15 نوفمبر، 2024 8:55 ص
Search
Close this search box.

الديمقراطية ـ بين علم الانتقال وعلم الترسيخ

الديمقراطية ـ بين علم الانتقال وعلم الترسيخ

إعداد/ د. علي لبيدي
ساهم التحليل المقارن لمسارات الدمقرطة في العالم في إنتاج مجموعة من القواعد والمفاهيم والافتراضات التي مكنت الباحثين من وصف وتحليل وتفسير المسارات والديناميات التي تقود إلى تغيير الأنظمة السياسية، وقد تتالت محاولات تطبيق هذا الإطار النظري، الذي تشكل أساسا من خلال تجارب الانتقال في جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية بعد 1974، على بلدان ووضعيات مختلفة تماما عن مجال تطبيقها الأصلي، وفي هذا الإطار ظهر تخصصان فرعيان متميزان في مجال العلوم السياسية أطلق عليهما “علم الانتقال” و”علم الترسيخ” أو دراسات الدمقرطة بصفة أكثر شمولا.
فموضوع “علم الانتقال” يتعلق جوهريا بتغييرالاجراءات السياسية خلال الفترة الفاصلة بين زوال النظام السلطوي وبين جهود إرساء نظام ديمقراطي، ويتبين لنا من خلال ظروف نشأة هذا ” العلم ” أن نظرية الانتقال الديمقراطي – كما تصورها واضعوها – تتميز بالسمات التالية :
1 – نزوعها الكمي وطابعها الامبيريقي (أو التجريبي) : تنطلق هذه النظرية من التجارب التاريخية للتحولات التي عرفتها بعض البلدان ذات الأنظمة الاستبدادية وذلك لتحديد إطار نظري ( مفاهيم وأدوات تحليلية ) قادر على دراستها . وتساعد ملاحظة الدمقرطات السابقة في صياغة توجيهات مؤسساتية ودستورية للانتقالات المستقبلية لها غالبا طابع وصفي مبالغ فيه.
انها مقاربة ذات منحى كمي إذ يمكن حسب الانتقاليين تفسير وإدارة الانتقال الديمقراطي في بلد ( غير ديمقراطي ما) باعتماد مفاهيم وافتراضات “كونية”.
و يقترح ” هانتنغتون”1 صراحة ” أدلة ” تطبيقية ” لصانعي الديمقراطية ” سواء كانوا من المعارضة أو من النخب الحاكمة، (كما يقول ” نيكولاس غيو ” في كتابه ” صانعو الديمقراطية ” 2005 أو في حواره بمجلة العلوم الاجتماعية عدد 14 – ربيع 2009 بعنوان ” زمن صانعي الديمقراطية ” )

