خاص / أوسلو – كتابات
بموت الكاتب والباحث النرويجي الجنسية، وليد الكبيسي عن ستين عاماً، قبل أيام في العاصمة أوسلو، تكون قد فتحت صفحات كثيرة تذكّر بسجالات الرجل الفكرية التي امتدت على نحو 3 عقود، وخاض من خلالها مواجهات مع التشدد الإسلامي، وتحديداً الإسلام السياسي، مما جعل الإسلاميين السلفيين الذين وجدوا في الحرية فرصة لتجمعاتهم والترويج لأفكارهم وخططهم، بالتحريض المباشر عليه، وهو ما أنعكس بوقوفهم وراء محاولة لاغتياله.
الإسلام السائد في الغرب
يقول الكبيسي الذي هاجر إلى النرويج كلاجئ سياسي في عام 1981، أن التطرف حالةخلقها الإسلاميون بالدعوة إلى التفسير السياسي، ونقل الإسلام من زمن الرسول إلىعصرنا. وعبارة الإسلام لكل زمان ومكان، تعني أن الإسلام يمكن تأويله وتفسيره ليناسب كلالمجتمعات. بينما فهم المتطرفون أن الإسلام الذي مارسه المسلمون في صحراء الجزيرة ينقلميكانيكيا إلى أوروبا، فآمنوا بالجهاد العنفي، وهذا ما أدى إلى الإرهاب.
الكبيسي الذي قضى العقود الثلاثة الأخيرة من حياته ناشطاً في الحوار الثقافي وناشراًلمجلة “المسلمون المتنورون“، يعتبر أحد المدافعين البارزين عن الفكر التنويري، منذ أول كتابله عام 1996 والذي حمل عنوان “إيماني، خرافتي: الإسلام بمواجهة الحياة اليومية للنرويجيين“.
ولذا فكان ضد النظرة التي كان يتعامل بها الإسلاميون في أوروبا والغرب عموما مع المرأة، فهم “آمنوا بحجر المرأة وعزلها، وهذا ما أدى إلى الحجاب وإشكالياته، بينما لم يفرضالحجاب الإسلامي ولا توجد آيه تسمى آية الحجاب بمعنى اللباس الإسلامي، وكان الرسوليأخذ النساء معه ليمرضوا الجرحى بمعنى أنه ليس عندنا مشكل دين وإنما مشكل تدين“.
ويلاحظ في رصده للظاهرة الإسلامية في النرويج “بعد ثلاثين وربما أربعين سنة من الهجرةإلى النرويج، ورغم المناداة بمجتمعٍ متعدد الثقافات، وبعد نقاشات مطولة حول سياسةالاندماج، تصل النرويج إلى وضعٍ صار فيه الجيل الثالث من (المسلمين) المهاجرين يدعو إلىحجاب البنات في عمر الطفولة، أو ينتمون إلى مجموعة «نبي الأمة» التي تؤمن بممارسةالشريعة حرفياً كما في السعودية وكما تمارسها داعش. أو «شبكة الإسلام»، وهي منظمةإسلامية للجيل الثالث من المهاجرين، وهم أصوليون مسلمون يرفضون قيم المجتمع المتحضر. ومنهم من هذا الجيل من أصبح من محاربي داعش، إضافةً إلى تطوّرٍ يشير إلى زيادة مخيفةفي التحول نحو التطرف بين الشباب المسلمين في النرويج“.
ولا يحمّل الكبيسي مسؤولية تصاعد التطرف للمسلمين فقط بل للنرويج حيث “لم تدركالسلطات ولا وسائل الإعلام ولا النقاشات بشكلٍ مبكرٍ، الإشارات والعلامات المحذرة. إذا لمنستطيع وضع تشخيص صحيح لظاهرة توجه الجيل الثالث من المهاجرين (المسلمين) إلىالتطرف، وهو الجيل الذي ولدَ وترعرعَ في النرويج، فإن الوضع سيتحول بالتدريج إلى دراماعنيفة”، ويضيف “لا يُلام المسلمون فقط في هذا الأمر، وإنما النرويجيون هم أيضاً الذينيقع اللوم عليهم، لأن آباء وأمهات أفراد هذ الجيل الجديد هم أيضاً تربّوا على يد نرويجيين: في المدرسة، وعبر سياسة الهجرة، وعبر النقاشات في وسائل الإعلام، وليس فقط على يدالعائلة“.
