نظرة سريعة لواقع عراقنا اليوم صدمنا بالاتي : عدم استقرار الامني وازمات تعصف بنظامنا السياسي وفساد اضارب اطنابه في كل زوايا الدولة ومرافقها الرسمية يجعل اي أمل بالامان والبناء الصحيح مجرد احلام .. عصافير …..ونعرات طائفية وعرقية.. تجعل الواحد منا عند انتقاله من منطقة لاخرى داخل البلد ان يتحزم ويتهيأ للمجهول وان يحمل كل ما يمكن لاثبات عراقيته او بالاحرى انتسابه لهذا الوطن وليس للصومال مثلا . حروب داحس والغبراء جارية على قدم وساق بين الكتل وممثليهم ( وقد صاروا ينافسون ممثلبن كبار امثال المرحوم اسماعيل ياسين ) في الشوارع وعلى الفضائيات … يتقاذفون فيما بينهم الشتائم من كل العيارات كيتمترس البعض خلفها فيما يخوضون في الخفاء حروب الكواتم والسواطير والمفخخات التي تحصد من رؤؤس العراقيين الابرياء اضعاف ما تحصده من قواتهم المسلحة والمتمترسة بالاجندات الطائفية والعرقية والخارجية ….وقد جعلوا منها ملاذا آمنا له لممارسة الكفرالمبين بحق الشعب والوطن وصولا لتمزيقه وابادته تحت رايات نصرة الطائفة والدين والحق القومي…. وكلها شعارات متخلفة ومرضية غير سوية مجافية لمنطق التاريخ ولروح العصر ، جريا وراء سراب من الفانتازيا الظلامية المؤدلجة في كهوف التاريخ المنافية للعقل التي يروج لها من في نفسه مرض ونقص الانتماء لعراقيته ، لأن انتماءاته الفئوية أكبر من انتمائه للوطن… وهنا نأتي الى بيت القصيد :
فهناك من يرسم (أو ترسم له .. لا فرق ) للعراق خرائط جديدة تضمن فيدراليات ودويلات مصممة على مقاسه ومقاس ارتباطاته الخارجية… وقد تكون لها امتدادات جغرافية بهذه الدولة او تلك…وساسة ينتهجون خطابا سياسيا منافقا غارق في تخلفه وبؤسه .. بغياب اية رؤية سياسية حقيقية ومستقبلية .. لا يخاطب العقول بل يستثير مكامن الجاهلية الاولى في نفوسنا من قبلية ومناطقية وعشائرية وطائفية وغيرها .. لكي يقوم كل منا ، وحسب قدرته وغيرته ، باستلال سيفه ليغرزه في ظهر جاره القريب … لمجرد أن هذا البعض يستلذ برؤية هكذا مشهد ليؤمن له استمراريته في موقعه …. وهذا البعض لا يعي انه يؤسس لمقبرة كبيرة يدفن فيها بلدا كان اسمه العراق …
لو كان المرحوم ” دانتي ” حيا لادخل فصولها حتما …في تراجيديته ..” الجحيم ” … لانها تصور الجحيم الحقيقي ….. سؤال لماذا نستبق جحيمنا الالهي الحتمي بجحيم من صنع أيدينا ؟ هل هناك حاجة لاستشارة علماء النفس للأجابة على هذا السؤال للبحث في أسباب علتنا في التسرع بالجري نحو … الهاوية ؟
السبب يكمن في … لا انتمائنا للعراق بتاريخه وحضارته وعدم ايماننا بمستقبله وجهلنا بسبيل العيش الحضاري مع بعضنا بعضا…. فلا يكفي لأي منا أن يلد على ارضه لينتسب بالاسم له .. فالخائن يستطيع أن يبدل ولائه بالسهولة التي يغير بها ملبسه … ومرارة البعض ويأسهم دفعتهم للتزاحم على ابواب السفارات بعد أن يأسوا من رحمة عراقهم … او كفرا بهذا العراق ( لا فرق ) بحثا عن الخلاص منه الى مغتربات العالم ، لعلهم يجدون بعضا من ادميتهم التي اعلنت الانظمة المتتالية الغائها أما في بيان الانقلاب العسكري او في بيان المحتل الاميركي وما تبعه.