2 – طابعها المعياري القيمي: يعتبر الفاعلون أن الديمقراطية هي خيارهم المفضل وهي الهدف الذي ينشده معارضو النظام الاستبدادي.
ويتأسس هذا الطابع المعياري المفرط على فكرة انتصار البراد يغم الديمقراطي كمرجعية وحيدة للشرعية على المستوىين النظري المثالي وأشكال الحكم المطبقة عمليا.
3 – نزوعها إلى التعميم : اتجاه علم الانتقال الديمقراطي إلى تعميم تصوراته المؤسساتية للوصول إلى نتائج يقع عرضها باعتبارها مكتسبات علمية2 .
4 – طابعها الغائي والحتمي الذي لا يمكن أن يكون مستقلا عن أساسها النظري ومرجعيتها الفلسفية الليبرالية إضافة إلى ارتباطها بالظروف الموضوعية التي واكبت ولحقت ظهور علم الانتقال الديمقراطي.
5 – إنها مشروع يزعم قدرته لا فقط على كشف المستفبل السياسي لبلد معين وإنما على التنببؤ به.3
و تميز الدراسات السياسية ذات العلاقة بالانتقال الديمقراطي بين النظرية والبراديغم4
فالنظرية السياسية تتضمن تصورات تتعلق بالانتقال الديمقراطي أو الانتقالات الديمقراطية منظورا إليها من زوايا مختلفة وباعتماد مقاربات متنوعة:
1 – التحليل القانوني الدستوري الذي غلب على علم السياسة طويلا ويركز على الشروط والأشكال القانونية للانتقال إلى الديمقراطية.
2 – تحاليل علم الاجتماع السياسي وتهتم بتفاعل النخب المحلية والقوى الخارجية والفاعلين الاقتصاديين والحركات الاجتماعية ودورها في عملية الدمقرطة.
3 – التحليل الاقتصادي: ويكشف عن دور انفتاح السوق كعنصر للاستقرار السياسي.
اما براديغمات الانتقال فهي ” عبارة عن نماذج إرشادية ” تقدمها بعض التجارب الدولية في إطار “وصفات” خاصة للانتقال الديمقراطي (اسبانيا، البرتغال، اليونان، جنوب إفريقيا، البرازيل … ) .
كما تميز الأدبيات السياسية في إطار عملية الانتقال بين الأبعاد التالية:
1 – البعد الإجرائي: ويتصل بالمسائل المتعلقة بالتعددية الحزبية والتداول السلمي على السلطة والانتخابات الدورية النزيهة والشفافة ووجود مؤسسات سياسية ودستورية متوازنة إضافة إلى القواعد المتصلة بالرقابة والمحاسبة والمسائلة.
2 – المسار الذي تتم بواسطته إنتاج وقبول قواعد اللعبة السياسية الجديدة قبل إرساء النظام السياسي الجديد (نظرية الفاعلين).
3 – البعد القيمي: ويتعلق بثقافة المشاركة السياسية واحترام الحقوق والحريات وقبول الآخر والاستعداد لتقديم التنازلات من قبل أطراف اللعبة السياسية للوصول إلى حلول وسط والقدرة على حل الصراعات بالطرق السلمية.
ويوجز “غي ارمي ” مضمون الانتقال الديمقراطي في ثلاثة مسارات مترابطة:
1 – بناء مؤسسات ديمقراطية،
2 – إرساء أسس لعبة ديمقراطية تقوم على احترام القانون وعلى نظام حزبي تنافسي وعلى الاتفاق،
3 – معالجة الصعوبات الاقتصادية الهيكلية والظرفية التي قد تؤدي إلى فشل عملية الدمقرطة.
ولكن المشكلة تكمن في أن المسار الأخير هو الذي يحظى بالأولوية في دول العالم الثالث بينما يتم إرجاء العمليتين الأخريين إلى وقت آخر.
و حسب الفكرة الرئيسية لنظرية الانتقال- كما قلنا – فانه يمكن باعتماد مجموعة من المفاهيم والفرضيات “الكونية “تفسير وإدارة الانتقال الديمقراطي في بلد غير ديمقراطي معين.5
1 – فالنظام الاستبدادي والضرورة الحتمية لتغييره هي نقطة الانطلاق لأي بحث في الانتقال الديمقراطي وأن هناك فاصلا بين الاستبداد والديمقراطية هو سقف الديمقراطية يجب تخطيه أولا.
ويرى أستاذ العلوم السياسية ” ألكسندر باترو” في دراسته حول الانتقال الديمقراطي أن حاجة السلطة لتجنب الانهيار يعد عاملا مهما لكسر الجمود وذلك بتشجيع أنماط سياسية جديدة لتطوير النظام السياسي ما يمكن في النهاية من الانتقال السلمي للسلطة.
وتنتهي فترة الانتقال السياسي بوصول حكومة ومجلس تشريعي إلى السلطة نتيجة انتخابات حرة يتمتعان من خلالها بسلطة سيدة. وتستتبع بفترة ترسيخ للديمقراطية لضمان الاستقرار.
ويفترض “الانتقاليون ” قدرتهم على اقتراح وصفات بسيطة وموجزة عن نموذج للانتقال المتعاقد عليه أو المتفاوض بشأنه.
وهذا النموذج الذي يستفيد من نظرية الألعاب حاول ” الانتقاليون ” توظيفه بوصفه إطارا مرجعيا لتجارب الانتقال في دول أمريكا اللاتينية خلال تسعينيات القرن الماضي وبعدها في دول أوروبا الشرقية وبعض الدول الإفريقية خلال التسعينات.
2 – تقدم هذه النظرية تحليلا منهجيا يأخذ بعين الاعتبار الأوضاع والفاعلين المؤثرين في مصير بلد ما بغاية البحث في فرص دمقرطته أو نقل ” تكنولوجيا مؤسساتية “. ويقدم أنصار هذا التحليل توجيهات مؤسساتية ودستورية ذات طابع معياري مفرط.
ويحاول الانتقاليون تعميم استنتاجاتهم المؤسساتية للوصول إلى خلاصات يقع تقديمها باعتبارها مكتسبات علمية.
3 – وبما أن الرغبة في التغيير تقع في قلب هذه المقاربة، يزعم الرواد الانتقاليون من أمثال ” اودونيل “، ” شميتر “، ” ليبارت “، ” لينز “، جيوفاني سارتوري” تفسير وتوجيه الانتقال من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي من خلال توظيف علمهم الجديد، ” علم ” الانتقال الديمقراطي باعتباره مشروعا للكشف والتنبؤ بالمستقبل السياسي. 6
و إذا كان ” اودونيل ” يعتبر ان الانتقال هو الفاصل بين نظام سياسي وآخر، فان جوهر تعريف الانتقال، في رأي ” اودونيل ” و” شميتر” لا يرتبط بالإجراءات والقواعد والسلوكيات بل بالصراعات التي تتصل بطبيعة تلك الإجراءات وشكلها وبأثرها على تلك السلوكيات.7
إنها إذن نظرية تحاول تفسير حالة عدم اليقين والسيولة المميزة للمراحل الانتقالية التي تغيب فيها القواعد الواضحة للعبة السياسية8 وهو ما يحيل إلى تنوع المسارات.
ولا تتحدد ديناميكية مسار الانتقال من السلطوية (انفتاح، تحول، تكيف) من خلال الاستعدادات والاتفاقات بين النخب فقط وإنما كذلك بتفعيل المجتمع المدني.
ويشدد “ اودونيل” و”شميتر” على أن الانتفاضات الشعبية تكون دائما ظرفية لأنها معرضة للقمع المنظم والانتقائي وللتلاعب والمزايدة وللصراعات الداخلية التي تتصل باختيار الوسائل والإجراءات.
و يتبين من خلال هذه الفكرة الأخيرة أن نظرية الانتقال التي تستبعد الشعب أو الحراك الشعبي أو الاجتماعي الواسع هي نظرية نخبوية بامتياز(لاعتبارات موضوعية ونظرية سنحاول تحديدها في الأجزاء الموالية من هذا العرض).
و إذا كان مسار تغيير النظام يتميز بعدم تحديد قواعد اللعبة الديمقراطية، فان هذه الخاصية تفسر اتجاه الفاعلين إلى النضال من اجل تحقيق مصالح شخصية مباشرة أو مصالح من يمثلونهم وإلى وضع قواعد وإجراءات ستحدد، عند إعمالها، الخاسرين والفائزين في المستقبل.
و يؤكد الانتقاليون أن لا وجود لوصفة سحرية يمكن إسقاطها على تجارب الشعوب . وتستشهد برأي “جيورجينا سانشيز” الوارد بكتاب “السبل الغامضة للديمقراطية في أمريكا اللاتينية ” ومفاده أن الديمقراطية تظل في حاجة إلى الاستنباط لا إلى التحسين في مواجهة التطورات السريعة والملتبسة للشرعيات المزمع بناؤها.
و ترى ان مفهوم الانتقال الديمقراطي يتضمن عنصرين رئيسيين :
1 – الانتقال السياسي ويعني العبور من نظام إلى آخر.
2 – ترسيخ الديمقراطية وهو التحدي الأكبر لضمان تطور مستقر نسبيا للمسار الديمقراطي.
و يؤدي الانتقال إلى التخلي عن القواعد القديمة للعبة السياسية والانخراط في قواعد جديدة للعبة ديمقراطية تنجم عن التفاوض كما يدفع إلى ظهور فاعلين جدد وتشكيلات جديدة.
و حتى لا تصاب التجارب الديمقراطية الجديدة بالتراجع أو بالفشل، يستوجب المسار الانتقالي رفع تحديات كبيرة أهمها :
1 – انفتاح النظام السياسي
2 – مستوى عال من التوافق بين النخب
3 – المحافظة على النظام الديمقراطي : تمارس منظمات المجتمع المدني والفاعلون السياسيون والقوات المسلحة دورا مهما في هذا الجهد الضخم إضافة إلى الواجب المحمول على الحكومات القائمة.9
و تستخلص ” ناتالي دلكان ” انه ” من غير الممكن المسك بصيرورة ترسيخ الديمقراطية دون أن نحسب حسابا لحالة الأزمة السابقة على عملية الانتقال وللظروف التي حفت بمسار الانتقال السياسي ذاته.
و يسعى علم السياسة، من خلال المنهج المقارن إلى تأكيد فكرة رئيسية هي أن الانتقالات إذا تمت نمذجتها تكون تعبيرا عن نفس الديناميكية العامة.
و يقول بعضهم أن هناك ثلاث مراحل يجب اجتيازها لبناء نظام ديمقراطي:
1 – الانفتاح السياسي ( أو الخروج من النظام الاستبدادي )
2 – الدمقرطة ( أو بناء النظام الديمقراطي )
3 – ترسيخ الديمقراطية.
و لكن اغلب الأدبيات تؤكد على أن هذا المسار يتلخص في ثنائية الانتقال الديمقراطي وترسيخ الديمقراطية.
و اذا كان الانتقال الديمقراطي سيرورة سياسية تاريخية تمكن من المرور المتدرج من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي ويمكن أن يتخذ أشكالا مختلفة حسب البلدان وأن يستغرق سنوات أو عقودا، فكيف يمكن مقاربته؟
لا يتردد الانتقاليون10 في القول بأنه يجب تحليل الانتقالات من زاوية كونها ميكانيزمات خاصة لسلوك القوى السياسية أي على مستوى الهندسة السياسية للفاعلين وبصورة خاصة النخب السياسية ( والعسكرية ) حسب الحالات.
و تتجسد هذه الميكانيزمات في استراتيجيات سياسية، بما هي مزيج من الاختيارات والاكراهات، في وضعية تعرف بعدم اليقين في خصوص مساراتها ونتيجتها .
و يجب تقطيع الانتقال إلى ثلاثة مراحل ، صعبة التحديد في الواقع التجريبي، وفق تحليلات ” اودونيل ” و” شميتر ” هي على التوالي : الانفتاح، فالانتقال بمعناه الضيق ثم ترسيخ الديمقراطية .
و تعتبر ” جيورجينا سانشيزلوبيز ” من ناحية أخرى أن ترسيخ الديمقراطية أو غيابها يعود في جانب كبير منه إلى المنطق المتقاطع لاستراتيجيات الفاعلين المعتمدة خلال مرحلة الانتقال . ورغم أن هذه الاستراتيجيات متعارضة إلا أنها تتفق على الأقل في نقطة وهي ضرورة إرساء نظام سياسي تعددي.
و لا تكمن صعوبة الانتقال في انهيار النظام الاستبدادي أو إسقاطه (حسب الحالات) وإنما في قدرة النخب على انجاز انتقال حقيقي دون الوقوع في الفوضى أو أن تتعرض التجربة للانتكاس .
و يعتبر ” جيل ” في ” ديناميكية الصيرورة الديمقراطية ” أن كفاءة النخب السياسية في إيصال المسار الانتقالي إلى هدفه تعتبر عاملا حاسما لتفادي الوقوع في الفوضى أو العودة إلى الاستبداد.
و يرى ” الكسندر باترو ” أن الانتقال الديمقراطي هو حاجة ضرورية للشعوب وللأنظمة الحاكمة على السواء وأن ” الفشل في تحقيق انتقال سلس للسلطة على مر التاريخ يجلب الخراب للحكومات ” .
اما ” دانكوارت روستو “، الذي انتقد المدارس التحليلية التي سادت العلوم السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية والذي ميز بين العوامل المؤدية إلى الديمقراطية وتلك التي تساهم في تعزيزها وبقائها، فيذهب إلى أن عملية الانتقال الديمقراطي من الممكن أن تحدث في ظل ظروف يجتمع فيها أكثر من عامل .
و يتم الانتقال إلى الديمقراطية عندما يدخل نظام الحكم لدولة ما في أزمة شرعية بما يؤدي إلى حدوث انقسام بين النخب سواء تعلق الأمر بنخب النظام أو نخب المعارضة .
و اعتبارا للصعوبات النظرية والتجريبية التي اعترضت الانتقاليين في تفسير بعض حالات الانتقال، حاول بعضهم، منذ التسعينات خاصة، إثراء نمطهم التفسيري وتوسيعه.
و كان ” لينز” و” ستيبان”11 (1996) قد اقترحا، من خلال دراسة أربع عشرة تجربة انتقال ديمقراطي، براديغم جديد للتحليل يرتكز – دائما – على نظرية الفاعل ولكنه يعمل من خلال خمسة خطوط توجيهية هي على التوالي:
1 – المجتمع السياسي : يتعلق الأمر بالفاعلين الذي يطمحون للوصول إلى السلطة. وهذا المجتمع يجب تعزيزه في مقابل المجتمع المدني لضمان انتقال سياسي منظم وتوافقي.
2 – المجتمع المدني : ويشمل الفاعلين غير الرسميين مثل جمعيات حقوق الإنسان والنقابات واتحاد الأعراف والفاعلين الدينيين.
3 – مفهوم دولة القانون وتحديدا القواعد التي ستنظم قواعد اللعب الجديدة لمرحلة ما بعد سقوط النظام الاستبدادي.
4 – الدولة ذاتها وتشمل فاعلين مثل العسكر والأمن يمكنهم حسب الحالات مساعدة أو عرقلة نخب الانتقال.
إن المحافظة على الشرعية البيروقراطية للدولة (و عدم التشكيك فيها) يساهم في انجاز انتقال سلس ويعزز الاستقرار.
5 – المجتمع الاقتصادي الذي يتكون من مجموع الهياكل،الخاصة والعامة، التي تهدف إلى ضمان الرابط بين سياسات قيادات المراحل الانتقالية والتطلعات الشعبية.
و اعتبارا إلى أن نظرية الانتقال تبقى في العمق نخبوية، فان الأسئلة التي طرحتها تتعلق بمسائل مختلفة نكتفي في هذا الجزء الأول من عملنا بالتعرض لبعضها:
1 – مفهوم الديمقراطية الذي تقوم عليه المقاربة الانتقالية
2 – مكانة الفاعل ووزن العوامل البنيوية في الانتقال ؟
3 – نمذجة التفاعلات بين اللاعبين ونمذجة الانتقال.

