دول الدنيا تنقسم إلى صنفين حاكمة ومحكومة , والحاكمة هي الدول القوية المهيمنة على مصير الدول الأخرى , وهي دول قليلة العدد هائلة القدرات والإمكانات , والدول المحكومة كثيرة العدد ضعيفة منهوكة مستلبة مستنزفة ومنشغلة بتدمير ذاتها وموضوعها.
وليس الأمر جديدا , وإنما الدنيا مضت على سكة أن تتفرد بمقدراتها دولة واحدة تتحكم بالدول الأخرى , وفي بعض الأحيان تكون هناك أكثر من قوة , لكن التنافس بينها يؤدي إلى إستحواذ دولة على إرادة الجميع , ولهذا كانت الإمبراطوريات وآخرها الإمبراطورية العثمانية ومن ثم الإنكليزية , الأولى تهاوت على عروشها بعد الحرب العالمية الأولى والثانية بعد الحرب العالمية الثانية , وبزغت قوتان كبيرتان في حينها هما القوة الأمريكية والسوفيتية والأخيرة إنتهت في العقد الأخير من القرن العشرين , والأولى تواصلت وتفوقت , وفي أثناء ذلك بزغت فكرة الإتحاد الأوربي الذي ربما بدأ ينحدر إلى حيث التفكك والتناحر الذي سيصيبه في العقود القادمات.
وما جرى في القرن العشرين يرتكز على منطلقات تشرتشلية إنبثقت في مؤتمر القاهرة عام 1921 , والذي دفعت إليه ثورة العشرين فالعراق , والتي على ضوئها صار العمل بالحكم بالنيابة , بمعنى أن يتم تشكيل حكومات في الدول المحكومة بالإرادة البريطانية على أنها حكومات وطنية لكنها تنفذ ما تريده بريطانيا وتحافظ على مصالحها بلا خسائر تذكر , ولذلك تم العمل ومنذ ذلك الحين على تنصيب القادة والدفع للثورات والتغيرات بأوامر بريطانية , وعندما تسنمت الراية القوة المتفوقة مضى الحال على ديدنه , فالسفارة هي الحاكمة والسفير هو الذي يقرر , والحكومات بما فيها واجهات لتنفيذ الأوامر , ولهذا فلا شيئ يحصل في الشرق الأوسط إلا بتخويل وتفويض من سفارات القوى المتحكمة بمصير البلاد والعباد.
وهذا المنهج يفسر لماذا تأخرت وتعثرت الدول العربية كافة ما عدا القلة القليلة منها , رغم توفر ما لا يحصى من القدرات والثروات الكفيلة بالإنتعاش والنماء والرقاء المعاصر , ذلك أن أي تقدم عربي لا يكون بخدمة المصالح والتطلعات ولا يتفق مع إرادة القوة الحاكمة المستعبدة للبلاد.
أي أن العديد من الدول العربية محكومة ومصادرة الإرادة , وما الوجوه التي تظهر ويتم تلميعها إلا كارتونية سيتم إحراقها في لحظة زمنية مؤاتية , فما يجري في الواقع العربي لايمت بصلة للإرادة العربية , وإنما هو من نتائج الإرادة الفتاكة القابضة على عنق الوجود العربي في كل مكان.
وبذلك نرى أن كل يخدم التوجه الخنوعي والرضوخي والتبعي يكون مبرّزا , ومسوّقا بأساليب مؤثرة وغادرة تضمن التأثير على العقل والنفس , وتُرسم خارطة السلوك المطلوب لتأمين المصالح وقمع الإرادات الوطنية الصادقة الحية التي تريد للعرب أن يكونوا ويعاصروا ويتقدموا , مما جعل الواقع العربي يستلطف الخراب والدمار والإمعان بالإندساس في غوابر الأزمان.
وما دام العديد من العرب مؤهلين للعب دور المُستعبَد والمنفذ للأجندات ولا يعنيه إلا ما سيغنمه لحين , فأن الواقع العربي سيزداد سوءً وتدهورا بفعل أبنائه , بما يقومون به من أدوار مناهضة لوجودهم الوطني والإنساني , بل أن الكثيرين قد إستعملوا الدين كوسيلة لتمرير المشاريع العدوانية على العرب والدين , وتلك مصيبة أجيال وطاعون وجود عربي مقيم.
فلن يكون العرب إن لم يعرفوا جوهرهم ويتمسكوا بإرادتهم الأصيلة المتحدية القادرة على أن تكون!!