رمضان كالأعشاب الطبّيّة أو “طبّ العرب” كما يقال ولذا فهو سيكون أحد الحلول السيّئة إن تمّ تداوله في غير بيئته وفي غير زمانه لمعالجة اقتصاد مجتمع لا يشكو الشحّة أو قلّة الموارد كالّتي أنتجت رمضان لكنّه قد يكون ينفع كأفضل الحلول “لاقتصاديّات الخنادق” أو البيئات القاحلة. فالدول وشعوبها الحيّة في العصر الحديث أو حتّى تلك الّتي عاصرت ظهور هذا الشهر لا تفكّر إطلاقًا في حل معضلاتها على التقشّف الّذي يمثّله رمضان لدى الشعوب الفاغرة فاها, بل يجب أن لا تفكّر في مثل هذا الحلّ التعيس إطلاقًا بل وتعتمد مقرونات العصر التكنولوجيّة كما هو حاصل وبواطنها الفلسفيّة ومستنبطاتها البيئيّة تخطّط لتضع على ضوئها استراتيجيّات اقتصاديّة وصلت حدّ الصواب الدائم لحلول تعتمد التخمينات رغم نهاياتها السائبة وفق المعادلات العلميّة الدقيقة لكنّ غناها التجريبي يؤهّلها هي الأخرى لتؤطّر مساحات جغرافيّة وسياسيّة شاسعة تكون قد استقرأتها مسبقًا ووضعت بنائيّاتها البديلة مخمّنة أو ميقّنة بمستوى المنفلقات المعالجة المستجيبة عند الضرورات ذلك إن لم تكن ثقافة التمثيلات البكتيريّة واستشفاطات الجفاف لاقصى أعماق جدرانه الرطبة بوسائل الاستدراج الميكانيكي المعتمد تيّارات الهواء والطاقة الشمسيّة في استمرار استعصار حبيبات الرطوبة من المستجفّات وتخزينها أوّل بأوّل. إذ لم يعد بوارد لدى ذوي الشأن القلق على مصادر الطاقة طالما علموا أين تكمن مصادرها وأنواعها بل أصبح ينتجها من بين حبيبات الرمل والماء ويستخلصها من زوايا البنية الكونيّة وأماكنها المتداخلة مع مستدخلات مساحات كوكبنا في الوقت الّذي لا زلنا نحن فيه نستخلص عصارة سماء قاحلة هي الأخرى بما تسمّى بصلاة الاستسقاء.
شعوب, كشعوب الحضارات العريقة كمصر والعراق مثلًا وبيئاتها الرطبة ,أو ما يطلق عليها حضارات الأنهر تحايلت على رمضان بوقت مبكّر ما أن قدمت به جيوش “الفتح والتحرير” كأحد أساليب القمع خضع لجبروتها شعبي الحضارتين العريقتين بلاد ما بين النهرين والفراعنة, فعملت شعوبهما على إيجاد توازن للمصاعب البليغة الّتي ينتجها صيام شهر بأكمله وتعطيل الحيويّة البشريّة فيه ؛بتوازن آخر مبتكر يمتاز بترطيب النفس وإيجاد وسائل للتسلية تواسيه عمّقتها باختراقه الثغرات الّتي تكمن ما بين أسطر الطقوس الرمضانيّة الجافّة إذ اعتقد المصري أو العراقي الّذي أوجد ألعاب “كالمحيبس أو الصينيّة” وغيرهما في دواخل أنفسهم أنّ مثل هذا الحلّ الاقتصادي الّذي يمثّله رمضان قد يصلح في البيئة الصحراويّة كمدينة مكّة ومدن جزيرة العرب الّتي تعاني الجفاف باستمرار لكنّه لا يصلح مع بلدان وضعت أولى قوانين الأرض وأولى المبتكرات العلميّة وخطّطت لاقتصاديّاتها بالسدود والقناطر واحتوت مسبّبات الأرزاق بشكل دائمي واختلقت قوانين التعايش