مبحث ثاني- في التصور الإجرائي للديمقراطية:
يذهب كثير من الباحثين إلى أن نظرية الانتقال الديمقراطي بما هي محاولة تفسيرية للانتقالات الديمقراطية في العالم قد أغرقت في مسار ليس للديمقراطية فيه مضمون محدد.
و يهدف علم الانتقال الديمقراطي،الذي يرتبط بنظرية الاختيار العقلاني، لترويج مقاربة براغماتية وإجرائية للديمقراطية كما يقول “كامو”12 .
إن الديمقراطية التي يتحدث عنها اغلب الانتقاليين ( ليبست،هانتنغتون..) تتمثل في الديمقراطية الإجرائية.
يقصد بالتعريف المؤسسي إذن وجود مجموعة من الإجراءات والمؤسسات الديمقراطية كما تطورت من خلال التجربة الأوروبية وتشمل الانتخابات والبرلمانات والأحزاب والمنظمات المهنية والجمعيات التي يحكمها القانون والدستور في بلد معين.
و هذا التصور الأدنى والإجرائي مستوحى من ” شومبيتر” الذي عرف الديمقراطية في كتابه ” الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية” باعتبارها النظام الذي يصل فيه الأفراد إلى مراكز القرار السياسي ويصبحون حائزين على سلطة اتخاذ القرار عن طريق الصراع والتنافس على أصوات الشعب.
و يستشف من هذا التعريف أمرين في غاية الأهمية :
أولهما ما يميز الديمقراطية هو الصراع للوصول إلى السلطة بواسطة انتخابات حرة وتنافسية.
ثانيهما مسؤولية المنتخبين( بفتح الخاء) أمام المنتخبين( بكسر الخاء).
أما النتيجة المرتبطة بهذا التعريف فهي انه لا يمكن أن ننتظر من الديمقراطية لا نجاعة اقتصادية اكبر ولا عدالة اجتماعية أكثر.
و رغم محدودية هذا التصور الذي يركز على المتغير الانتخابي والتنافس السياسي ولا يهتم بالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الأخرى، وجب النبيه إلى مسالتين :
أولا: الانتخاب (والتنافس من اجل الوصول الى السلطة) مفهوم يحيل على علامة الديمقراطية التعددية ذاتها كما يؤكد ” غي ارمي “. 13
و يرى ” هانتنغتون” و” مور”14 أن الديمقراطية تتحقق كلما تم انتخاب القيادات الرئيسية للنظام السياسي بواسطة انتخابات تنافسية يمكن فيها اغلب الشعب من المشاركة.
و يسمح هذا الانفتاح على دور التناوب أو التداول ( على السلطة)، في إطار ” لعب” الفاعلين السياسيين، بتحديد الخروج من الاستبداد باعتباره مسارا يهدف الى صياغة قواعد سياسية جديدة تمكن الجميع في بلد معين من المشاركة بحرية في إرساء هياكل النظام السياسي الوليد وضمان استقرارها.
ثانيا : هذا التصور للديمقراطية ليس أجوفا ولا خاليا من الاستلزامات كما قد يتبادر إلى الأذهان.
1 – على المستوى النظري : لا يخلو هذا التصور المؤسسي الإجرائي للديمقراطية من متطلبات فنية ومؤسسية يجب ان تستجيب لشروط أوجزها “روبرت دال”15 فيما يلي:
1 – وجود انتخابات دورية ومفتوحة وحرة تتنافس فيها الأحزاب السياسية والأفراد للوصول إلى كافة المواقع النافذة في الحكومة،
2 – وجود مشاركة سياسية شاملة على نحو لا تحرم فيه اي جماعة سياسية من ممارسة حقوقها في المواطنة،
3 – وجود حماية شاملة للحريات المدنية والسياسية.
2 – عمليا: هل أن إجراء انتخابات تعددية حرة ونزيهة عملية سهلة؟16
لننطلق من واقعنا العربي. لم تعرف الدول العربية منذ خروجها من مرحلة الاستعمار المباشر تجربة انتخابية نزيهة وحرة وشفافة تستحق الذكر. فالشعب التونسي مثلا انتظر عقودا قبل أن يمارس تجربة انتخابية حقيقية في 23/10/2011 (؟ ).
فالي أي حد يساهم المفهوم
الإجرائي المؤسسي في قياس الديمقراطية في بلد معين ؟ وإلى أي مدى يمكن من تصنيف دقيق لأنظمة الحكم؟
يمكن معيار الديمقراطية الانتخابية الانتقاليين من قياس الديمقراطية في الواقع التجريبي باعتماد مؤشرات عملية تتعلق خاصة بإجراء الانتخابات وبالإقرار بالحقوق السياسية والمدنية. كما يمكن من تيسير إعمال هذه المؤشرات بالنسبة لأنظمة ديمقراطية مختلفة في الزمان والمكان.
و يوظف الانتقاليون هذا المعيار لتصنيف كل نظام ينتقل من نظام استبدادي إلى نوع من التعددية المجسدة في انتخابات* دورية واحترام الحريات الأساسية في إطار ” ديمقراطيات “.الا ان هؤلاء اعترفوا في بعض حالات الدراسة بعوائق تحول دون ترسيخ الديمقراطية مثل الحضور المستمر للعسكريين في الحياة العامة والضعف الهيكلي للأحزاب السياسية … لكنهم لا يولون أهمية خاصة للظروف الاقتصادية الاجتماعية التي من شانها أن تحرم قطاعات هامة من الشعب من أية إمكانية لمشاركة ديمقراطية حقيقية .
فما هي الافتراضات التي تؤسس لهذا التصور المؤسسي للديمقراطية وما هي النتائج المترتبة عنها؟
يتفق كثير من الباحثين على أن المدرسة الإجرائية تقوم على افتراضات أهمها:
أولا: افتراض العقلانية والرشد في الأفراد (و هو نفس الافتراض الذي عابته على النظرية الكلاسيكية).
يكون الفرد عقلانيا، حسب المقاربة الأكثر استعمالا في التحليل الانتقالي، بالرجوع إلى ثلاثة مستويات:
1 – أن يكون قادرا على تحديد سلم أفضلياته،
2 – أن يكون قادرا على برمجة ما يجب عليه فعله،
3 – كل فرد له ثقة بما يحتاجه.
لقد ثبت من خلال التجارب السياسية الغربية نفسها تهافت هذه المقولة التي تبقى مجرد افتراض لا أساس تجريبي له.
1 – افتراض العقلانية والرشد في الافراد يقتضي انهم يولدون كذلك ويكونون بالتالي مسؤولين عن تصرفاتهم منذ لحظة الميلاد (؟)
2 – القول بان تفضيلات الأفراد تؤسس على الحرية (خارج كل مرجعية خارجية، اجتماعية أو دينية) تتنافى مع أهمية القيم المشتركة والمصلحة العامة التي تؤثر لا محالة في الاختيارات وتعزز الوحدة الوطنية وتيسر سبل التعايش السلمي في مجتمع معين. هذا إلى جانب ما أثبته العلم عن الانعكاسات السلبية للانعزال.
3 – لقد اثبت تطور الممارسة السياسية في الغرب محدودية افتراض قدرة الأفراد على الاختيار الحر والسليم. ان تعاظم دور المؤسسات الإعلامية والاقتصادية الضخمة في التأثير على اختيارات الناخبين والتحكم في حجم المشاركة وتوجيه الرأي العام إضافة إلى الطابع الشعبوي للخطاب السياسي، يحد بشكل لا يمكن إنكاره من هامش الحرية المفترض.
ثانيا : افتراض خلو الديمقراطية من القيم ( القيم منظورا إليها من زاوية ثقافية غربية ) ويهدف هذا الافتراض إلى تعميم النموذج الديمقراطي في إرجاء العالم وتجاهل العوامل والظروف المرتبطة بنشأة الديمقراطية وقيامها واستمرارها في المجتمعات الغربية .
و نضيف الى ما تقدم:
ثالثا: الكونية الديمقراطية وأسس مشروع الايدولوجيا الديمقراطية : اقترنت “الموجة الثالثة” للديمقراطية ونشر” نظام سياسي للحرية” ببلورة إيديولوجيا ديمقراطية تقوم على دعائم أهمها:
1 – معطى انثر بولوجي يتمثل في رغبة كونية للحرية تجسدها الحركة التاريخية للشعوب في اتجاه الديمقراطية. وهذا يعني ببساطة اعتماد أساس كوني (الديمقراطية باعتبارها تعبيرا عن العقلانية المكتملة) يتجاوز الخصوصيات المحلية والتاريخية للشعوب والأمم والثقافات.
2 – معطى تاريخي يتعلق بإعادة انبعاث الديمقراطية منذ السبعينات وفقدان شرعية الأنظمة الاستبدادية (سلطوية،شمولية..) وانتصار البراديغم الديمقراطي.
3 – مسوغ إيديولوجي يعطي للديمقراطية معنى ايجابيا ليس بمعنى تبرير الهيمنة والتوسع ولكن بما هي نظام أفكار وقيم نختار الانخراط فيها بعقلانية ووعي ما يضفي عليها شرعية كاملة.
الا ان هذه افتراضات الايديولوجية الديمقراطية كانت ثقيلة النتائج.
فما نربحه في الامتداد(الجغرافي) – يقول الباحثون الغربيون – نخسره في الفهم أي في الكيف أو في مضمون الديمقراطية17 . إن عولمة إجراءات الديمقراطية النيابية في أرجاء العالم المختلفة لم يترافق مع التطور النوعي للديمقراطية ليس في البلدان التي عرفت انتقالات ديمقراطية حديثة فقط وانما حتى في البلدان ذات الأنظمة الديمقراطية العريقة ( كما سنأتي على ذلك في عناوين أخرى).
وهذا ما جعل ” دايموند” يقترح التمييز بين الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الانتخابية. كما حاول الانتقاليون استخدام مقاييس أخرى واتفقوا على نقطة وهي أن الديمقراطية تتجلى وتكتمل إذا كانت القاعدة الديمقراطية معترف بها من قبل الجميع باعتبارها قاعدة اللعب الوحيدة.
كما أدت الصعوبات التي يعاني منها هذا التصور الإجرائي للديمقراطية إلى استبعاد مفهوم الانتقال لمصلحة مفهوم الترسيخ وحتى الى التشكيك في البراديغم الانتقالي برمته.
و السؤال الذي نؤجل الإجابة عنه إلى موضع آخر يتعلق بما إذا كان هدف الانتقاليين من وراء عولمة الإجراءات والمؤسسات الديمقراطية الغربية مبدئيا وحياديا؟

