بالـذي أسكرَ مِنْ عَـذبِ اللَّمى كلَّ عَـذبٍ تحتسيـه وحَـبَبْ
والـذي كَـحَّـلَ جَـفـنَيـكَ بِـمــا سَجَدَ السحرُ لديه واقـتَرَبْ
والـذي أجرى دموعي عندما أعْـرَضْتَ من غـير سـببْ
ضَعْ على صدريَ يُمناك فما أجـدَرَ الماءَ بإطفـاءِ اللهبْ
أبيات شعر أندلسيـةٍ تغنى بها رجلٌ خرج من حانة مرجانة، وسط غرناطة، التي ورثتها عن أبيها، ثملا مترنحا لا تكادُ تَسلمُ من وقع خطواته الثقيلة سلةُ مهملات، فتارةً يتعثر بسلةٍ يمينَ الطريق، وتارةً بأخرى عن شماله، وهو في كل مرةٍ يشتم أصحاب المنازل الذين ظنَّ أنهم يتقصدون تعكيرَ صفوَ مزاجه بوضع حاويات الأزبال على جوانب أبواب بيوتهم الصغيرة، ظلَّ الرجلُ على حاله حتى وجد نفسه منكبا على وجهه وسط بركة طين خلفها مطر هطل قبل يوم، فأمطَرَت عليه ذاكرتُه كلَّ مشهد كان صاحبُنا قد سَكِرَ منه هربا.
قّدك الميـّـاس يا عمري يا غُصين البان كاليُسر
أنت أحلى الناس في نظري جـلّ من سواك يا قمري
دندنها نشازاً مسكينٌ من زمان آخر في أرض الشام غطّى رائحةَ خمرهِ الرخيصِ فوحُ ألمٍ يعتصر قلباً تشظّى ألفَ قطعة كحطام بيته الذي دمره الجنود، العابرون للحدود، المسكون بذكرى زوجةٍ وولدٍ تعلم المشي حديثا خطواتِه كمزامير داوود. وبينما المكلومُ قلـبه على حاله، سقط في بركة طين خلفتها قذيفةٌ سكنت شارعا لا يُعرف من أطلقها، فالأمر في الشام حاله نشازٌ كصوت صاحبنا الثمل. وهنا أقول:
قَـدْ يَثـمَـلُ المرءُ مِنْ خَـمْـرٍ ومِنْ ألَمٍ يا بِركةَ الطين رٍفـقــاً بالمساكين
كوني كاُمٍّ أفاءت طفـلَـها وَحَنَـتْ يـا بركة الطين مَنْ ذا اليومَ يُنجيني
وفي مكان آخر من الزمان نفسه وتحديدا تحت جسر الصرّافية ببغداد، اجتمعَ بعضُ الأصدقاءِ من كثير من اللحم توسّـطَ آلةَ شواء احضروها معهم مع كيس من الفحم. اللحم والفحم نصفا كل لذيذِ سَمَر، وطِيبِ حديثٍ لم تغادره لآلئ ودرر، وبعض طرائف لا تكرر، هي ملح الذكريات لمن شاء منكم أنْ يتذكر. اللحم والفحم ـ أو قُلْ الفحم واللحم فما ضرَّ إنْ تقدمَ الأولُ على الثاني أو تأخرـ هما بمنزلة الورق والحبر من الورّاق وبمنزلة الكاهي والقيمر من فطور الحُرّ المشتاق لبلد الشقاق والنفاق. بعد أن أكلوا وشربوا وطربوا لغناء الراحلين كأبي يعقوب يوسف بن عمر، وناظم الغزالي وعفيفة إسكندر، فأغاني زمانهم نشاز في معظمها كصوت صاحبنا الشامي ذي الحظ العاثر الأغبر، أخذوا بالحديث كعادتهم عن كل شيء، ماذا فعل السياسي الفلاني؟ خطة مدرب فريق الارجنتين لكرة القدم فاشلة. لو استلمت السلطة في بلد لحولته الى جنة. هل الله موجود؟ كيفية اصلاح أزمة الماء والكهرباء في أقل من شهر. ولأن الحديثَ ذو شجون، ولأنّ للشاي المهيّل مع دخان الأركيلة سحرا وسلطانا ونشوة لا تقل عن الخمر، صاروا يسخرون من الفلاسفة، أو على الأقل من بعض أفكارهم. هيوم، الفيلسوف الأسكتلندي، يقول في بعض ما قاله إنّ السببَ الوحيد لإيماننا بأنّ الماءَ منعشٌ هو الألمُ الحاصل من اعتقادنا بعكس هذا فكان من الضرورة أن نبتعد عن التفكير المسبب للألم. ويقول الاسقف الإيرلندي بيركلي بأن الأشياء تتوقف عن الوجود إذا لم تكن تنظر اليها، فان نظرت الى شجرة وجدتها وتختفي الشجرة نفسها إنْ لم تكن أو يكن غيرك اليها من الناظرين، فتمنى أحدهم ألّا ينظرَ الناسُ الى المنطقة الخضراء في بغداد علها تختفي من الوجود، ولأن هذا الهراء صعب التصديق، أضاف بيركلي الى نظريته بأن الخالق ينظر الى الأشياء جميعها فلا تختفي. هذا الكلام مذكورٌ في كتاب تاريخ الفلسفة الغربية لبيرتراند راسل الحاصل على جائزة نوبل للأدب. بيرتراند هذا عندما بدأ حديثه من فلسفة الاغريق الى الفلسفة الحديثة مرورا بتاريخ العرب بعد الإسلام، لم يسمي المسلمين بالمسلمين ولكنه أطلق عليهم اسم “المحمديون”، فمحمد بن عبد الله صاحب فكرة اعتنقها كثير من الناس وهو بهذا ينفي عنه صفة رسول أو ناقل رسالة. وسماهم أيضا بالسارسان وهي كلمة إنكليزية ذات أصل لاتيني تعني البرابرة اللصوص الذين يسكنون الصحراء. وهم ـ ويقصد المحمديين البرابرة اللصوص ـ كالببغاوات نقلوا فلسفة الاغريق مشكورين من غير إضافة تذكر. لا أعتقد أنّ الترجمة العربية لكتابه تشير الى هذا الاستعلاء ونكران الجميل. ما علينا، يذكر هيجل أن المنطق هو الحاكم المطلق وهو مادة القوة اللامتناهية حتى ينتهي الى قوله بأنّ المنطق هو مادة الكون. لم يعلم هيجل أو راسل الناقل لكلام هيجل بأن الغزالي صاحب كتاب تهافت الفلاسفة قال قبله بقرون بأنّ المنطق هو أصل العلوم ولا يؤخذ بعلم من لا منطق له. وينفي نيتشه وجود الله لسبب غريب، لأنه إن وجد إله على حد قوله فيجب أنْ يكون الإله هذا هو نيتشه نفسه، فصرخ أحد الحاضرين: ما أسخف من قول الأخير إلّا بركة الطين التي نعيشها ولا نكاد نهرب منها حتى تلاحقنا كذنب تَعـمُّد نسيانه تذكار، أو تنغزنا كإبرة تشتاق صاحبها فتسيل الذكريات شوقا أو ألماً من غير سابق إنذار.
يا بِركة الطين رفـقـــا بالمساجين.
ومن الإنصاف ألّا ننسى أنّ لهذه البِركة عشاقا مسبحين بحمدها ومتعبدين بمحرابها ويفعلون ما يؤمرون، كلما أتاهم مُصْلِحٌ ليُخرجهم منها حاربوه ومَن اتبعه، وأمَروا الناسَ أنْ أخرِجوهم من قريتكم إنهم اُناس يتطهرون.
أين العدل من كل هذا؟ قالها أحدهم وقد أبكته مَشاهدُ كثيرةٌ من جمهورية الطين التي قد لا يجد فيها الشيخ ما يحفظ كرامة شيبته، ويفترش فيها طفل لم يبلغ السادسة من العمر رصيفا ليبيعَ مناديل لجباه لا تعرق خجلا، نال منه صيفُ بلده فأشفق الجدار على ظهره الصغير فدعاه اليه فنام الطفل فاغرا فاه غيرَ حالمٍ بشيء.
ملعونٌ من قتلَ حلـمــــا.
أجابه صديق له بعد أن نفث دخانَ أركيلته قائلا: بركة الطين، جمهوريةً كانت أم مملكةً، هي فكرة تسكن العقل، إن شاء صدّقها أو شاء كفر، فما البركةُ إلّا هـمٌّ سكنَ قلبـاً أو ظُـلـمٌ استحق عدلاً، البِركة لا يحدها مكان ولا يقيدها زمان، هي بذرة لا تنبت إلّا إذا سقيتها بماء البعد عن كل ما هو جميل، وكسادِ نفسٍ لا ترضى بتبديلٍ أو تحويل كل ما هو ذليل إلى أصيـلٍ جليـل. صاح آخر مقاطعا: وأنْ توقدَ شمعة خير من أنْ تلعنَ الظلام! قالها باستهزاء، كل هذا هراء. فلم يتركْ لنا أصحابُ الأمر حتى شمعة توقد ولو أرادوا لسرقوا الهواء مع دخان أركيلتك الغيداء، والغيداء هي الحسناء اللينة الناعمة، فضحكوا جميعا، فعاد نافث الدخان ليكمل حديثه:
مسكينٌ مَن انتظر عدلا. فالعدل إن وجد أصاب بعضا من الناس لا كلهم في المكان نفسه وهو إن شمل جميع الناس في مكان معين كدولة مثلا غاب عن دولة اُخرى، وإن فرضنا جدلا أنّ العدل قد انتشر في جميع انحاء الأرض لكان من الضرورة أن تصح فرضية انتشار الجور قبل العدل الذي ربما كان ردة فعل صحيحة لما سبق من جور. العدل المطلق وهم، ولا يستقيم عندي أن يرضى الفتى بالعدل في منزل مع غيابه في منزل آخر أو زمان آخر، فهو كلٌّ لا جزء له، العدل المطلق لُـب والعدل الجزئي قشر، ومن ارتضى بالقشر فهذا من شح النفس، فنحن والشواء قد ملأ بطوننا نعلم أن هناك من نام جائعا. هل هذا من العدل في شيء؟
رفقا بحالك يا رجل، قالها أحد الحاضرين، فأنت لست مسؤولا عـمّـا فعل غيرك، فجميعنا نطعم الجائع ونجيب السائل قدر ما استطعنا فلا تحملنا ما لا طاقة لنا ولك به. فأجابه: النفوس درجات ولا أرتضي لنفسي إلّا أعلاها، قد أفلح من سواها.
خيم صمت على أصحاب اللحم والفحم قَطَعَهُ وقعُ خطوات تقترب لا يُعرف لها صاحب، فإذا برجل حرق نورُ وجهه ما حوله من ظلام، فألقى السلام، وتمتم ببعض كلام، إذ قال العارف الهاتك لأستار الغيب، الذي لم يصل الى قلبه ريب: العدل الجزئي يغور ما تعاقبت الأزمان والدهور ولا يبدأ العدل الكلي إلّا بنفخة الصور، فوضع الكتاب وقُـضيَ بينهم بالحق وهم لا يُظلمون.
بدأ العارف يدور ورأسه الى السماء ناظرا حملة العرش الثمانية، كدورة فتى فلسطيني غير ألّا حجرَ في يده ساخرا من الدنيا وهمومها الفانية، تبعه أصحاب اللحم والفحم والشامي والأندلسي وحتى مرجانة الغانية، سخروا من كل شيء، فتناثر ما علق بقلوبهم من آثار بركة الطين وحـلّـت عليهم سكينة طالما انتظروها فأمسوا بعيشة راضية.