23 ديسمبر، 2024 9:41 م

عناد غزوان ضيف أصبوحة المدى الثقافية

عناد غزوان ضيف أصبوحة المدى الثقافية

أقامت مؤسسة المدى بيت الثقافة والفنون أصبوحة متميزة إذ احتفت بشخصية أكاديمية مرموقة كانت وما تزال بصماتها واضحة في الأدب والثقافة العراقية وهو الراحل الأستاذ الدكتور عناد غزوان. وقد أدار الجلسة الناقد والشاعر علي حسن الفواز الذي بدأ الجلسة بالحديث عن الشخصية الأكاديمية والعلمية والثقافية للمحتفى به ودوره الكبير في تطور الثقافة العراقية ولاسيما الخطاب النقدي المعاصر، بعدها تحدث الأستاذ الدكتور عقيل مهدي يوسف قائلاً : عناد غزوان مؤسسة في رجل، أو عزف أوكسترالي، ترك نوطته من بعده على شكل كتبٍ، ومخطوطات وأصداءٍ متموجة لانهائية. هذا الجانب الصوتي المميز من شخصيته ربما جاء سبب ونتيجة لدراسة الأدب الجاهلي وتدريسه لثلاثة عقود ونيف مع النقد الأدبي. وهو الذي يعلل شغفه الكبير باصطياد النافر من المفردات اللغوية بطرديات منهجية، محكمة، تراه تارةً يعكف على الزمان، وتتالي حلقاته التاريخية وأخرى يمعن في رحلات المكان، فيتلقف اللغة الأجنبية من مظافها. جمعتنا المودة، وفتح لي بوابة كلية الآداب لأقف مناقشاً في القسم الذي يترأسه، أطروحة للدكتوراه تخص الأدب المسرحي في العراق، ومعنا فطاحل العربية، أ.د.(داود سلوم وعمر الطالب، وجميل نصيف، وضياء خضير). وكان من غبطتي أن اشتركت معه في مناقشات مماثلة في كلية الفنون الجميلة، لأكثر من ثلاث اطاريح للدكتوراه. ولو الحياء الجامعي تمنيت لو أسندت له دوراً في مسرحية رصينة، فهو يمتلك أدوات الممثل (الصوتية) وقوامه المتطاول، وتعبيرات وجهه التي يتحكم فيها مازحاً أو مغضباً، وهو من الطراز الأول الذي يطلق عليه ((فنان الشعب)) الذي عهدناه في مسارح البلدان الاشتراكية.
بعدها تحدثت الأستاذة الدكتورة نادية غازي العزاوي التي تتلمذت على يد الدكتور عناد غزوان قائلةً: أحتل د .عناد غزوان مكانة بارزة بين هذا الحشد اللامع من الأساتذة الذين خدموا العراق كله ، وقدَموا – على مدى عقود – لأبنائه ما ملكت أيمانهم من حصاد الفكر ورسالة التربية ، فضلا عن مؤلفاتهم وإسهاماتهم الجادة في المؤتمرات والمؤسسات الثقافية الأخرى ،وعليه فالحديث عن   الدكتور عناد غزوان يمكن أن ينطلق من أكثر من جانب                                           عناد غزوان أكاديميا ومترجما وناقدا وشخصية اجتماعية ووجها تلفزيونيا قديما ورجلا نقابيا ……….الخ ، ولكنني سأركز في هذه الورقة على جانب معين من أدائه التدريسي : أعني هذه الأريحية في شخصية الأستاذ التي ستتجلى أريحية في العلاقة الراقية بينه وبين طلابه.  أريحية لا تخلط بين الأوراق أو المواقع في تراتبية العلاقة بين الطالب والأستاذ بل تبقي على المسافة الفاصلة المناسبة بين منصة الأستاذ الموقرة ورحلة الطالب ، أريحية تتيح للأستاذ أن يتحلَى برحابة الصدر لتقبل مناقشات الطلبة الغضة الطازجة ، ومشاكساتهم وانفعالاتهم بحب كبير مشفوع بتوصيات علمية بمراجعة هذا المرجع أو ذاك لإزالة اللبس والشك وللاستزادة . أريحية في اختيار الجوانب المشوقة من المادة ، واختيار النصوص الأكثر تمثيلا للظواهر بوصفها وسائل استدلال لهذه العقول الفتية والآذان الصاغية والعيون المفتوحة القابعة أمامه .أريحية سياسية ومثلها فكرية وأيديولوجية جعلتنا نجزم من أول محاضرة ألقاها الراحل علينا أنه – وكما ينبغي للأستاذ أن يكون – ( فوق الميول والاتجاهات ) وأوسع منها بكثير ، بسعة المعرفة التي ينبغي أن تذيب هذه التفصيلات الثانوية للارتقاء إلى الغاية الأسمى ، وهي البناء العلمي الرصين . لا أذكر مطلقا أنه أشار أو نبز أو مارس ما يمكن أن يشم منه أي معنى من معاني التعصب أو الانحياز مما يعاني منه نفر من أساتذة الأمس واليوم ، وذلك درس صحي تتجدد دلالاته فينا كلما أمتد بنا العمر وشاهدنا ما يخالفه من العجائب والغرائب تصدر عن أناسٍ محسوبين على الحرم الجامعي ولكنه – للأسف – حساب بالاسم فقط.