والسبب يكمن كذلك في عدم وجود ما يسمى بـ ” رجال دولة “..(حيث وجودهم اكثر من ضروري خاصة في مراحل التاريخ الفاصلة ) ….ينتمون لعراق واحد أحد.. ويؤمنون بالتعايش المشترك بين كل اطيافه .. حيث الانتماء للوطن فوق اي انتماء اخر مهما علا… ومن ذوي العقول المتفتحة..والمنفتحة على الاخر مهما يكن مادام شريك في الوطن …
لسوء حظ العراق من يتسيد المشهد الرسمي الان … ليسوا من صنف “رجال الدولة “…مع كل احترامي لشخصهم ومقاماتهم فالامر ليس شخصي …لانهم حتى وأن كانت الصدفة أو المحاصصة المجردة من اية انتقائية خاصة قد جاءت بهم الى موقع المسؤولية ( رغم تحفظنا على ذلك فبلدان مثل العراق تحتاج الى ذوي المؤهلات والخبرة العالية ناهيك عن القبول الشعبي العام ) ، فأنهم للاسف لم يستطيعوا الارتقاء لا بشخصهم ولا في طروحاتهم وخطابهم وسلوكهم ليكونوا رجال دولة ، فلم يغادروا ( وهم غير قادرين اصلا ) تخندقاتهم الحزبية والمناطقية والطائفية والقومية السابقة ….. ولم يتغير شيء من قناعاتهم الفكرية والايديولوجية بعد ان صاروا بموقع المسؤولية المختلف عن موقع المعارضة حتما- سوى ترديد بعض الالفاظ االمبهمة الفضفاضة التي يراد بها خداع الاخرين… فبقوا أسيري خطاب سياسي مراهق … وتخندق فئوي وطائفي مقيت وغريب عن ثقافة العصر . ملغوم بكل الغام التفتيت والتقسيم للنسيج الاجتماعي الوطني .. الامر الذي تسبب في استيلاد الازمات وتوقف مسيرة التطور…وبتنا في حالة مراوحة في المكان (ان لم نكن قد قفزنا للخلف خطوات)…..حتى غاب اي أمل في التغيير….لان الطبقة السياسية الحالية قادرة بما تملكه من سلطة ومال وارتباطات خارجية .. على استنساخ نفسها من جديد ( كما النعجة دوللي ) في اية انتخابات ( ديمقراطية ) لان ديمقراطيتنا اصبحت مجردة من اي معنى سوى .. صناديق الاقتراع التي لا يمكنها ان تجيء الا بهم .. أي انها لا تخرج عن كونها … بيعة جديدة لسلاطين وحيتان الفساد والمال والفكر الميليشياوي . .( كما كان الشعب يبايع سابقا ، فمن قال ان التاريخ لا يعيد نفسه ).
يقول رئيس وزراء فرنسا الراحل كيمنصو ..” أن قلبي ، لا قدماي ، هو الذي يمشي على تراب فرنسا “. هذا القول يبسط معنى ومفهوم رجل الدولة الذي يرتبط ببلاده الى حد العشق والاتحاد الروحي به ، فيكرس حياته لا لمجده الشخصي وانما لمجد بلاده .