فشل الاندماج
وبحسب الكبيسي فقد “نادى النرويجيون خلال ثلاثين سنة بالاندماج، ولكن سياسة الاندماجصارت مثل ثوب القيصر الجديد (القيصرُ العاري الذي يسأل الرعايا إن كان ثوبه الجديدجميلاً. ولا يجرؤ أحدٌ أن يخبر القيصر أنه عارٍ) ببساطة لأن النرويج لا تتمتع بالخبرة في دمجالمهاجرين. على العكس تماماً، للنرويج خبرة في تذويب الأقليات. أمّا التكيف والاندماج فهيبالنسبة للنرويج سياسة أن يحتفظ المرء بثقافته الخاصة، ويمضي في الوقت ذاته عبر مصفاةالقوانين والقيم النرويجية، إضافةً إلى غياب نظام يمكن من خلاله قياس مدى نجاح سياسةالاندماج. ولقد بقيت كلمة «اندماج» كلمةً عائمةً غائمة، ولم يفهم أحدٌ ماذا تعني في الواقع،ولذلك لا يمكن أن يتحمل المسلمون ذنب فشل سياسة نرويجية. اكتسبت سياسة الاندماجمفهوماً يقتضي أن المرء لا يحتاج إلى تغيير أوضاعه، ولا أن يتخلى عن بعضٍ من «بقجته»الثقافية التي لا تتوافق مع النرويج الحديثة. ليس هذا فقط، وإنما نُصحنا أن نحتفظ بكلأوضاعنا، وأننا يمكن أن نندمج عبر شيئين: تعلم اللغة، والحصول على عمل“.الفهم الخاطئلمفهوم «مجتمع متعدد الثقافات» أدّى إلى أن يُفهم وكأنه مطابقٌ لـ«مجتمع متعدد الأديان»
وكان يعتقد إنه يمكن لمفهوم «تعدد الثقافات» أن يغني المجتمع، ولكنه فُهِمَ على أساس أنه هوذاته تعدد الأديان، وهذا ما جعل السلطات تُموّل المنظمات الإسلامية، وتفاوض الناطقين باسم المجموعات الإسلامية. فكانت النتيجة «اندماجاً» جمعياً، وليس اندماجاً فردياً. النتيجة كانتاندماج منظمات وليس أشخاصاً مواطنين.
“فجأة رحنا نسمع عن إمام جامع من الجوامع المركزية المرتبطة بالمجلس الإسلامي، وهو يدعمقاتلاً نفذ اغتيالاً لوزير باكستاني“. والحال كما نرى، فإنه ليس كافياً أن يبرر ناطقٌ باسممنظمات المهاجرين ويتحدث بحذرٍ ضمن إطار القانون النرويجي، وإنما يتوجب على الأعضاءوالممثلين المعنيين أن يسلكوا ضمن إطار القانون وحقوق الإنسان. ولهذا فإن «المجتمع متعددالثقافات» لم يتحقق على أرض الواقع، وإنما أُعلنَ موته من قبل قادة سياسيين أوروبيين في ألمانيا، هولندا، فرنسا، بلجيكا وبريطانيا.
المسلمون أرانب لتجارب الغرب
ونقد الكبيسي للغرب تواصل بقوله “لا أحدَ في النرويج يتحدث الآن عن دولة النرويج متعددةالثقافات، فقد أقام النرويجيون مجتمعاً متعدد الثقافات، يحولنا نحن المسلمين إلى أرانبتجارب، ويحوّل مستقبل البلد إلى تجربة مختبرية. ومع ذلك يبدو الأمر اليوم كما لو أن الذنبفي فشل هذه السياسة، هو ذنب المسلمين بالذات. عبر ثلاثين سنة، خلقت وسائل الإعلامصورةً عنا ليس فيها أمل. في البداية استقبَلنا النرويجيون بعطف، فإيديولوجيا الضحية كانتتحتاج إلى مواضيع من نوع «الـمَسْكَنة». قُدّمنا كضحايا ضعفاء، كأناسٍ ليس لديهم المقدرةعلى أن يتغيروا وفقاً لعملية التكيّف. كنّا موضوعاً للعطف. لكن لا أحد كان يسأل: كيف يمكنأن يُطلب الالتزامُ بسياسة الاندماج من كائن مسكين ضعيف“؟