ثم تحدث الأستاذ الدكتور حكمت عبد المجيد علاوي الذي عمل لفترة طويلة مع الراحل عناد غزوان عندما كان نائبا له في جمعية المترجمين العراقيين لدورتين انتخابيتين حصل الراحل عناد غزوان فيها بالإجماع رئيساً لجمعية المترجمين العراقيين، كما تحدث الدكتور علاوي عن علاقته المهنية والأكاديمية والنقابية التي جمعته بالراحل عناد غزوان فضلاً عن دور الراحل في جعل العراق عضواً في اتحاد المترجمين العالميين بجهود كبيرة وحرص على الوطن وخصوصيته العلمية والإبداعية. بعدها تحدث الأستاذ الدكتور صلاح القصب وكانت ورقته بعنوان (رسالة من قصب الاهوار لعناد البحر والموج) قائلاً: كنت متشوقاً لرؤية كل شيء لارتفاعات البحر وحتى عنان السماء، طائراً بين الغيوم الكثيفة وأطباق الضباب والضوء المبهر، يرتفع بك إلى مدارات الفضاء الصافي وكنت تسمع كل الأصوات، تدعوها للإسراع كي تملأ الأرض فرحاً، كنت تدعونا إلى الأفق لتطوف حول أكاليل مزدحمة بالحب… أستاذي يا قصائد كل الشعراء.. عناد الكبرياء وموج البحر.. زرعت في نفسي لهيب العاطفة وكنت أنت بالنسبة لنا اكبر من ألف شعلة، كنت تبرق كأناشيد ترشد الروح إلى هناك إلى قمم جبال أزاهير شجية للحب وللأنهار الطيبة وكنت ترشدنا لأشجار مثمرة بأجمل الثمار.. مررت بين الماء وكان الرذاذ المتطاير على الأوراق يحدثنا عنك والأشجار ذات الحكمة تبحث عن مدارات كي تصل إليك.. أستاذي العزيز عناد.. لقد تألقت بجوهر مشرق وكنت فضاءً جديداً من أي طرف تنظر إلينا وعشق النور في عينيك كأشعة نجوم تشعل فينا حب ابدي.. رايتك في حلمي تغني وتتجول عند ضفاف النهر العذب السخي نلتقط الأزاهير.. كنت تشدو شعاعاً عبر الغابات، كنت تركض إلى مهد النهار وفجأة اندلع ضوء في الهواء عذب.. مباهج لا حد لها… ركضت إلى النهر كي نستحم بأشعة اللون والماء يرتفع فوقك ليرسم تاجاً باهراً بين الماء والأزاهير.. أعطيتنا شعا شمس وأزاهير وحرارة حب ابدي وأمواج انهار صافية… أما أنا فأعطيك ضفاف بحور عذبة تغني وتلقط الأزاهير من رياحين تملأ ذكراك العطرة. وبعد هذه الصورة التي قدمها الدكتور صلاح القصب، ألقى الشاعر حسين القاصد احد طلبة الدكتور عناد غزوان وقد قرأ قصيدة بعنوان إلى الذي تركني بقارعة القصيدة إلى أبي عناد غزوان قال فيها: دخلت أفتش عنك هنا ….
إذن فابتسم لي فهذا أنا…
ودع لي عصاك لان الظلام شديد وان عصاك السنا..
دخلت وجدتك تطعم صوتي وقد لا احبك..
لان احبك تعني احتواءك..
وتعني باني بعد انطفاء اشتياقي إليك سأنسى ضياءك…
إني أراك يا شامخاً حين رمت الصعود إليه تواضع حتى أنحى ..
احن إليك وأبصر كفك تومي إلي  فاركض علي أبوس يديك..
يا آخر الماء عد للشفاه فمن قاعة أجهشت بالحضور أنادي عليك..
تحدث قليلاً بوقت التنفس .. كيف يموت الهواء النقي ….
وها أنت رحت فماذا بقي…
أما آخر المتحدثين فقد كان معتز عناد غزوان الذي شكر مؤسسة المدى لهذه الاصبوحة المهمة في تسليط الضوء على زمن إبداعي كبير مليء بنقاط مضيئة، فقد تحدث عن عناد غزوان الوالد والإنسان والمثقف الكبير.. وقد استعرض كلمة المستشرق البريطاني (جون.آ.هيوود) المشرف على دراسة الراحل عناد غزوان التي قدم بها الرسالة بعد أن طبعت على نفقة جامعة بغداد قائلاً (عندما جاءني البروفسور عناد غزوان إسماعيل في درهام قبل سنوات مضت حاملاً معه مقترح بحث عن القصيدة العربية نشأتها مميزاتها وتطورها إلى نهاية العصر الأموي، لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة قبلت أن اشرف عليه مع عظيم سروي ليس لأنني اعرفه جيداً أو لأنني امتلك خبرة في هذا المجال بل لأنني آمنت تماماً بان موضوعه المقترح للبحث في غاية الأهمية على الرغم من البحوث الكثيرة التي كتبت في مجال القصيدة وخصوصاً المعلقات. البروفسور إسماعيل اثبت جدارته في إنجاز هذا الموضوع وأنا أراهن بان أي شخص يقرأ هذه الأطروحة سوف يشعر بأنه دخل في أعماق القصيدة التي تعد من أشكال الفنون العظيمة في الأدب العالمي. أتمنى لهذه الأطروحة النجاح الذي تستحقه وفي الوقت نفسه اخص شاكراً الناشر الذي جعل من أطروحة الدكتور إسماعيل إرثاً أدبياً يفيد منه الدارسون والباحثون في الأدب العربي) ثم تحدث معتز عناد غزوان عن حياة الراحل عناد غزوان قائلاً: بدأ الوالد رحمه الله بالتدريس في الجامعات العراقية منذ عام 1963 في كلية التربية والآداب وجامعات القطر الأخرى كالجامعة المستنصرية والبصرة والموصل والقادسية وبابل والكوفة فضلا عن جامعته الأم جامعة بغداد. فقد كان كالسيف في المواقف المشرفة لم يعرف التملق والتقرب والأنتفاعية قط، ولثقته العالية بنفسه ومنهجه وأسلوبه التربوي والأبوي الذي انتهجه مع تلاميذه وأبنائه كان مؤمنا بحكمته (خير الناس من نفع الناس).لقد عاش محباً لوطنه عاشقاً لترابه فخوراً بعراقيته لم يغادر ارض الوطن حتى في أحلك الظروف، كما عاش متواضعا في علمه وخلقه وحبه لجميع الناس من حوله حتى توفي متواضعا بين أبناء الشعب في مستشفى الشعب في مدينة الطب في غرفة متواضعة وسرير متواضع بعد أن عجز قلبه الكبير وتوقف كبده فدخل غيبوبة الموت ، ورغم تلك الغيبوبة فكان يحس بمن حوله من أحبة وأصدقاء حتى إنني كنت أناديه بين الحين والآخر وكان يدير رأسه باتجاهي ويجيبني بصوت غريق أليم وعين مقفلة لا يمكن أن تراني إلا عندما أفتحها بيدي.. هكذا كان صبورا يصارع المرض حتى رحيله في 9 /10 /2004. فسلام عليك يا والدي الحبيب أيها المربي الفاضل أيها الصوت الحنون .. أيها العطوف المتواضع الذي علمني احترام الأستاذ والمعلم والمبدع  سأبقى أتذكر مقولتك الحكيمة (أن الإبداع لا يولد تحت القيود أنما يولد في رحاب الحرية). وقد شهدت الاصبوحة حضوراً واسعاً من الطيف الثقافي العراقي في يوم مشمس جميل من أيام الجمعة في شارع المتنبي شارع المثقف العراقي الأصيل، فتحية لكل مبدع عراقي.