23 ديسمبر، 2024 7:54 م

أبي والزعيم قاسم

أبي والزعيم قاسم

المحبة التي يكنها فقراء الشيعة للزعيم الخالد عبدالكريم قاسم (السُني) دليل على ان الناس يحبون الحاكم العادل دون ان يقلبوا في هويته المذهبية أو الدينية، وأبي رحمه الله كان واحدا من فقراء الشيعة الذين أحبوا قاسما لكن كانت له أسباب أخرى في حب قاسم، فقد تطوع في الجيش العراقي في أربعينيات القرن الماضي وشاءت الأقدار أن يكون جنديا ثم عريفا لدى الضابط عبدالكريم قاسم، رافقه وشارك معه في حرب فلسطين عام 1948 وصار قريبا منه في لحظات حميمة ومصيرية وقال لي ان الزعيم شاركنا قصاعنا وصار بيننا خبز وملح وظل أبي لصيقا بالزعيم قاسم حتى يوم مقتله في التاسع من شباط عام 1963 في دار الأذاعة العراقية

أرتبطت حياة أبي بحياة الزعيم قاسم على مدى أكثر من خمسة عشر عاما على الأقل، لست مُوثقا جيدا وللأسف نسيت الكثير من الذكريات المهمه التي رواها والدي عن السنوات التي أمضاها بصحبة الزعيم قاسم، لكني مازلت أستذكر الكثير منها، عندما كنت اسأل أبي عن تاريخ ميلادي الحقيقي، كان يقول لي (أنت ولدت يوم كُسرت ذراع الزعيم) ويقصد يوم السابع من تشرين الأول عام 1959 حيث وقعت محاولة أغتيال الزعيم قاسم على أيدي مجموعة من البعثين أحدهم كان صدام حسين، كانت حياة الزعيم هي بمثابة تقويم (روزنامة) لحياة أبي، متى حدث ذلك الشيء يا أبي فيقول حدث عندما سافر الزعيم الى كذا أو عندما فعل الزعيم كذا أو عندما أفتتح الزعيم كذا ..

كان أبي في وزارة الدفاع صباح ذلك اليوم الأسود .. الثامن من شباط عام 1963، برتبة عريف في الجيش لكنه يحمل رتبة أكبر وهي محبة قاسم والعشرة الطويلة معه، كانا صديقين أكثر منهما رئيس دولة وعريف في الجيش وكان أبي يفخر بعلاقته وقربه وولائه للزعيم، يقول أبي عندما شعرنا بخطر الأنقلاب طلبنا من الزعيم أن يفتح مخازن السلاح وأن نقوم بتوزيعه على أنصاره من فقراء بغداد الذين هرعوا للدفاع عن وزارة الدفاع وعن الزعيم قاسم، لكنه رفض وقال لا أريد اراقة الدماء، وطلب منا أن نتركه ونلوذ بالسلامه، قال (أولادي أنتم اصحاب عوائل ولا أريد لكم أن تُقتلوا معي فأرجو أن تذهبوا الى بيوتكم) يقول أبي: هذه اللحظة تذكرنا بماقاله الامام الحسين عليه السلام لأصحابة ليلة عاشوراء (هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، فان القوم انما يطلبوني ولو قد اصابوني، لهوا عن طلب غيري) وبالطبع رفضنا أن نهرب ونترك الزعيم الذي أحببناه يواجه الموت وحده وبقينا معه حتى اللحظة الأخيرة، حاولنا أن نقاوم بالسلاح الذي معنا لكن أوامره كانت صارمة أن لانطلق رصاصة واحدة، بقينا متحيرين، ماذا نفعل؟، والأنقلابيون يطوقون مبنى وزارة الدفاع ويطلقون النار علينا.

بعد مقتل الزعيم قاسم وأنتصار الأنقلابين تم نقل والدي الى معسكر الديوانية بعد أن ذاق نصيبه من التعذيب والسجن، وظل والدي وفيا لذكرى الزعيم قاسم ويحتفظ بأشياء كثيرة عنه مثل صور ومجسمات ومنسوجات مطبوع عليها أسم أو صورة الزعيم حتى سبعينات القرن الماضي ثم أضطر للتخلص منها بعد أن أشتدت قبضة الحكم البعثي وتعرض لمضايقات كثيرة من قبل البعثيين العسكريين في معسكر الديوانية والحرس القومي في الحي الجمهوري حيث كان بيتنا الأول في الديوانية.

كان أبي يقوم بجولة ليلية على حراس الوزارة بصفته أمر حظيرة أو شيء من هذا القبيل، وأحيانا يلتقي الزعيم قاسم ويتمشيان معا ويحكيان، سأل الزعيم أبي مرة عن تحصيله الدراسي، قال أبي تركت المدرسة في الخامس الأبتدائي بسبب الفقر وتطوعت في الجيش لكني أريد الآن ان أكمل شهادة البكالوريا حتى أصبح نائب ضابط وربما ضابط، قال الزعيم لأبي لابد أن تفعل ذلك وسوف أساعدك، ثم قال: هل تعرف لماذا أهتم بالتعليم المدرسي كثيرا لأني انحدر من عائلة فقيرة وقد واجهت امي الضنك من العيش في سعيها لكي احصل على تعليمي وهو ما يفسر لكم لماذا انا في عجلة لضمان التعليم المدرسي لكل الاطفال الفقراء في بلادي، اريد ان اجنبهم المشاق التي واجهتها في طفولتي.

بنى المدارس والمستشفيات وانشأ الطرق والجسور، قام قاسم بأشياء كثيرة مازالت شاخصة حتى اليوم، جمع فقراء بغداد الذين كانوا يسكنون في الصرائف وبيوت الطين في شرق بغداد حيث مدينة الثورة (الصدر حاليا) والأهم من كل ذلك منحنا دروسا بليغة في النزاهة والوطنية وحب الوطن والناس، رحم الله أبي والزعيم قاسم.