مبحث ثاني – الفاعل ووزن العوامل البنيوية :
إذا كان مفهوم الانتقال يفيد إرساء قواعد وإجراءات جديدة وبناء مؤسسات ديمقراطية وينتهي نظريا بإجراء أول انتخابات لاحقة لسقوط النظام السلطوي، فان الترتيبات السياسية تتوقف بالأساس على الاستراتيجيات المتبعة من قبل عدد محدود من الفاعلين وعلى تفاعلات تلك الاستراتيجيات.
فكل مسار للانتقال إلى الديمقراطية يفترض مجموعة لاعبين سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات أو جماعات أو منظمات اجتماعية سياسية، لها مصالح متضاربة وأهداف خاصة وتعيش صراعات، وتناضل في فضاء جغرافي محدد وفي زمن معين للمحافظة على نظام سياسي معين أو التكيف مع مقتضياته أو انجاز تحوله أو تغييره راديكاليا.
فظهور الأنظمة الجديدة وتطورها يتحدد – تقول ” ديان ايتيان” – باختيارات النخب التي تبحث عن مضاعفة مصالحها في إطار مؤسساتي يساهم صراعهم في بنائه .18
فالمفاوضات والمساومات وحتى الصفقات التي تحصل بين النخب السياسية بما في ذلك مع بقايا نخبة النظام القديم ينبغي أن تكون ضمن ما تنتهي إليه تلك النخب من توافقات19 .
فعلاقات القوة تصبح المحرك الرئيسي للتغيير في وقت لا يمكن فيه تقييم الأوزان المختلفة للقوى المتصارعة وفي مرحلة تتسم كما بينا بدرجة عالية من الغموض وعدم اليقين .
و رغم ان استراتيجيات الفاعلين تبقى متقاطعة إلا إنها تتفق على الأقل في نقطة وهي ضرورة إرساء نظام سياسي تعددي.
و بما اننا بصدد الحديث عن عصب نظرية الانتقال ( الفاعل)، نتوقف عند وصف موجز لخطاطة الانتقال كما رسمها ” غيلرمو اودونيل ” و” شميتر ” في كتابهما ” الانتقال من الأنظمة السلطوية ” 1988 الذي يجمع الباحثون في هذا المجال على انه المرجع المؤسس في علم الانتقالات .
و يبين ” اودونيل ” و” شميتر” في هذا الكتاب المراحل التي مرت بها الأنظمة في بلدان أمريكا اللاتينية لبلوغ الديمقراطية .
ويمكن اختزال هذه المراحل في ما يلي :
1 – الاحتلال 2 – الثورة والتحرر 3 – قيام أنظمة دكتاتورية خضعت للهيمنة الاستعمارية الجديدة ( أمريكا )4 – الشروع في مرحلة انتقالية أدت إلى قيام أنظمة ديمقراطية.
فالانتقال الديمقراطي يتمثل بصورة أساسية في التفاوض والاتفاقات المبرمة بين نخب السلطة والمعارضة بهدف الانتقال من نظام استبدادي إلى نظام ديمقراطي.
و هذه ” الاتفاقيات الانتقالية ” تسمح للنخب الفاعلة بتحديد أو إعادة تعريف القواعد التي تنظم ممارسة السلطة على أساس يضمن المصالح الحيوية لتلك الأطراف.
وانسجاما مع هذا التعريف، يبدأ الانتقال الديمقراطي عندما يشهد النظام السلطوي أزمة تفرض إعادة تموضع أطرافه20 .
فالاصلاحيون يرون أن النظام يكسب الكثير إذا بادر بإصلاحات أكثر من محافظته على الوضع القائم ما دام قادرا على ذلك أي قبل أن ينهار بسبب جموده. لذلك يتصورون أن النظام بحاجة إلى شكل أو درجة معينة من الشرعية الانتخابية في المستقبل لتفادي نهايته المحتومة.
و يعتبر اودونيل وشميتر أن الإصلاحيين ليسوا بالضرورة ليبراليين لكنهم يدركون ان النظام لا يمكنه أن يبقى جامدا وان الشروع في إجراء إصلاحات سياسية أصبح ضروريا.
أما المحافظون من داخل النظام فيعتمدون على حسابات أخرى للمحافظة على مصالحهم وامتيازاتهم21 . وهؤلاء، كما يرى الباحثان، انتهازيون يرفضون الديمقراطية لأنها تهدد مصالحهم وامتيازاتهم التي يخولها لهم النظام القائم أو أنهم يعارضون اعتمادها منهجا للحكم بصفة مبدئية.
فإذا استطاع الاصلاحيون الهيمنة على أجندة النظام، تلت ذلك موجة انفتاح بإمكانها أن تؤدي إلى مفاوضات مع المعارضة حول سبل دمقرطة النظام .
و يفترض الباحثان انه حتى لو لم يكن مصدر الأزمة داخل النظام السلطوي فيجب أن تنشر داخله حتى تتمكن القوى المساندة للإصلاحات من تحقيق أهدافها.
و يتبين لنا من خلال هذا المخطط الوصفي للانتقال أننا بصدد ثلاثة مراحل هي :
1 – الانقسام الداخلي للنخب السلطوية.
2 – الانفتاح النسبي للنظام .
3 – مفاوضات ( شكلية أو غير شكلية ) بين نخب النظام ونخب المعارضة.
إلا ان مخطط الانتقال الذي اشرنا اليه وكذا النظرية النخبوية للانتقال تعرضا للنقد خاصة لجهة أن نظرية شميتر وادونيل تستهدف المجتمع بطريقة تابعة وغير متجانسة ومجردة .22
تابعة أولا لان حركة المجتمع المدني في الانتقال تقتصر على معاضدة اللعب الاستراتيجي للنخب وبالتحديد بعد إطلاق المسار الانتقالي كما ينتقد ذلك ” بيرنز كوليي ” *،
مجردة ثانيا لان المجتمع المدني – كما يراه الانتقاليون – حركة تراتبية ومتعدد الأشكال..
و يعتبر ” بيرنز كوليي ” – على خلاف ذلك – أن المجتمع المدني فاعل مستقل ومركزي في مسارات الدمقرطة وأحيانا منذ بداياتها.
و تقوم تصنيف الانتقالات الديمقراطية انطلاقا من نظرية الفاعل على محددات مختلفة أهمها :
1 – وجود أو غياب اتفاق بين أجنحة النخبة
2 – الدور النسبي للعسكريين
3 – الوزن النسبي للحركات الاجتماعية
4 – وتيرة المرور من مرحلة إلى أخرى.
و إذا كانت دراسات الانتقال تؤكد على الدور المركزي للفاعلين / العوامل المهيكلة (بكسرالكاف)، فهل نجد مكانا للعوامل البنيوية في تفسير أي تغيير سياسي ؟
سبق أن اشرنا إلى أن ” هانتنغتون “23 حدد مسارات الانتقال إلى الديمقراطية اعتمادا على معايير تتصل بالعوامل البنيوية العامة / مشكلة المشروعية نتيجة الأزمات المختلفة التي يعيشها النظام السلطوي،التطور الاقتصادي لسنوات الستين، تطور موقف الكنيسة، تطور وسائل الاتصال والإعلام، مواقف الفاعلين الأجانب لجهة دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان / إضافة إلى اثر ” كرة الثلج ” بالنسبة للانتقالات الأولى إلى الديمقراطية في الموجة الثالثة.
و لئن سلم بأهمية تلك العوامل الموضوعية، فان ” هانتنغتون ” اعترف باختلاف أثرها من منطقة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر وميز بين أنماط مختلفة للتحول إلى الديمقراطية.
و يؤكد المفكر الأمريكي أن هذه العوامل ضرورية ولكنها غير كافية لتفسير مسار تغيير النظام . لذلك يجب التركيز بصورة اكبر على العوامل المهيكلة (بكسر الكاف) أي تدخل القيادات والفاعلين السياسيين الذين يتكفلون بتحديد طريقة التفاعل مع كل أزمة.
و يمكن القول إن اغلب الأطر التحليلية للانتقال تعتبر ان العوامل البنيوية تساهم في تحديد إطار تحرك الفاعلين ولكنها تبقى غير محددة ( بكسر الدال ) بمعنى أن البنيات تؤثث السياق العام للأحداث لكنها لا تفسر المسارات التي تتخذها هذه الأحداث.
1 – تدخل القيادات واللاعبين السياسيين هو الذي يفسر المال النهائي لمسار التغيير
2 – أنماط الانتقال تحدد في جانب كبير منها خصائص النظام الجديد أي أن نوع النظام الجديد يعكس الشروط التي تفاعلت لانجاز المسار الانتقالي.