والتكافل وفق استقراءات بسيطة حينها لمناسيب ارتفاع مياه الأنهر أو انخفاضها ولم يكن بوارد عندها الصوم للتعويض. ولقد عاصرنا نحن جيل الستينيّات مثلًا فما فوق ما تبقّى من وسائل بديلة كانت ثرّة كبدائل عن تجرّع إرهاق صوم رمضان وطقوسه الصارمة كتلك الأغاني الّتي لا زالت تسبح في فضاءات االذاكرة اكتسبت الشعبيّة وسرعان ما انتشرت, وممارسات تسالي فاقتها في التعويض النفسي تأخذ في ظاهر أغلبها بعدًا دينيًّا لكن تكمن بين أسطر معانيها لغة احتجاج وتعابير عن قسوة تقبّل وهضم مرسوم رمضاني سنوي على شكل شهر من أربعة أسابيع لهضم وابتلاع عنوةً مشاق لا تتّفق وطبيعة تلقائيّة العيش اليسيرة الممتدّة تقاليدها لآلاف السنين لم تكن مدوّناتها سمعت يومًا بعطش أو جوع أو شكت بل العكس فقد عانى التخمة حدّ الغرق كغرق طوفان نوح وغصيص طعام بأقوام مترفة كقوم لوط وقوم النمرود وغيرهما وشعوب كانت تعاني التخمة أوجدت عقاقير علاجيّة لسوء هضم احتساء البيرة مثلًا الّتي كان مبتكرها شعب العراق “شعب العراق الأصلي أقصد” يستمتع بها بشراهة وسط بيئة غنيّة التنظيم والتخطيط كان مصدر غناها استغربت هذا الاجراء الطقوسي القسري, فقد لا زالت مثلًا ترسّبات فانوس رمضان ضمن برامج ما بعد الإفطار الّذي عوّدنا تلفزيون مصر من القاهرة عليه مع فعّاليّات تسلية رائعة لا زال الكثير منها عالقًا في ذاكرته تلك الحلوى الأدبيّة لا يدانيها في الامتاع أعتى محطّات التسلية العالميّة فلقد كانت القاهرة ببرامجها الرمضانية وابداعات أغانيها من مثل “الراجل دا حيجنني” للرائعة صباح والرائع فؤاد المهندي وغيرها الكثير من أغاني رمضانيّة شيّقة كانت تمثّل بحقّ الواحة النفسيّة الغنّاء والحقيقيّة للهاربين من طقوس رمضان خاصّة زمن جمال عبد الناصر وما بعده كفوازير رمضان والسمسميّة والليلة الكبيرة بل أنّ ,بالتبطين الذكي, عوّض شعبا البلدين تلاوة القرآن بالقراءات المتعدّدة أفرغ فيها موروثه الموسيقي العريق وكذلك عبر الطقوس وممارساتها بطرق التطريب غلّفت بالوقار إذ اختلق وأوجد “التواشيح الدينيّة” وأكثر من “الصلاة على الحبيب” بتلك التواشيح ذات المغزى العميق في أصلها الخ الخ لا حصر لها ,قبل أن تصل “الصحوة الدينيّة” منذ اربعينيات القرن بعدما بدا الترنّح ظاهرًا على رمضان وغيره والوافدة هذه الصحوة من بيئة القحالة والتصحّر ثانيةً بقيادة طلائعها الحويني وقرضاوي والكوراني والوائلي والظواهري وحسّان ليمحقوا تراث إنساني غنيّ بالجماليّات الأدبيّة والفنّيّة نابعة من عمق إنساني حقيقي وليعيدو “جدّيّة” ممارسة رمضان “بالطريقة الشرعيّة” وبالغصب والإكراه شبيه بذلك الإكراه يوم قدم رمضان مع جيوش “التحرير” لبلدن كانت متعايشة بسلام وطمأنينة حدّ الوهن والإغراق الحسّي لم تعرف يومًا شيء اسمه عطش أو مجاعة ..أو ظلم.