا الأمر الواقع قيام الأجهزة المعنية بترك هامش يسمح بتحرك الفاسدين فهم يتغلفلون ولم يتم الكشف عنهم لمنع تحولهم إلى ظاهرة مما يتطلب سلامة اختيار الإفراد في الرقابة المعنية وإشاعة الشفافية بأعلى المستويات ووضع عقوبات صارمة للفاسدين تتضمن العزل والإحالة للقضاء ومصادرة الأموال .
وتلعب الإدارات دورا بارزا في تمرير وانتشار الفساد وانتفاع الطفيليين ، فالإدارة غير الكفوءة تكون خير حاضنة للفساد حتى وان لم تكن فاسدة لأنها لا تستطيع تمييز الخطأ ويتم التعويل على عناصر فاسدة مظهرها البارز هو الولاء مما يتطلب الاعتماد على التكنوقراط وإخضاع المديرين للتدريب لغرض التعلم وتحمل المسؤولية وليس لأغراض السياحة والسفر خارج العراق ، مما يستوجب إعادة الحياة للمركز القومي للتطوير الإداري وإنشاء كليات للقيادة داخل العراق ، ويمكن للحكومة القادمة آن تؤدي مهام وطنية حقيقية لو شجعت على اختيار إدارات كفوءة تتم مساءلتها من الأحزاب التي اختارتها بدلا من التستر عليها وتغطية أخطائها ، كما إن من الضروري الابتعاد عن الشللية والتكتلات في الدوائر وتوسيع صلاحيات رئيس مجلس الوزراء من خلال العزل والاختيار وان تكون لجان مجلس النواب داعمة لهذا الموضوع وتحاسب عن أخطاء وفساد الإدارات حسب تخصصها وحقل عملها وهو ما يتطلب بالطبع الانسجام التام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية والشراكة في تنفيذ البرنامج الحكومي الذي يجب أن يعد على أساس تلبيته للحاجات وليس لأهداف دعائية وخطابية غير قابلة للتطبيق ، ويفترض أن تحدد معالم تفصيلية للبرنامج ليكون الأساس في إعداد الموازنات الاستثمارية والتشغيلية وبما يتيح الفرصة للمالية والتخطيط في التحول من موازنة الأبواب إلى موازنات العقود والمشاريع والصفرية أو أي أسلوب آخر يبتعد عن طريقة copy- paste المستخدم منذ عقود واثبت فشله في التطبيق مع مراعاة الاستفادة من الحسابات الختامية بشكل دقيق .
ونستطيع القول وبكل أمانة وثقة إن عدم القضاء على ظاهرة ( المحروقات ) سيجهض أية محاولات للقضاء على الفساد حتى وان أسندت إلى جهات دولية ، لان العمل بأسلوب المحروقات من شانه أن يحول الفساد إلى شكله ( النظمي ) وسوف يكون مثل الفيروس المرضي الذي يحدث ويطور نفسه ليكون بمنأى عن التشخيص والكشف والمعالجة الجذرية لاستئصاله بشكل جذري ، اخذين بنظر الاعتبار إننا ورثنا فسادا قبل 2003 وان 18 سنة مرت وبعض القرارات والإجراءات كانت تغذي الفساد وليس العكس ، بمعنى بأنه يجب الاعتراف بان المهمة عسيرة وان الخيرين والمخلصين أمام مهام صعبة لمعالجة الموضوع وهي مهمة يجب أن يتعاون بشأنها الجميع لأنها تحتاج إلى عمل جمعي وتضحيات وليس مجرد طرح للشعارات ، فالكل يتكلم عن الفساد ومحاربته والبعض يتحمس وتعلوا أصواتهم لتحقيق ذلك ولكن الحلول سوف لا تكون بالمستوى المطلوب إذا لم تتحول تلك الحماسة إلى فعل حقيقي يعيد الأمل بالحياة ، فالأمل يضعف باستشراء الفساد والتشخيص مرحلة مهمة من العلاج .