مبحث ثالث – نمذجة الانتقال ؟
من المسائل التي مازالت تثير جدلا في الأوساط البحثية ما يتعلق بإمكانية نمذجة التفاعلات بين اللاعبين في مرحلة الانتقال الديمقراطي وبنمذجة الانتقال ذاته.

فقرة أولى – نمذجة التفاعلات بين اللاعبين؟
يمكننا الإشارة هنا إلى مثال وإلى مشكلة.
فأما المثال فيتعلق بمحاولة ” لينز” و” ستيبان” الذين نمذجا صورة لعب بأربعة لاعبين : الصقور والاصلاحيون من النظام ضد الراديكاليين والإصلاحيين من المعارضة.
و يكون الهدف – طبقا لهذا النموذج – أن ينظم الاصلاحيون من الجانبين مفاوضات تمكنهم من فرض مصالحهم في الاتفاق النهائي.
و أما المشكلة فتتمثل في أن نمذجة التفاعلات بين الفاعلين في المرحلة الانتقالية تبقى محل جدل بين الانتقاليين والباحثين.
فهل يمكن نمذجتها من خلال افتراضات عامة (“كولومار”،1991)24
أو بواسطة “العاب” كما تستعمل اليوم في نظرية الاختيار العقلاني (“غيديس”،1996)25
آو هل يجب التأكيد على تجذرها في ظروف ووضعيات خاصة ( ” اودونيل” 1986 ) ؟

فقرة ثانية – نموذج انتقالي ؟
تقوم المحاولات التي تستهدف بناء نموذج نظري تفسيري ومعياري – انطلاقا من ملاحظة الحالة الاسبانية – على فكرة مفادها انه بالإمكان وضع نموذج انتقال يكون دليلا على ذمة الفاعلين السياسيين الأجانب للادراة الجيدة لوضعية تغيير سياسي ما. 26
ف”علم ” المراحل الانتقالية يسلط الضوء على طبيعة الأنظمة السياسية بمعنى انه يصوغ التغيير السياسي على أساس إجراءات تحدد أنواع عامة من الأنظمة ( ديمقراطية، سلطوية… ) . ولذلك فانه يقوم على تفضيل النوع العام على تجسيداته المحسوسة، النوع المثالي على تجسيده في مجموعة من المؤسسات.
ما هو النموذج ؟
يعرف النموذج على انه مجموعة من الوقائع والأعمال لها أربعة خصائص:
1 – تقع خارج الواقع المعني بما يمكن من إعادة إنتاجها .
2 – يمكن إعادة إنتاجها .
3 – يمكن للغير إعادة إنتاجها مع بعد قيمي يحيل إلى انه إذا طبقنا النموذج، مع اخذ المعطيات الظرفية بعين الاعتبار، سيكون من المحتمل جدا الوصول إلى نفس النتيجة.
4 – البعد الأخلاقي بمعنى انه من الجيد إعادة التجربة…
و قد طور الباحثون في ” علم ” الانتقال الديمقراطي عدة نماذج استوحاها أصحابها من النموذج الاسباني ومنها :
1 – نموذج ” الانتقال المتفاوض بشأنه ” الذي وظفه ” ادام برزيورسكي ” في المؤلف الجماعي الذي أداره ” اودونيل ” و” شميتر ” و” ويتهاد “.
2 – نموذج ” الانتقال بالمقايضة ” الذي اعتمده ” دونالد شاير ” 1987
3 – نموذج ” التسويات بين النخب ” الذي استعمله ” ميكائيل بيرتون ” و” جون هيغلي ” و” ريشار غونتر ” ..
4 – نموذج الانتقال ألاتفاقي الذي اعتمده مثلا ” جوزيف . م . كولومار” ووظف نظرية الألعاب في الحالة الاسبانية لتفسير التغييرات التي شهدتها دول أوروبا الوسطى والشرقية . 27
كل هذه النماذج التي تتأسس على المفاوضات والاتفاقات بين النخب تؤكد في الحقيقة التفسير المهيمن للنموذج الاسباني للانتقال الديمقراطي الاسباني وتدعمه .
ولعل هذا ما دعا بعض الباحثين28 إلى إطلاق اسم مدرسة الاتفاقات أو مدرسة المفاوضات التي تتضمن مجموع النماذج النظرية المؤسسة على المفاوضات بين مختلف المجموعات المعتدلة وتشكل اسبانيا مثالا لهذه الحالة.
و يمكن إجمال النماذج التي اقترحها الانتقاليون في نوعين :
1 – النموذج الاتفاقي :
يطلق هذا النموذج على كل تغيير سياسي يتم على اساس عقد أو اتفاق سياسي بين نخب النظام القديم ونخب المعارضة ويتخذ احد صورتين :
ا – التحول : عندما تتنبه نخب النظام الى ضرورة سلوك مسار ديمقراطي، وان كان موجها، يمكنهم من البقاء في السلطة بطريقة شرعية أو على الاقل من الاحتفاظ باسهم هامة من تلك السلطة.
ب – التحول الاحلالي : يتم على اساس التفاوض بين مجموعات معتدلة من جانبي النظام والمعارضة الذين يقودان مسار الانتقال بالاشتراك وبوتائر يحددانها سلفا.
2 – النموذج ألصراعي :
ينتج هذا النموذج عن انهيار النظام القديم ويتميز بالخصائص التالية:
– غياب الاتفاقات السياسية المؤطرة للانتقال
– وجود معارضة قوية لها القدرة على فرض التغيير السياسي على نخب النظام والحلول محلها.
– تمتع قيادات المعارضة ولاعبيها بهامش حرية كبير بالمقارنة مع يتوفر عليه الفاعلون في النموذج الاتفاقي.
و يؤكد الانتقاليون على أن الانتقالات غير الاتفاقية تتميز بدرجة عالية من عدم التحديد بفعل حضور المعارضات المتناحرة والصراعات المباشرة والمكلفة بين مختلف المجموعات والمنظمات والأحزاب والفئات والمصالح .
و إذا كانت النماذج النظرية هي قبل كل شئ ” أنواع مثالية ” حسب تعريف ” فيبر ” اي انها ليست انعكاسا صحيحا للواقع، فلماذا كل هذا الحماس للنمذجة والتنميط ؟
يفسر حماس ” الانتقاليين ” لهذا النموذج وانبهار الفاعلين السياسيين الأجانب به بالظرفية الإيديولوجية الدولية التي تشكلت من خلال:
1 – انهيار الحركات العابرة للقومية القادرة على ان تكون نماذج للتطور ومنها نموذج الانتقال إلى الشيوعية،
2 – وكذا التبشير بالزمن الديمقراطي بما يمثله من علوية للديمقراطية فيما يتعلق بشرعية السلطة خاصة بعد انهيار الثورتين الفاشية والشيوعية.
يقول ” بلاتنر ” بلهجة تبشيرية ” لقد دشنا عالما لا يوجد فيه إلا مبدأ مهيمن للشرعية : الديمقراطية ” .
لذا يمكن القول إن ” علم ” الانتقالات – من خلال توظيف النماذج – يسعى إلى تفسير مظاهر التحول وتوجيه الفاعلين الذين يتعرضون لمثل هذه الوضعيات .
فالنظم الجديدة – كما ترى ” بنديكت بازانا “29 الأستاذة في معهد الدراسات السياسية بباريس – يقع تقييمها اعتمادا على وتيرة ودرجة تقدمها في البناء الديمقراطي بالمقارنة مع نموذج مرجعي غربي.
و لذلك تلبس وصفة ” الانتقال الديمقراطي ” في جوهرها طابعا غائيا وتسطح الواقع، على اختلافه وتعقيده، بالرجوع إلى القواعد والمبادئ المعمول بها في الديمقراطيات الغربية العريقة.

