من غير المعقول قطعا، ان يبذل المرء منا جهدا وطاقة، وكلفة نقدية، وفترة زمنية، وتحضيرات لوجستية، و (جيب الليف ودي الليف) مقابل أمر لايعود بنفع ملموس أو محسوس، أو تحقيق غاية إنسانية، أو مردود مادي له أو لغيره، فبهذا يكون عمله ووقته وجهده، قد ذهبت جميعها أدراج الريح، وكأنها والعدم سيان. فالعمل بلا غاية تُنشد بدد، والتعب دون جدوى هباء، والعطاء دون أخذ لايصح دائما، وحينها تخلو الحياة من محتواها، ويكون بين المهد واللحد فراغ عديم اللون والرائحة والمعنى، كالكلام من غير فحوى ومقصد، ولعلي أوفق إن شبهت حالا كهذا، بقصيدة لم يأتِ ناظمها فيها بجديد، ولم يحرك ساكنا، ولم يقدم شيئا، أو يؤخر آخر، إلا الوزن والقافية وحرف الروي، والتي من أبياتها:
الأرض أرض والسـماء سـمـاء
والمـاء مــاء والهــواء هــواء
والمـاء قيل بانـه يروي الظـمـا
واللحـم والخبز للسـمين غـذاء
ويقال ان الناس تنطق مثلـنــا
أمـا الخـراف فقولـهـا مأمـاء
كل الرجال على العمـوم مذكـر
أمـا النسـاء فجميعهن نسـاء
ماذكرني بهذا، هو مجلس نوابنا الذي لفظ أنفاسه الأخيرة، وبات يطلق عليه “المنتهية ولايته”، وهي في حقيقة الأمر منتهية منذ تشكيل أول دورة له، وتناسلت الولاية المنتهية إلى دوراته بالتتالي. ولا أظنني متشائما إن حكمت على دورته المقبلة بانتهاء ولايتها من الآن أسوة بسابقاتها.
ولنستذكر في سطوري التالية، ما كانت تؤول اليه اجتماعات سلطتنا التشريعية في برلماننا “المرحوم” الذي عودنا طيلة مدة جثومه على صدورنا، أن تأخذ لقاءات النواب فيه من الوقت طويلا، ومن المال كثيرا، ومن الوعود سرابا، ومن الآمال خيبة، ومن الاعتماد خذلانا، ومن الثقة زعزعة، ومن اليقين شكوكا، ومن الـ 328 فردا عدم اكتمال النصاب. إذ لطالما أُرجِئت جلسة ورُفعت أخرى وأُجِلت ثالثة وأُلغيت رابعة، وظلت خامسة مفتوحة على مصاريعها، وسادسة اتخذتها رئاسة المجلس أداة للضحك على ذقون الشعب، والسبب في أغلبها عدم اكتمال النصاب، في الوقت الذي ظن العراقي ان حلمه في العيش كباقي شعوب العالم، بات على وشك التحقيق، في ظل برلمان وُلد في صناديق الاقتراع، بإرادة الأصابع البنفسجية.
فما أقرب تلكم الأبيات الجوفاء التي لا صدى لها، مما يحدث في ساحتنا العراقية اليوم، حيث الفراغ الدستوري يلوح بغيومه السوداء لتغطي أركان البلد كافة، ولاجدوى من الاجتماعات والجلسات، رغم ثقلها الاجتماعي والرسمي والشخصيات والـ (صماخات) التي تحضرها و (تترأسها).
ومن البديهي عند العراقيين ان تكون الحصيلة من تلك الاجتماعات صفرا أو صفرين أو أحيانا عشرة أصفار، غير أنها جميعا على الشمال (لاتهش ولاتنش) لاسيما عندما يكون الاجتماع لتقريب وجهات نظر او حل خلاف وهي بحمد الله كثيرة. فأول تلك الاجتماعات نيات ومخططات تبدو للوهلة الأولى سليمة، وما إن تمر على الاجتماع سويعة، إلا تعالت الأصوات والصيحات والمنابزات، وعلا السباب وصدحت الشتائم، وتقاذف الحاضرون فيما بينهم الملبوسات لاسيما الـ (جلدية) منها، فهي أقرب سلاح مجاز في متناول اليد، لم يشرع في منع استخدامه قانون، ولم يرد حظر استعماله في نص بدستور العراق الجديد، والذي عادة ما ينعتونه بأنه (وُلد على عجالة).
وتمر السويعات والفرقاء لايزدادون إلا تفارقا وفرقة، وكيف لا! وكل يبكي على ليلاه، وليس على ليلى العامرية. وقطعا، لايفوتهم التصنع بالوطنية وحب العراق، وفي حقيقة الأمر حبهم للكراسي لاغيرها، وولعهم بتجديد نيابتهم تحت قبة السحت، ليطول نهبهم ويمتد سلبهم خيرات العراق وحقوق المواطن فيها. وكعادتهم تتوالى التأجيلات تلو التأجيلات، ولأسباب موضوعية او غير موضوعية، مقنعة او غير مقنعة، منطقية او غير منطقية، فهم في كل الأحوال، إن اكتمل النصاب القانوني، لن يخرجوا بالسمين والمفيد بل بالغث والهزيل من القرارات.
لا أرى المواطن العراقي في حاليه؛ قبل اجتماع ساسته وقادته وبعده، بمنتفع منه ومنهم لامن قريب ولا من بعيد، فالأمر كأبيات الشعر آنفة الذكر ليس لها معنى إلا الفراغ والضياع واللاجدوى، وهو مايشعر به المواطن منذ عقود، وكأن عجلة الحياة عنده قد توقفت، وباتت لاتعني لديه شيئا، أو لعل مقومات حياته هي الأخرى لم يكتمل فيها النصاب القانوني.