ثم ظهر خبراء وأنثروبولوجيون مسلحون بأحكامهم الأكاديمية المسبقة عبر عقلية تفكير«النسبية الثقافية»، والتي مُورست كإيديولوجيا، “هذه النسبية رسمت لنا صورة نُرى فيهاككائنات دينية، ما يعني أننا مختلفون عن النرويجيين. فالنرويجيون وفق تلك الفكرة أفرادٌمستقلون، أما نحن فمخلوقات مرتبطة ببعضها بعضاً عن طريق الدين. عبر إيديولوجيا«النسبية الثقافية» المسيطرة هذه، جرى النظر إلينا وجرى تقييمنا نحن المسلمون. نُظرَ إليناكمنتجاتٍ لثقافتنا، ولذلك أجرت وسائل الإعلام نقاشات يقودها إما مسلم محافظ، أو إمام، أوناطق باسم منظمات إسلامية، أو امرأة بحجاب. وبهذا خلقت وسائل الإعلام النرويجية قدواتٍدينية للجيل الجديد، الذي أخذ متأثراً طريق الدين. وإلا كيف يمكن تفسير تنامي عمليةالتطرف“؟
وفي وقتٍ ركزت وسائل الإعلام في النرويج والغرب عموماً على المتدينين، جرى تجاهلالعلمانيين، “إنهم غائبون، علماً أنهم يشكلون نصف الأقلية المسلمة. وفقاً للإحصاء، يمثلالمجلس الإسلامي 60000 مسلماً مرتبطين فعلياً مع المسجد أو بالطوائف الإسلامية، بينماتعداد الأقلية المسلمة 106000 مسلماً. هذا يعني أنه يوجد 46000 مسلماً علمانياً لم يرتبطواأبداً مع المسجد أو الطائفة. أين هؤلاء؟ أصوات مثل شاكيل رحمان، محمود فرحمند، وكماليوكل، قُدّمت على أنها نخبةٌ معزولة فقط، على الرغم من أنها أصواتٌ تمثل نصف الأقليةالمسلمة. لقد خُنقَ الأملُ لسنوات، والحقيقة أن هذا الجزء (الذي يمثل نصف الأقلية المسلمة) هو الذي يمكن أن يوازن صورة المسلمين. ولكن أين هم؟ لماذا لم يُستخدم هؤلاء لإخبارالنرويجيين أن نصف الأقلية المسلمة علمانيون مثل النرويجيين“؟
لماذا شطب نصف المسلمين؟
وفي السياق ذاته كان الراحل الكبيسي يتساءل “لقد خلقت هذه الصورة ردود فعلٍ غاضبة لدىأكثرية الناس، والنرويجيون ينظرون إلينا نظرتهم إلى روبوتات دينية، رُكّبتْ بحيث تعيد توليدَالصراعات الدينية في النرويج، وتمارس الدين مثلما مورس منذ مئات السنين، وأننا أنتجناثقافةً مستنسخة، وأننا نقلنا ثقافتنا أتوماتيكياً ودون تبصّرٍ إلى النرويج. أكثرية الناسمنفتحة، وضد التمييز والعنصرية، لكن كيف يمكنهم تحمّل أقليةٍ مسلمة متزايدة العدد، تطلباحتراماً ومكانةً في المجتمع من خلال تركيبة دينية موروثة من القرون الوسطى؟ هذه التركيبةشهدتها أوروبا أيضاً في قرونها الوسطى، ولكنها قد وضعت لها نهاية بالإصلاح، والتنوير،والنهضة، والعملية الديمقراطية. ولذلك نلاحظ أن كثيرين من النرويجيين أصبحوا متشككينتجاه الأقلية المسلمة، الأمر لا يتعلق فقط بالنخبة اليمينية المتطرفة، وإنما أيضاً أكثرية الناسصارت متشككةً فيما يخص الإسلام والمستقبل“.
نبوءة الكبيسي حول صعود اليمين
وبينما تخشى النرويج وأوروبا من تطور التطرف بين الشباب المسلمين، كان الكبيسي يشددمبكرا وقبل موجة صعود اليمين الأوروبي بفترة طويلة “علينا في الوقت ذاته أن نراقب الأغلبيةالنرويجية الصامتة. يعبر المزاج الشعبي النرويجي عن نفسه بالصبر والصمت، لكنه وبغتةً قدينقلب إلى عدم قبول أي صلحٍ ومساومة، ويصبح شعباً جبّاراً.
التاريخ الأوربي يعلمنا درساً: عندما تعيش القارة في أزمة اقتصادية تتزامن مع إشكاليةتتعلق بالأقلّيات، وعندما لا تستطيع الديمقراطية التصدي للتحديات السياسية المصيرية، فإنالفاشية تربح في الانتخابات الديمقراطية والأمور تنتهي إلى المحرقة والهولوكوست، أو إلىالمذابح ضد الأقليات، أو إلى أشكال جديدة من الكراهية ضد الأقليات. ها نحن نشاهدتصاعد الأحزاب اليمينية التي تفوز بالانتخابات وهي أحزابٌ تعادي الأجانب. فهل سنستوعبمن ذلك علامات المستقبل“؟