المحور الثالث
ترسيخ الديمقراطية
الباب الأول – من الانتقال إلى الترسيخ
الباب الثاني – الديمقراطية والترسيخ
الباب الثالث – شروط ومعايير الترسيخ
الباب الرابع – عوامل الترسيخ
الباب الخامس – معيقات الترسيخ
الباب السادس – اثر اللبرلة الاقتصادية على الانتقال الديمقراطي

مدخل عام:
لقد كانت مختلف التجارب التي امتدت من جنوب أوروبا ووسطها مرورا بأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وشرق آسيا ووصولا إلى إفريقيا المجال الرئيس لدراسة وتحليل ظاهرة “الانتقال الديمقراطي” سواء في إطار أسلوب دراسة الحالة أو في إطار الدراسات المقارنة التي شاع اعتمادها في مختلف البحوث ذات العلاقة.
و قد أبرزت هذه التجارب تطور النظرية وحدودها ومن بين هذه الأفكار:
1 – اختبار صدقية نظرية الانتقال التقليدية في عناصرها ومفرداتها الرئيسية .
2 – اتجاه بعض الباحثين إلى اعتماد مقاربة ” الطريق المتبع” ” عند تناول التغييرات السياسية. فقد ركز ” ” فورست” و” مينك ” (2004 ) مثلا على ” التواصل ” المؤسساتي والإداري المحدد للقواعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية رغم التغيرات التي تشهدها الأنظمة .
3 – اتجاه دراسات أخرى إلى تجاوز المقاربة الشكلية (الدستورية المؤسساتية) التي هيمنت على العلوم السياسية لتركز على العوامل الاجتماعية والثقافية ومنها :
– إبراز مكانة الحركات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني في دعم التحول الديمقراطي والمساهمة في ترسيخه وفي خلق ثقافة ديمقراطية تؤسس لديمومة المؤسسات الديمقراطية وتحول دون تراجعها أو فشلها .
– الانتباه إلى التفاعلات والصراعات بين فرض سياسات جديدة ( اقتصاد السوق، العولمة النيوليبرالية ) وبين ترسيخ المسارات الديمقراطية.
و يتضح من خلال هذه الأفكار الموجزة التي أثارها تطور نظرية الانتقال حسب واضعيها إشكالية صدقية مفهوم الانتقال الديمقراطي من عدمه ومشكلة ” جودة ” الديمقراطيات الجديدة في ضوء فشلها النسبي في أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا. واعتبارا إلى أن نظرية الانتقال الديمقراطي عرفت إسهامات مهمة لإثراء أدواتها وتوسيع فضائها المعرفي، فإنها تعرضت لانتقادات كثيرة ( سنتعرض إليها في الجزء الثاني من هذا العمل).
لقد ساهمت الصعوبات التي واجهت المقاربة الانتقالية في ظهور علم ترسيخ الديمقراطية باعتبار أن تحقيق انتقال سياسي في بلد ما لا يمكن أن يتحول إلى انتقال ديمقراطي ناجز أي إلى ديمقراطية مستقرة ما لم يتم تجذير تلك الديمقراطية في البلد المعني. وهذا هو مناط المحور الرابع من هذا العمل.

تقول ” كريستين غوو”30 في “أبحاث حول ظاهرة الانتقال الديمقراطي” : ” عندما يتم التغيير، يجب أن تستمر الديمقراطية في الزمن حتى تصبح مكتملة “.
فإذا كانت المشكلة الرئيسية للانتقال تتعلق بوضع تسويات إجرائية جديدة ولو كانت جزئية وظرفية، فان الترسيخ يقوم على التوسيع التدريجي لتلك القواعد والإجراءات لتشمل مجموعة اكبر من الفاعلين السياسيين الذين تضبط تلك الإجراءات سلوكهم.31
فالقواعد والإجراءات الجديدة تبقى محدودة الصلاحية وقابلة للتراجع ما لم يقع دعمها وترسيخها لتصبح ” قاعدة اللعب الوحيدة ” بالنسبة لجميع الفاعلين والمرجع الوحيد لسلوكهم.32
لذلك لا تكفي التسويات السياسية الجديدة للقول بانتهاء مسار تغيير النظام السياسي إلا إذا تمت ماسسة قواعد اللعب الجديدة التي تمثل رهان الترسيخ .
و يركز ” علم ” الترسيخ على المسائل التالية :
1 – درجة ماسسة القواعد والإجراءات الجديدة .
2 – الاتفاق حول الموارد المؤسساتية والإجرائية في مستوى النخبة السياسية أولا ثم في مستوى كافة المواطنين .33
3 – هذا الاتفاق هو نتيجة لوجود القواعد والمؤسسات الجديدة وليس تجميعا لاختيارات مختلفة وهو ما يحيل إلى مفهوم ” التعود” عند ” روستو” أو “الاستيعاب ” عند ” ويتهاد “ 34.
و تجدر الإشارة هنا إلى أن ” التعود ” أو ” الاستيعاب ” يختلف عن مفهوم ” الثقافة السياسية ” باعتبار الأخيرة معطى مسبق، طويل في الزمن ومتجذر في هياكل التنشئة السياسية.

