في أواسط تسعينات القرن الماضي ، راجعت أحد الأطباء في بغداد ، وهو طبيب مشهور في ذلك الوقت ، كان عمره فوق العقد الخامس ، ولشدة ازدحام المراجعين ، يقوم سكرتيره بإدخال كل خمسة أشخاص دفعة واحدة ، وعند دخولي إلى الغرفة ، وهي كبيرة وفيها مجموعة من المقاعد ، كنت أنا الرابع من المراجعين ، ومن المفروض أن يقوم الطبيب بفحصي ، ولكنني لاحظت أن كلام الطبيب لثلاث من المرضى المراجعين وبنفس طريقة الكلام والتوجيهات ، وبسرعة ميكانيكية خالية من كل عاطفة ، وكأنه آلة مسجل عليها الكلام ويسمعه للمراجعين ، فما كان مني إلا أن أترك الغرفة ، تذكرت هذا الحادث بعد اطلاعي على خبرين : الأول يقول ( رجل آلي بدل المعلم في مدارس بريطانيا ) ويشرح الخبر أن هذا الرجل الآلي يحل بديلاً عن المعلمين في مدارس الأطفال ليتولى هو عملية التعليم في الصفوف المدرسية ! وعمل هؤلاء العلماء البريطانيون يأتي في إطار المحاولات لإيجاد طرق جديدة لتعليم الأطفال في المدارس ، بما يضفي مزيداً من التطور على التعليم المتبع . والخبر الثاني هو قبل قراءتي للخبر الأول سماعي لنص لقاء مع أحد الأطباء المعروفين في السليمانية ، وما جلب انتباهي هو قوله ( إن الطبيب الذي يقوم بفحص ومعاينة أكثر من خمسة مراجعين ممن يعانون من مشاكل صحية ، لا يمكن أن يكون طبيباً صادقاً في ممارسة مهنة الطب ، فهو – مع الأسف – أقرب إلى تاجر منه إلى أن يكون معالجاً حسب ما مطلوب منه مهنياً …!!) .
ملاحظة مهمة : إن هذا الطبيب ورغم تغيير أجرة معاينة الأطباء نحو الزيادة بين فترةٍ وأخرى ، إلا أنه لم يزيد معاينته لحد الآن عن خمسة آلاف دينار ولا يزال ملتزماً بمعاينة خمسة مرضى فقط في عيادته الخاصة !
ما هو الرابط بين ما تذكرته والخبرين اللذين سمعتهما ؟ إن الرابط هنا هو نزعة الإنسان كلما يتقدم الزمن نحو الماديات وخفوت التوجهات الإنسانية نابعة من الروحية الدافئة المزينة بالعواطف الجميلة … فإن الشخص الذي يختار مهنة الطب وهي من المهن المقدسة ، فإن أهم صفة مطلوبة في من يختار هذه المهنة هي العطف والرحمة والرأفة ، ولكن تحت ضغط العصر ، والطمع البشري للتملك ، يتحول من يمارس هذه المهنة الإنسانية إلى تجارة ، ويحسب ( كم يكسب ؟ ) وليس ( كم عالج ؟ ) رغم أنه تعلم هذه المهنة في زمن كانت نظرة الروح والعاطفة هي الطاغية على هذه المهنة ، وكانوا يتعلمون على أيدي متمرسين في التعليم الإنساني المليء بالدفء ومحبة المهنة من جانبها الروحي والإنساني ، فماذا يكون الحال بعد عقد أو عقدين ، ويبدأ التعليم عن طريق آلة معدنية فيها كل شيء عدا الروح ، وحتى لو ملئت الآلة بكلام جميل ، ولكنها تبقى صادرة من آلة مصنوعة من المعدن وليس من الروح البشرية .
إذاً صحيح أن الإنسانية تتجه نحو عصر يكون فيه الشعور بالروح ودفء المحبة من أصعب اختياراته …