مسألة (4): التقليد هو العمل إعتماداً على فتوى المجتهد، سواء إلتزم المقلِّد بذلك في نفسه أم لم يلتزم.
وقد تعرّض السيد محمد الصدر(قدس سره) لهذا الموضوع ـ التقليدـ في موسوعة ما وراء الفقه، حيث قال (قدس سره) ما نصه:
((التقليد إصطلاح آخر مقابل للاجتهاد في ألسنة الفقهاء، وهو مأخوذ من الناحية اللغوية من أحد منشأين:
المنشأ الأول: أن التقليد مأخوذ من قلَّد. على معنى شابهه في الصوت أو الفعل كتقليد القرد والببغاء للإنسان ومحل المشابهة هو أن الفرد الاعتيادي يقلِّد المجتهد في أفعاله فيصلي كما يصلي، ويصوم كما يصوم، يعني في جميع الفتاوي والتفاصيل.
أو أنه يقلّد المجتهد في أقواله. لا بمعنى أنه يكررها كالببغاء، بل بمعنى أنه يطبقها على حياته، بعد أن يعرف الحكم الشرعي منها، وهذا المعنى وإن كان أبعد في المجازية إلا أنه أنسب من السابق لأن التقليد في الأفعال، خاص بما أتى به المجتهد من تكاليف، دون ما لم يأتِ به لوجود الفروق العديدة عادة بين المجتهد والمقلِّد كأحكام المرأة والرجل مثلاً.
المنشأ الثاني: أن التقليد مأخوذ من قلّد إذا جعل في عنقه قلادة. على معنى أن المقلِّد يجعل مسؤولية عمله كالقلادة في عنق المجتهد، الذي هو بدوره يتكفل أمام الله سبحانه صحةً أو بطلانَ ما قاله من أحكام وما أفتاه من فتاوى.
والوضع في المرتبة، بالمعنى المعنوي، معنى عرفي سائر بين الناس، وغير مستقرَب. وهو يعّبر عن الذمّة أو المسؤولية فقد يكون الفرد في رقبته دَين أو الحفاظ على مالٍ معيّن كالأمانة، أو الاتيان بفعل معين كاحترام الأب أو المعلِّم.
ومهما يكن من المنشأين فكِلاهما صحيح وقابل للانطباق ولا حاجة إلى الدخول في تفاصيل مناقشتهما.
وكما عرفنا أن الاجتهاد في اصطلاح الفقهاء احتوى على منحيين في الفهم أحدهما:
عملي وهو ممارسة الاستنباط والآخر :نفسي وهو الملكة التي تتضمن القدرة على تلك الممارسة.
فكذلك التقليد، يحتوي على منحيين من هذا القبيل:
أحدهما: عملي وهو تطبيق فتاوى المجتهد، فكلما عمل الفرد وطبق منها، فقد قلّده فيها، وأما ما لم يطبــّق علم يقلد فيه.
ثانيهما: نظري. وهو النيّة أو العزم على الرجوع إلى مجتهدٍ معين، حتى وإن لم يطبق شيئا من فتاواه بعد.
وبالرغم أن المنحى النفسي أو العقلي، في الاجتهاد كان هو الأرجح، إلا أن المنحى العملي في التقليد هو الأرجح، ومن هنا لم يكن الاجتهاد والتقليد معنيين متقابلين تماما. على أنه لا فائدة عملية من تسجيل تقابلهما التام.
أما المنحى العملي في التقليد، فينطبق عليه كلا المنشأين السابقين لمعناه.
أما المنشأ الأول فواضح الانطباق لأنه عملي بدوره.
وأما المنشأ الثاني، فلأن تطبيق حكم المجتهد عملياً يعني ضمناً جعل مسؤولية هذا العمل في ذمته.
وهذا بخلاف المنحى النظري للتقليد، لوضوح عدم انطباق المنشأ الأول، الذي يتضمن التطبيق العملي، مع مجرد نيـّة التقليد فإنَّ هذه النية ليست تطبيقا ولا لحكم واحد من فتاوى المجتهد. وإنما هو العزم على التطبيق في المستقبل لا غير.
نعم، قد يُقال: بانطباق المنشأ الثاني، لأن نيّة التقليد تتضمن جعل مسؤولية أعمال الفرد في ذمّة المجتهد. وهذا يكفي. إلا أن هذا لا يخلو من توسّع في المجازية، وكلما رجعنا إلى الأقل من العلاقات المجازية، واقتربنا إلى المعنى الحقيقي، كان أولى كما هو المتحقق في علم الأصول.
لأن جعل المسؤولية في ذمة المجتهد إنما يكون في التطبيق العملي للفتوى. وأما تسمية النية بأنها على هذا الغرار أيضاً، فلما هو باعتبار أنها عزمٌ على ذلك التطبيق.
إذن، فبكل صورة تكون نيّة التقليد، عزماً على التقليد، وليست تقليداً بذاتها. وإن كانت صحيحة بذاتها لأنها عزمٌ على تطبيق الحكم الذي هو حجة أمام الله عز وجل ولكنها على أي حال ليست ضرورية لأن العمل إن كان مطبقاً على الحكم الذي هو حجة كفى في إجزائه وعُذِرَ فاعله ولو كان بدون تلك النية. كما لو كان العمل قد طابق الحكم صدفة.
ولذا قال مشهور الفقهاء بأن العمل بدون التقليد، إنما يكون باطلاً إذا كان مخالفاً للحكم الذي كانت حجيّتهُ ساريةَ المفعول عند العمل. وأمّا إذا كان مطابقاً له فلا إشكال في صحته، بالرغم من عدم وجود نيّة التقليد، بل عدم الالتفات إليها.))إنتهى( المصدر: ماوراء الفقه الجزء الأول القسم الأول)
وهذا الكلام لوحده كافٍ في شرح هذه المسألة,حيث وضّح السيد محمد الصدر(قدس سره) مُراده من التقليد،
وكذلك مُراده من عبارة (سواء التزم المقلِد بذلك أم لم يلتزم) يعني نيّة التقليد أوالعزم على التقليد.
وإنَّ ما ذكره من فتوى المشهورالمنصور بفتواه(قدس سره) في مسألة (2)، يكون ملزماً للفقهاء الذين يذهبون إلى أنَّ التقليد نيّة (التزام نفسي)؛
لأنهم يفتون بصحّة العمل المطابق للفتوى الحجّة. وهذا لم يحصل عن نيّة التقليد،
بل إن هذه الفتوى تصلح دليلاً على تحقق التقليد, ومع ذلك إن الشيء المهم هو تسليط الضوء على هذه المسألة بعد أن تمَّ لنا الفراغ من شرحها،
ولكن بقيت بعض الأمور المتعلّقة منها ما هو مرتبطٌ بمسائلٍ أخرى، ومنها ما هو غير مرتبط.
وللحديث بقية إذا بقيت الحياة….