الباب الأول – من الانتقال إلى ترسيخ الديمقراطية
يعود الاهتمام بمفهوم ترسيخ الديمقراطية بالأساس إلى الإشكاليات التي تتصل بالمسار السياسي الذي يبدأ بعد أول انتخابات تعقب العهد السلطوي، هذه الانتخابات التي يطلق عليها ” اودونيل ” و” شميتر” ” الانتخابات التأسيسية “.
و يعتبر كثير من الباحثين ومن بينهم ” غي ارمي ” أن ” الديمقراطية تترسخ عندما تصبح نظاما دون ” بديل ” يمكن تصوره حقيقة سواء بالنسبة للنخب أو بالنسبة للأغلبية الساحقة من أفراد مجتمع ما “. ويعني ذلك تجذير المبادئ والإجراءات الديمقراطية وتعميقها في إطار البنية الأساسية للنظام الذي يصبح آمنا ومستقرا باعتباره يشكل أفضل خيار بالنسبة للجميع.
و تؤسس ” ديان ايتيي “ الديمقراطية الراسخة على الاتفاق الاجتماعي الواسع الذي يتجاوز الدائرة الضيقة للاعبين الرئيسيين.
و كما بينا سابقا فان ” دانكوارت روستو ” يتحدث في هذا الاطارعن ” التعود ” الذي يجب تمييزه عن الثقافة السياسية .
اما ” فيليب .س. شميتر ” فقد عرف الديمقراطية الراسخة بكونها الديمقراطية التي تتشكل من خلالها علاقات نظامية مستقرة .
ويمكن تعريف ترسيخ الديمقراطية بناء على ما تقدم باعتباره المرحلة التي تصبح فيها المؤسسات والممارسات والقيم ثابتة ومستقرة نسبيا في النظام السياسي.
و في هذا السياق يقول د.محمد زاهي المغيربي : ” يمكن اعتبار ان الديمقراطية قد ترسخت في بلد ما عندما يقبل جميع الفاعلين السياسيين الأساسيين حقيقة ان العمليات الديمقراطية هي التي تحدد وتملي التفاعلات التي تتم في النظام السياسي(….) عندما يسعى الأفراد والجماعات الأفراد والجماعات لتحقيق مصالحهم استنادا على قواعد وترتيبات مؤسسية تعطي (…) إمكانية السيطرة على عملية اتخاذ القرارات ووضع السياسة العامة عبر التنافس الانتخابي”.35
وهكذا يعتبر النظام راسخا عندما ينظر إليه وإلى العملية الديمقراطية كنهج وحيد للتنظيم السياسي، وكتطور لا بدائل أخرى أفضل منه كما يقول ” غي ارمي “.
و لا يمكن اعتبار أن الديمقراطية قد ترسخت في مجتمع ما إلا عندما يقبل جميع الفاعلين السياسيين حقيقة أن العملية الديمقراطية هي التي تملي التفاعلات التي تتم في داخل النظام السياسي.
و يعرف ” اوف” و” شميتر ” 199836 الترسيخ الديمقراطي باعتباره ” مرحلة شك محدودة ” على عكس الانتقال ذاته الذي سبق أن أكدنا على خاصية عدم اليقين والشك الذي تميزه. وأشارا إلى أن عددا من الديمقراطيات الإجرائية لم تبلغ أبدا مرحلة الترسيخ الكامل مثل كوريا الجنوبية وتايوان .
فالترسيخ كما يؤكدان يتطلب مشروعية واسعة وعميقة منتقدين فكرة المرور الحتمي من الانتقال إلى الترسيخ الديمقراطي.
و يلاحظ ” شميتر” و” نيكولاس غيو ” ( المجلة الفرنسية للعلوم السياسية 2000 ص 620 وما بعدها ) أن مفهوم الترسيخ يبقى إشكاليا :
1 – تعريف الترسيخ بطريق الحشو أي بما هو نتاج مسار الترسيخ .
2 – صعوبة تحديد نتيجة الترسيخ : رغم حيادها الظاهري فان التعريفات تتضمن فرضيات معيارية تتصل بالعتبة التي من خلالها يمكن القول ان نظاما ديمقراطيا ما أصبح مترسخا وذلك بالاعتماد على مؤشرات تستند إلى معيار عالمي يتعلق بتطابق السلوك السياسي مع القواعد السياسية .
3 – التحديد الاعتباطي للفاعلين الذين يجب أخذهم بعين الاعتبار : تقوم الدراسات على ايلاء الأحزاب السياسية دورا مركزيا في التحول الديمقراطي لكنها تهمل في المقابل دور الحركات الاجتماعية والجمعيات والجماعات المحلية .
و يرسم ” شميتر” و” نيكولاس غيو ” ( المجلة الفرنسية للعلوم السياسية 2000 ) الاختلافات الرئيسية بين الانتقال والترسيخ ويشددان على أهمية هذا الأخير حين يقولان ” إذا كان الانتقال يفترض درجة كبيرة من عدم اليقين ويفسر ظهور قواعد لعبة سياسية جديدة بواسطة ” أسباب ” لا يمكن التنبؤ بها هي ” الاختيارات ” الإستراتيجية للفاعلين، فان الترسيخ يقلص نطاق الاختيارات الممكنة ويعيد إلى العوامل البنيوية والمؤسساتية سلطة تفسيرية. وبعبارة أخرى، فهو يحد من عدم اليقين المتأصل في الوضعيات الانتقالية . “37
و يستنتج الباحثان أمرين :
أولهما ما يطلقان عليه ” عدم التوافق الابستيمولوجي أو ضعف الاتساق بين مفهومي الانتقال والترسيخ ” ذلك أن الانتقال يقوم على نظرية التغيير في حين أن الترسيخ يؤسس على فكرة النظام والاستقرار.
ففكرة الترسيخ لا تمكننا من تمييز أنظمة سياسية ذات طبيعة مختلفة وبالنتيجة فهي غير قادرة على إبراز خصوصية الأنظمة الديمقراطية.
و ثانيهما أن الترسيخ يحد من هامش اختيارات الفاعلين( الذي تتأسس علية نظرية الانتقال ) ويعيد في المقابل الاعتبار للعوامل البنيوية والمؤسسية ( العناصر التي يتم تجاهلها عند تحليل الانتقال ) ويعطيها قوة تفسيرية ويحد بالتالي من عدم اليقين المميز للوضعيات الانتقالية.
فسلوك الفاعلين تحدده في هذه المرحلة المؤسسات وتنظمه القواعد الدستورية والسياسية.
و يؤكد الانتقاليون ان مرحلة الانتقال السياسي ليست منفصلة عن مرحلة تعزيز الديمقراطية بل هما متكاملتان ومتصلتان يبعضهما و” من غير الممكن ان ندعي المسك بسيرورة ترسيخ الديمقراطية دون أن نحسب حسابا لحالة الأزمة السابقة على عملية الانتقال وللظروف التي حفت بمسار الانتقال السياسي ذاته ” 38
و من بين الأسئلة التي تطرح بشدة – عند حديثنا عن ترسيخ الديمقراطية في بلد نجح في انجاز انتقال سياسي – علاقة الترسيخ بمفهوم الديمقراطية ومعايير الترسيخ واثر المتغيرات غير السياسية على ترسيخ الديمقراطية إضافة إلى عوامل الترسيخ ومعيقاتها.

الباب الثاني – شروط ومعايير ترسيخ الديمقراطية:
اهتمت دراسات كثيرة بالشروط التي تيسر أو تعرقل ترسيخ الديمقراطيات الجديدة ( الناشئة عن الموجة الثالثة للانتقال إلى الديمقراطية بين 1975 و1995 ).
و رغم التسليم بعدم وجود معيار دقيق وحاسم لقياس درجة ترسيخ الديمقراطية في بلد ما، فقد اعتمدت هذه التحليلات على معايير ثلاثة لبيان درجة ترسيخ الديمقراطية وحدوده هي :
1 – عامل الزمن : من المنطقي القول ” أن الأنظمة الديمقراطية التي دامت فترة طويلة من الزمن اقرب إلى أن تكون أكثر استقرارا ورسوخا من تلك التي مازالت حديثة العهد “.39 إلا أن تنسيب هذا الرأي ضروري للإحاطة بالاستثناءات التي تشكلها حالات التراجع النسبي للأنظمة الديمقراطية الراسخة وحالات الاستقرار النسبي للأنظمة الديمقراطية الناشئة .
2 – الشرعية: انخراط المواطنين في قيم الديمقراطية وقواعدها ومؤسساتها.
3 – الماسسة : التطبيق الفعلي لتلك القيم والقواعد والمؤسسات .
كما ضبط الانتقاليون قائمتين للتغييرات اللازمة لتحقيق تلك الشروط :
1 – إحداث مؤسسات تشجع على توسيع التمثيل والمشاركة لمختلف مجموعات المصالح في صنع القرار السياسي وكذا تنظيم المجتمع المدني بصفة مستقلة عن الدولة وتحقيق التعددية السياسية والقضاء على الرشوة والفساد …
2 – انتهاج سياسات عامة لتحسين النمو الاقتصادي وإعادة التوزيع العادل للناتج القومي.
و يعتبر تحقيق هذا الشرط أكثر صعوبة في اطار ليبرالية اقتصادية منه في إطار كينيزي .40
و يطلق ” اودونيل ” مصطلح الانتقال الثاني على عملية ترسيخ الديمقراطية ويعني بذلك الانتقال من حكومة منتخبة ديمقراطيا ( الانتقال بمعناه الضيق المتعارف عليه في ادبيات الانتقال ) الى نظام ديمقراطي مستقر وراسخ .41
و يعتبر ” لينز” و” ستيبان ” 42 أن ترسيخ الديمقراطية يقتضي اجتماع خمسة شروط هي:
– وجود مجتمع مدني،
– وجود مجتمع سياسي،
– وجود دولة قانون،
– وجود بيروقراطية وظيفية،
– وجود مجتمع اقتصادي مماسس .
و ينتقد ” اودونيل ” 1996 شكلية تصور ” لينز ” و” ستيبان ” ويعتبر أن الديمقراطيات التي لم تترسخ فيها الديمقراطية هي ديمقراطيات مؤسسية ولكن بطريقة مختلفة .
فبعض المؤسسات غير الرسمية مثل الرشوة والمحسوبية تتواصل في إطار المؤسسات الديمقراطية الرسمية وبالنتيجة تكون لبعض الديمقراطيات الانتخابية ماسسة غير متوازنة للحقوق الليبرالية وهذا يحيلنا إلى مفهوم ” الديمقراطيات غير المدنية ” .
ونتيجة لعدم بلوغ الديمقراطيات الشكلية مرحلة الترسيخ بصفة كاملة أو جزئية، يقترح “جوان لينز” و” الفرد ستيبان “اعتماد ثلاثة معايير رئيسية لتحديد الديمقراطية الراسخة هي :
أولا : عدم وجود قوى أو هيات سياسية هامة تهدف إلى قلب النظام الديمقراطي أو الانسحاب منه، فوجود قوى معادية للديمقراطية يشكل عائقا أمام بلوغ مرحلة الترسيخ والاستقرار .
ثانيا : ثقة عامة الشعب بالإجراءات والمؤسسات الديمقراطية باعتبارها أكثر الوسائل ملائمة لتدبير الحياة العامة وان وجد تأييد محدود لبدائل أخرى أقل ديمقراطية.
ثالثا : القبول العام لدى مختلف القوى والهيآت السياسية بالاحتكام إلى القوانين والرجوع إلى المؤسسات الديمقراطية لمعالجة نزاعاتها وإيجاد حل لخلافاتها.
و تتحقق الديمقراطية وتصبح راسخة في المجتمع عندما تجتمع العناصر الثلاث.
وعندما تترسخ الديمقراطية بما هي ممارسة وثقافة، تصبح مسألة عادية تنفذ بعمق في الحياة اليومية الاجتماعية والمؤسسية بل حتى السيكولوجية.
وتتجلى أهمية هذه المقاربة في كونها تأخذ بعين الاعتبار الدور الأساسي والحيوي الذي يمكن أن يلعبه الشعب في الثقافة الديمقراطية.
أما ” شيلدر ” ( 1998) فيؤكد أن مفهوم ترسيخ الديمقراطية لم يكن يوما محددا ويقع الآن تطبيقه على كل الديمقراطيات الجديدة وهو ما يلغي وظيفته التقسيمية ويدعو بالتالي إلى العودة إلى ” الانشغالات الأولى لهذا المفهوم أي إلى بقاء الديمقراطية “.
و يرى أن المفهوم التقليدي للترسيخ باعتباره نظاما ديمقراطيا يسعى الى البقاء * ليس عمليا لأنه يقوم على الطبيعة الذاتية للانطباعات. فالترسيخ وبالنتيجة حظوظ بقاء النظام السياسي لا تمثل وقائع تجريبية وإنما أحكام من قبيل التوقعات.
فالثقة في حظوظ بقاء الديمقراطية يتوقف حسب زعمه على أربعة أصناف من المنطق أو القواعد لملاحظة ترسيخ الديمقراطية هي:
1 – منطق المؤشرات الذي يقوم على غياب الأزمات،
2 – منطق الأزمة تحت الاختبار ويقوم على حسن إدارة الأزمة،
3 – المنطق الوقائي ويقوم على وجود هياكل قوية ( اجتماعية واقتصادية وثقافية، إستراتيجية، مؤسسات ) للتعامل مع الأخطار غير المنظورة،
4 – منطق ” التناسب ” المؤسس على الاستعداد الذاتي للمواطنين والطبقة السياسية.
أما ” هوبير ” و” روشماير ” و” ستيفنس ” فيرون أن بعض ملامح الديناميكية بين المجتمع المدني والدولة تيسر عملية الانتقال الديمقراطي .
و لا يبتعد ” ايزندات ” (2001 ) كثيرا عن ” شيلدر ” إذ يشكك في التقسيم بين الانتقال والترسيخ الديمقراطيين ويقترح التقسيم بين :
1 – الانتقالات المتفاوض بشأنها
2 – والانتقالات الممتدة ويعرفها بكونها صراعات دائمة ومتصاعدة تتعلق بالقواعد التأسيسية الشكلية.
و يمكن هذا التعريف من فهم حالات ملموسة من تجارب الانتقال في كل من أمريكا اللاتينية وإفريقيا يطلق عليها اليوم ” الانتقالات المستعصية “.
لقد ادى السجل غير الايجابي لتجارب الدمقرطة السابقة إلى الاهتمام المتزايد بمفهوم الترسيخ والى مراجعة الأسس المنهجية الرئيسية لتحليل تغير الأنظمة السياسية – كما يؤكد “غيو” و” شميتر”43 – كما يلي :
1 – تحليل لا يتضمن فقط الفاعلين والوتائر والمسارات المختلفة .
2 – تحليل ياخذ بعين الاعتبار المؤسسات السياسية كمجموعات مستقلة نسبيا ( 621 مرجع سابق).
فالمؤسسات ( والقواعد والإجراءات ) ليست نتيجة الاختيارات الإستراتيجية للفاعلين ( كما تؤكد أدبيات الانتقال ) وإنما تشكل عوامل مستقلة تحث الفاعلين على اتخاذ مواقف يعتبرونها ملائمة ” بالطبيعة ” .
و اعتبارا لما تقدم، فان مفهوم الترسيخ يقلب تماما نظام السببية الذي يعتمد في تحليل الانتقالات وذلك بإبدال متغيري الاستقلال والتبعية.
3 – يتعلق الامر بتصور مغاير للعمليات والمسارات المختلفة وهو ما يشكل ” قطيعة ابستيمولوجية “.44
لقد تطور التصور في مستوى الترسيخ – حسب ” غيو” و” شميتر” من تفسير يركز بالأساس على استقرار النظام السياسي إلى مفهوم يتضمن :
1 – ظهور أنواع فرعية للأنظمة الديمقراطية أو أنظمة جزئية.
2 – توسيع مجال صلاحية القواعد والإجراءات الديمقراطية (45 ).