فأجادة المناورات ووالتذاكي على الاخرين من الخصوم والاحلاف وتسقيطهم بالضربات .. الارهابية .. وسلفنة المظاهرات … معارضة كانت أم موالية بغطاء مدفوع الثمن .. والاستقواء بالغرباء من الجيران والنفاق في اثارة الغرائز والنعرات الطائفية والعرقية لا تكفي لصنع رجل .. دولة ….. كما لا يكفي ان تكون عراقيا بالتجنس وانت تنخر في سلوكك وكلامك كما تنخر السوس في الشجر … لا يكفي ان تكون رجل دولة وضمانك الوحيد تأييد طائفتك أو حزبك فقط … ولا يكفي ان تكون رجل دولة وأنت تشارك في عمليةسياسية وتأخذ حصصك كاملة وانت تمسك معول هدم في اسسها .. فاما ان تكون مقتنعا بها وتسير في خطاها … او غير مقتنعا فتغادرها لتكون معارضا تساهم في كشف عيوبها لتصحيحها .
لا يكفي ان تكون رجل دولة وانت.. تحكم دويلة مستقلة ضمن الدولة وقد بصمت على دستورها واقسمت الولاء لها في حين انك لا تشارك الا في الغرف من أموالها وتستغل وجودك الاني فيها للعبورالى امبراطورية منفصلة خارج نطاق العراق …. ولا يكفي ان يكون مواطنيك عراقيي الجنسية فيما لا يرفعون علم بلدهم بل ويجاهرون علنا بعدم … عراقيتهم … فلماذا اذن نضحك على انفسنا …
وهل من العراقية بشيء ان نكون تابعين للغير ونحن من نحن .. حتى اصبحنا نرفع اعلام وصور رؤساء دول اخرى في مظاهراتنا ..وحتى قي بيوتنا…؟ بل وهناك نائب يقول في فضائية بمباهاة انه يرفع في بيته صورة رئيس وزراء دولة مجاورة ..( وهذه الدولة حكمتنا اربعة قرون نقلتنا الى ما قبل التاريخ تخلفا وانحطاطا ) ….لمجرد ان هذا الرئيس يسوق نفسه ناصرا لمذهب معين.. وهل من العراقية بشيء عندما نرفع..صور زعماء دولة اخرى مجاورة ليس في بيوتنا ومظاهراتنا وانما … في ساحاتنا وشوارعنا .. لمجرد ان هؤلاء يسوقون انفسهم كمحتكري تمثيل مذهب اخر ؟… . الحرية الفردية في من تحب او لا تحب .. ليست موضوع نقاش .. لكن الخروج من النطاق الفردي الى العام له مدلولات خطيرة … تعني الاحساس الدوني بالوطنية العراقية لننساق طائعين او مجبورين خلف الغرباء ومخططاتهم سواء تقاطعت او اتفقت مع مصلحتنا ( ففي النهاية ماحكك مثل ظفرك ). فمن كان عراقيا صميميا .. فالاولى رفع علم البلاد وصور شخصياته العظيمة وهم كثر .. رجل الدولة الحقيقي هو من يرتبط ارتباطا مصيريا بالارض وبالناس …وأن لا يكون هناك سلطان عليه الا سلطان المصلحة الوطنية العليا وخدمة الناس ورضاهم …. اما غير ذلك فكل سلوكهم وحنكتهم السياسية لن تقودنا الا الى…. انفجار…
والمواطن .. حتى يكون عراقيا عليه أن يحفر اسم العراق وخارطته التي تضم الجميع ليس على لسانه وانما في قلبه…
فأن لم نكن عراقيين بالانتماء القلبي لا بالنسب اللفظي .. وان لم يكن سلوك رجال الدولة على قدر المسؤولية وليس بسلوك رجال قبائل متناثرة الولاء متصارعة على توافه الامور .. فلا مستقبل لنا فأما أن نثبت أننا عراقيون حقيقيون بالانتماء وليس بالنسب … ونغير واقعنا الاليم بذكاء وفطنة ونغادر كل العناوين غير الوطنية لنصل الى بحر الامان … وان لم نكن قدها فالاولى ان نحزم حقائبنا لنرحل من هذا الوطن .. ونتركه للذئاب تواصل نهشها في جسمه العليل …