23 ديسمبر، 2024 9:55 م

الانحلال السياسي في العراق

الانحلال السياسي في العراق

شر البلاد بلاد لا أمير بها ….  شر الملوك من خافه البريء
أكثم بن صيفي التميمي
احد حكماء العرب بالجاهلية

يصنف علماء السياسة القدماء والمحدثين صلاح السلطة او فسادها ليس على اساس شكل الحكم،  بل درجة الحكم.  وتقاس درجة الحكم من خلال مقدرة الحكومة على تنفيذ القانون وادارة  الحكم بكفاءة .

ولا يمكن القول بان وضع دستور للبلاد واجراء انتخابات سيضمن عمل الحكومة بكفاءة الا اذا كانت نتائج هذه الاجراءات تسهم في تحقيق الاستقرار. والدليل على ذلك  النظام الراهن في العراق . 

فقد شهد  العراق  منذ العام 2003 ولحد اليوم،  ازمة شاملة  في جميع المجالات،  السياسية والتشريعية والامنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخدمية ، مما جعله في طليعة الدول الفاشلة والفاسدة في العالم، حسب تقارير المنظمات الدولية ، مع العلم انه  يمتلك دستور واحزاب وانتخابات واستفتاءات ! 

وان الحكومة الراهنة، رغم انها حكومة منتخبة وتطلق على نفسها اسم دولة القانون والمؤسسات،  الا انها  تتارجح على حافة السقوط بين الحين والاخر،  وهي الان مهددة بالانهيار بعد ان انتفض عليها العديد من المدن والقرى العراقية.!

والسؤال الان .. ما هي اسباب هذه الازمة المزمنة التي تواجه العراق منذ عشر سنوات ؟ هل هي  ازمة ذاتية لها علاقة بطبيعة النظام ام ان اسبابها موضوعية خارجية ،كما يقول الخطاب الرسمي ؟

للجواب على هذه الاسئلة سأستعين بعالم السياسة الامريكي “صموئيل هانتغتون”  . يقول هانتغتون في كتابه “النظام السياسي لمجتمعات متغيرة” ان الحكومات التي تتجسد في سياستها الاجماع والاتفاق، ويشترك المواطنون وقادتهم في رؤية واحدة للمصلحة العامة،  تصنف هذه الحكومة في فئة الانظمة السياسية القوية والفعالة،  اما التي تعاني من عجز في هذا المجال،  فتصنف كانظمة ضعيفة .   

ووفقا لتصنيف هانتغتون،  وهو احد منظري المحافظين الجدد وصاحب نظرية صراع الحضارات، بان ما يميز النظام القوي عن الضعيف هو كفاءته،  ومن مقتضيات الانظمة السياسية الكفوءة ، ان تكون مؤسسات الدولة  (التشريعية والتنفيذية والقضائية) ذات كيان “مستقل”  عن القوى الاجتماعية التي انشاته.
فتطور النظام وقوته،  تتمثل اساسا في حياديته وتعامله مع مكونات المجتمع،  باعتبارهم احرارا ومتساويين وانطلاقا من كفاءاتهم،  مما يدفع افراد المجتمع،  الاتجاه نحو النظام والايمان بضرورة الولاء له. وهذه ضرورة من ضرورات المواطنة وما تترتب عليها من حقوق وواجبات.

ان هذه “الثقافة السياسية” هي التي تدعم النظام السياسي ، وتحدد أطره، وتغذيه بالمعلومات المستمدة من واقع البيئة الاجتماعية وخصوصيتها، لكي تحافظ عليه وتضمن بقائه.