الهامش
1 – S.Huntington, « How Countries Democratize », Political Science Quarterly, 4, 1991-1 992

2 – Tonislav Sonic, Croatie : un pays par défaut, Ed. Avatar, 06/2010, p19.

3 – P. C. Schmitter, ” La transitologie : Art ou pseudo-science ? In J.Santiso, ” De la condition historique des transitologues en Amérique latine et en Europe centrale et orientale”, in Revue internationale de Politique Comparée, vol. 3, n°1, 1996, p. 43.

4 – عبد الواحد بلقصيري – إشكالية الانتقال الديمقراطي في المغرب والتجارب المقارنة.

5 – P.C.Schmitter et T.L.Karl, «The conceptual Travels of Transitologists and Considologists: How Far to the East should They Attempt to Go? in Slavic Review, vol.53, no 1, 1994, p.173

6 – P.C.Schmitter, « La Transitologie : Art ou Pseudo-science ? in J.Santiso, « De la condition historique des transitologues en Amérique Latine et en Europe centrale et orientale », in RIPC ? vol.3, no 1, 1996, p.43

7 – Philippe C. Schmitter, Nicolas Guilhot, RFSP, Année 2000, vol 50 – N 4-5 – p618

8 – Guillermo O ‘Donnell, G.Schmitter, P. and Whitehead, L. 1986, P3-66

9 – Delcamp Nathalie, transition démocratique d’un pays : quelques précisions théoriques, Irenees.net, paris 2005.

10 – Georgina Sanchez Lopez, les chemins incertains de la démocratie en Amérique Latine, ouvrage collectif sous la direction de G.S.Lopez, L’Harmattan, pp 14 et suiv

11 – Juan Linz, Alfred Stepan, Problems of Democratic Transition and Consolidation, 1996

12 – Michel Camau La Transitologie à l’épreuve du Moyen-Orient et de l’Afrique du Nord, Annuaire de l’Afrique du Nord, CNRS Editions, 1999.p2

13 – Hermet, Guy, 1978, p21.

14 – Samuel P.Huntington et Moore, 1970, p509

15 – Dahl, Robert, Polyarchy : Participation and Opposition 1971, p3.

16 – العربي الصديقي، اعادة التفكير في الدمقرطة العربية: انتخابات بدون ديمقراطية

17 – Michel Camau, Gilles Massardier, Démocraties et autoritarismes: Fragmentation et hybridation des régimes, Paris, Karthala, 2009.

18 – Etienne, 1999, p.59.

19 – د.عزالدين عبد المولى، الانتقال الديمقراطي في العالم العربي– اضواء على التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي، ص 4

20 – O’Donnell Guillermo et Schmitter Philippe C., Transitions from Authoritarian Rule, John Hopkin University Press, 1986, p15 .

21 – Ouvrage précédent, P16.

22 – Berins-Collier (R),Shaping the Political Arena. Critical Junctures, the labor movement and the regime dynamics in Latin America,Priceton Univ.Press,1991.

23 – Huntington Samuel P., The third wave: democratization in the late twentieth century, University of Oklahoma Press, 1993.p.51-59.

24 – Colomer, J.P, ( 1991)

25 – Geddes ,B. (1996).

26 – N.Ghilhot et P.C.Schmitter, De la transition à la consolidation : lecture rétrospective, RFSP, Année 2000, vol -50, N 4-5

2792- Game Theory and The Transition to Democracy, The Spanish Model (1995)

28 – Lara Desfor Edles 1995- p 355-384

29 – Bénédicte Bazzana , le « modèle » espagnol de transition vers la démocratie à l’épreuve de la chute du mur de Berlin , Revue d’études comparatives Est-Ouest , Année 1999, vol 3- N 1 – pp 105-138.

30 – C.Gouaud, Recherches sur le phénomène de transition démocratique, RDP n°1/1991, p. 37 .

31 – Philippe C. Schmitter, Nicolas Guilhot, RFSP, Année 2000, vol 50 – N 4-5

32 – Philippe C. Schmitter, Nicolas Guilhot, RFSP, Année 2000, vol 50 – N 4-5 – pp 619 .

33 – Ethier, 1990, p 3.

34 – Whitehead, 1989 , p 79

35 – العوامل المؤثرة في ترسيخ الديمقراطية

36 – Offe et Schmitter, 1998.

37 – Philippe C. Schmitter, Nicolas Guilhot, RFSP, Année 2000, vol 50 – N 4-5 – pp 621 .

38 – Nathalie Delcamp, la transition démocratique d’un pays donné : quelques précisions théoriques.

39 – غرايم جيل، ديناميات السيرورة الديمقراطية و المجتمع المدني، ترجمة شوكت يوسف،منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية،دمشق2005،ص 311.

40 – Diane Ethier, Des relations entre libéralisation économique, Transition démocratique et consolidation démocratique .

41 – Guillermo O’Donnell, Delegative Democracy, Journal of Democracy, Vol.5, No.1 (January 1994), p.56.

42 – Linz, Juan J. y Alfred Stepan. 1996. Problems of democratic transition and consolidation: Southern Europe, South America, and Post-Communist Europe. Baltimore: Johns Hopkins University Press.

43 – Philippe C. Schmitter, Nicolas Guilhot, RFSP, Année 2000, vol 50 – N 4-5 – pp 621-622.

44 – Philippe C. Schmitter, Nicolas Guilhot, RFSP, Année 2000, vol 50 – N 4-5 – p615.

المصدر/ المعهد المصري للدراسات

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة