كنا في عصر ” ذوبان الثلوج ” حيث فتحت نوافذ في الستار الحديدي لتهب منها رياح التغيير والتجديد في المجتمع السوفيتي . التغيير والتجديد كنت تحس بهما في مكتبة الأدب الأجنبي في موسكو تحديدا ، أكثر من أي مكان آخر في الإمبراطورية السوفيتية ، حيث تجد فيها آخر إصدارات الكتب والمجلات الأجنبية ب(140) لغة أجنبية ، وأرشيف ضخم للأدب العالمي والمعرفة الإنسانية .
كنت أزور هذه المكتبة كلما سمح لي الوقت بذلك . وكنت أنتهز يوم التأهيل العسكري للطلاب السوفيت – وهو يوم واحد في الأسبوع كان يخصص بأكمله للمحاضرات النظرية والتدريبات الحربية لزملائنا السوفيت ، ولم يكن يشمل الطالبات السوفيتيات والطلبة الأجانب ، وكنا نعتبره يوم عطلة لنا – لزيارة المكتبة ، واقضي فيها ما لا يقل عن ثلاث أو أربع ساعات في كل مرة ، طوال فترة إقامتي في عاصمة الثلج والأدب والفن والحب .
لهذه المكتبة جاذبية هائلة لا تقاوم بالنسبة الى كل من يود الإطلاع على أفضل ما أنتجته العقول البشرية من إنجازات فكرية في مجالات الأداب والفنون والفلسفة والتأريخ ، والإقتصاد. وتدور في أوساط المثقفين الروس أساطير كثيرة حول نشأة المكتبة ودورها التنويري والفكري والروحي .
قي عام 1921 استطاعت فتاة في الحادية والعشرين من عمرها اسمها (مارغريتا إيفانوفنا رودومينو من مقابلة وزير التعليم أناتولي لوناشارسكي – وكان مثقفاً من طراز رفيع – وأثبتت له الحاجة إلى فتح مكتبة للأدب الأجنبي في موسكو . وقد وافق الوزير على إقتراحها ، وأصبحت مارغاريتا رودومينو أول مديرة لها . وكانت المكتبة في البداية تحتل بناية صغيرة فيها حوالي ( 100) كتاب أدبي فقط ، هي كل ما كانت تمتلكها مارغاريتا ، ثم تطورت تدريجيا وانتقلت الى بناية أكبر في شارع رازين قريبا من كاتدرائية فاسيلي الرائعة والكرملين والساحة الحمراء ، قبل أن تنتقل في عام 1967 الى بنايتها الواسعة الجميلة الحالية في شارع نيكولويامسكايا.
لقد سعت ادارة المكتبة طوال تأريخها الى الحصول على افضل ما ينشر في شتى انحاء العالم من كتب ودوريات . وهي تسير وفق مبدأ يقول : ” كثير من القشطة ، وقليل من الحليب ،ومن دون قطرة ماء واحدة “. بمعنى السعي للحصول اولاً بأول على ” زبدة الفكر الإنساني ” المعاصر ،التي تستحق القراءة ، من بين ملايين الكتب والدوريات التي تصدر في أنحاء العالم .
كانت موسكو – وهي مدينة هائلة ، نابضة بالحياة ، وعظيمة بمعالمها الحضارية ، وحياتها الثقافية النشطة ، المتعددة الجوانب تقدم لي – إذا شئت – الوانا بهيجة من التسلية البريئة والمتع الحسية ، وكل ما يحلم به ويتمناه شاب شرقي جاء من مجتمع مغلق ومكبوت ، ولكنني كنت أفضل قضاء أوقات فراغي في هذه المكتبة على كل ما عداها .ليس فقط لأنني كنت اطالع فيها أفضل ما ينشر من أعمال أدبية عربية وغربية ، وآخر وأفضل ما يصدر من مجلات ثقافية مصرية ( الهلال ، الثقافة ، المجلة ) ولبنانية ( الآداب ، الأديب ، حوار ، شعر ) وغيرها . بل أيضاً لقضاء بعض الوقت في غرفة التدخين في المكتبة .
. قد يستغرب القاريء لهذا القول ، ولكن استغرابه سرعان ما يزول اذا عرف أن غرفة التدخين كان مكانا فريدا ليس في هذه المكتبة فقظ ، بل في موسكو كلها .
لم تكن مجرد غرفة تدخين ، بل مكانا مثالياً للتواصل والتعارف ، وتبادل آخر الأخبار والإشاعات والنكت . كانت فيها مصطبتان طويلتان للجلوس بحذاء حائطين متقابلين.
جو الغرفة بارد ولطيف حتى في أشهر الصيف ، فهناك ساحبة هواء قوية . هنا رجال ونساء من شتى الفئات العمرية . منهم باحثون يجمعون المواد لأطروحاتهم ، بينهم من قدم من الجمهوريات السوفيتية الأخرى .، وشباب من الجنسين جاءوا لقراءة ما لا يمكن الحصول عليه من كتب ومجلات في متاجر الكتب ، وأكشاك الصحف في موسكو .
كانت هذه الغرفة تحديداً هي المكان الوحيد – بالنسبة الى طالب أجنبي – الذي يتسنى له فيها للحصول على بعض آخر إصدارات ” سام ايزدات ” أي أدب ” الأندر غراوند ” السرية للكتاب والشعراء الروس المغضوب عليهم ، والتي تطبع وتستنسخ بوسائل بدائية ، وتوزع على المثقفين الموثوق بهم بعيداً عن أنظار الرقابة احكومية – الحزبية المتزمتة .
تجلس وجها لوجه مع مثقفين من ذوي الاهتمامات والمستويات المختلفة . بينهم عدد كبير من الجنس اللطيف وقد تتعرف على واحدة منهن ، وتلتقي بها في خارج المكتبة اذا كانت اهتماماتكما مشتركة .
لم ألتقِ في هذه المكتبة الفريدة ، بأي باحث أو طالب عراقي ، إلّا نادراً .
واليوم كلما سنحت لي الفرصة ، فإن أول مكان أقصده في موسكو الرأسمالية ، هو مكتبة الأدب الأجنبي . ولكن بناية المكتبة الجديدة الواسعة ، فقدت شيئاً من جاذبيتها . لم تعد الدولة تصرف عليها بسخاء كما كان الأمر في الماضي ، ولم يعد هناك ” أدب الأندرغراوند ” بعد إلغاء الرقابة على المطبوعات .والأهم من ذلك ، ليس في غرفة التدخين الحالية أية مصاطب . اختفت الوجوه الباسمة الجميلة ، وفقدت الغرفة جوها الحميم العاطر
نسيت أشياء كثيرة في حياتي ، ولكني لم أنس قط ، ولن أنس أبداً، الساعات التي قضيتها في مكتبة الأدب الأجنبي في موسكو . حقاً إن الحياة لا تقاس بعدد الأيام التي عشتها ، بل بتلك التي تتذكرها جيداً .