والنظام الراهن في العراق يفتقد لهذه “الخاصية”  لانه نظام طائفي . فرئيس الوزراء نوري المالكي يصف نفسه  بانه ” اولا شيعي  وثانيا عراقي ” كما جاء في صحيفة الغارديان البريطانية في يوم 14/12/ 2011  فكيف يمكن الحكم  على النظام “بالكفاءة ” وفق هذه العقلية الطائفية اللاوطنية لرئيس النظام كما قالت الصحيفة مستغربة ؟؟

ان مصير الدولة يكون رهنا بتكامل اركانها الثلاثة، “الارض” التي يعيش عليها  “الشعب”   وتمارس عليهم السيادة من قبل “السلطة” .   فهل الهيكل السياسي  الذي شكله بريمر بعد “حل الدولة العراقية” ، تتجسد فيه هذه الاركان الثلاثة ؟  الجواب لا .
فالارض اصبحت مناطق متنازع عليها بين الاقاليم والحكومة. والشعب اصبح مذرر الى عرب وكرد وتركمان وشيعة وسنة و ومسيحين …الخ كما جاء في ديباجة الدستور.  ورئيس الوزراء الذي يمثل “السلطة”  يصف نفسه “بانه شيعي اولا ” ، اي اصبخ يمثل  المكون الشيعي فقط.   وفى مثل هذه الحالة ، من المتوقع أن يرى بقية المكونات الشعبية بان  السياسة العامة في الدولة تعكس مصالح الشيعة في المقام الأول!

مع العلم ان سياسة الدولة لم تكن من اولوياتها  تقديم الخدمات العامة البسيطة للناس،  وانما المحافظة على النظام والامن، ايس للشعب ، بل  لصيانة وخدمة مصالح  سلطات الاحتلال. 

لذلك  جرى صياغة هياكل السلطة  على قياس الاحزاب السياسية الطائفية والاثنية المتعاونة مع الاحتلال.  وقد تجسد ذلك بالدستور ، مما  جعل هذه الاحزاب ليست موحدة وفق رؤية وطنية ،  بل تعمل وفق اجندات خارجية متنازعة اقليمية ودولية ساحتها العراق ووقودها السكان المدنيين .

 ولتغطية هذه الاجندات الخارجية  جرى تغطية السلطة بالنص الديني لتظهر امام الناس بمظهر الحارس للمقدسات والمنفذ للاوامر الالهية ، وهي وسيلة  مكشوفة لحفظ السلطة والرغبة في التفرد ، تمارس منذ اقدم العصور !

و تسطيع السلطة الطائفية في العراق  ايضا،  ان تخلق أنسجام “مصطنع” بين رغباتها ورغبات الاخرين ، اما بالتضليل او القسر، من خلال سيطرتها على ( الة الدولة)،  ويطلق على هذه العملية “شخصنة الدولة”.

وشخصنة الدولة هي اولى معالم الاستبداد، حيث تتركز سلطات الدولة في يد شخص واحد والنخبة الضيقة المحيطة به،  ويستخدم مؤسسات الدولة  لتعزيز سلطته، دون اعتبار لمصالح المواطنين، في حين  يعتبر نفسه ممثل للصالح العام  !

وفي مثل هذه الدولة، تكون القوى والهيئات السياسية  ضعيفة وغير مقتدرة على اتخاذ القرارات الاستراتيجية التي تهم مصالح الوطن وهو سبب رئيسي لاندلاع الحروب الاهلية، حيث لا يمكن للشعب ان يقع في الانقسامات العنيفة والتحزب وصولا الى التقاتل الذي اندلع في العراق بين  2005-2006  الا في ظل نظام طائفي لا يرتكز على مفهوم العدالة والانصاف .
فالتقاتل بين افراد الشعب يحدث نتيجة احساس فئات اجتماعية بالغبن او الظلم على يد فئات اخرى تستاثر بالثروة والامتيازات، وتجعل من السلطة اداة الهيمنة والتسلط.

وهذه الاسباب الداخلية “الذاتية” للفتنة لا تنفي وجود اسباب خارجية ، بل تتداخل معها. لان العنصر الداخلي المسبب للفتنة هو اساس لكل اشكال الفتنة حيث تاتي العناصر الخارجية لترتكز عليها سواء كانت هذه العناصر اقليمية او دولية.

ولمجرد بلوغ التحزب والانقسام درجة التقاتل تنهار السلطة كبنية فوقية ، على صعيد النظم والمثل والقيم والمؤسسات وتحل مكانها المليشيات وشبكات الجريمة المنظمة وذلك يعتبر من اشد مظاهر انهيار السلطة السياسية .

* باحثة في جمعية الحقوقيين العراقيين-بريطانيا