من أين يكتسب المثقف في مجتمعاتنا أهميته؟ وبأي معنى؟ وتعباً لأي معيار؟ كيف نتخطى ثقافة التبخيس لذواتنا دون السقوط في المحاباة والانتهازية؟ لماذا يُقدح في شهادات المثقفين في بعضهم البعض فتحمل أغلبها على المجاملة، ويقلل من أهمية تجريح ونقد بعضهم لبعض فتوصم بالحسد والغيرة؟ هل للحديث عن الموضوعية من معنى في هذا السياق المأزوم؟ تلك هي الأسئلة التي وردت في ذهني لأول وهلة حين عزمت على كتابة هذه السطور. ولأنني كنت أمنِّي النفس بكتابة عدة مقالات هذا العام، عن الدكتور عبد الجبار الرفاعي وغيره من الشخصيات العلمية التي أعرفها، احتفاء بدورهم العلمي والثقافي، واحتفالاً ببلوغهم الستين عاماً، ظناً مني أنهم يشتركون جميعاً في هذه الميزة، فقد بدا لي طلب الحديث عن الرفاعي مفاجأة! وحتى هذا الوقت كنت مصمما على عدم إخبار الرفاعي بالموضوع قبل نشره؛ خشية أن تتحول كلمتي إلى ما يشبه الوعد، ثم يستعصي عليَّ بعد ذلك الوفاء به لطارئ ما.
لقد عيب على الثقافة العربية المعاصرة، لا سيما لدينا نحن العراقيين، أنها لا تقدِّر مثقفيها إلا بعد رحيلهم، وأن كثيراً من أهل الفكر والثقافة والأدب يعيشون مهمشين بيننا، حتى إذا ما فارقونا، ندبناهم باكين! نراوح بين التهميش والغمز من جهة، وبين المبالغة والغلو من جهة أخرى. بين الحط من الذات وتهشيمها، وبين العسف في تبجيلها والاسراف في توقيرها … تنعدم الوسطية فيختفي الاعتدال. كتبنا في “ألفيَّات وميئويات” القدماء كابن سينا والفارابي وابن رشد وابن عربي وابن تيمية والملا صدرا والشيخ المفيد وغيرهم، إلا أننا أهملنا مثقفينا المحدثين، حتى بات من النادر أن نعثر على “احتفاء” بمثقف معاصر، يعيش بين ظهرانينا. وإذا ما حدث ما يشبه ذلك، فمن المؤكد أن يكون بعد رحيله.
واليوم إذ بدأت تنتشر ظاهرة تكريم الباحثين “الأحياء” كإحدى إفرازات عصر العولمة، فإن أهم المخاطر التي تواجهها أن تتحول إلى ما يشبه تصريحات السياسيين! أعني أن تفقد قيمتها في عكس واقع المشهد الثقافي، فتُمنح الأدوار لا على أساس أهمية مشاركة الشخص المعني في النهوض بمستوى وعي مجتمعاتنا، أو تحديثه في أحد حقول العلم والفكر والأدب، أو مساهمته الإبداعية في إنضاج تجربتنا في الحياة، بل على أساس موافقته لهوىً عند البعض أو بدافع من “التخادم” النفعي بينهما. حينها إذا صح ما قيل قديما من أن كلام الأقران في نقد بعضهم البعض (يطوى ولا يروى) أو (لا يعبأ به)، فإنه يكون من الصحيح أيضاً أن يقال العكس بإن كلام الخلاَّن يتعاطى (بحذر وتمهل).
بالنسبة لي سيكون شعاري وأنا أكتب عن الرفاعي قول الشاعر:
ألا إنما الخلاَّن عند الحقائق *** ولا خير في ود الخؤون الممازق
يقودني في ذلك إيمان بأن أفضل أسلوب لتكريم مثقفينا يتمثل ليس بإشاعة ثقافة الإطراء وبوس اللحى، وإنما بتحليل الفضاء الثقافي الذي اسهم داخله هذا المثقف أو ذاك، ووصف سياقات الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي كان سائدا إبان تلك المساهمة؛ حينها نتمكن من فهم، بل وتقدير حجم، الدور الذي لعبه المثقف وطبيعته ودلالاته في وعي معاصريه، وإفرازاته وتأثيراته على لاحقيه.
من المؤكد أن للحديث عن د. الرفاعي عدة جوانب، تبعا للمراحل التي مر بها، فهو ابن قضاء الرفاعي (قضاء معدم يقع شمال شرق ذي قار في أعماق جنوب العراق)، وهو الطالب الجامعي في مطلع السبعينات حيث ذروة صعود تيارات الإسلام السياسي، وهو الطالب الحوزوي العاكف على متون التراث قبل نهاية العقد المشار إليه، ثم السياسي اللاجيء في المنافي منذ الثمانينيات، وهو الأستاذ في المعاهد الدينية والكاتب في شؤونها حتى أواسط التسعينات، وهو الباحث وصاحب المجلات التنويرية حتى سقوط النظام البعثي في العراق عام (2003)، ومنذ هذا التاريخ وحتى الآن وهو الراغب في “إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين”، الحاض على إعادة قراءة الأخير في ضوء مكتسبات العلوم الإنسانية الحديثة ..
مراحل عديدة ومتنوعة، من المنتظر جدا أنها كفلت له وعيا عميقا، وخبرة رصينة، في الحياة والسياسة وفهم التراث.
بأيِّها نبدأ؟ وعند أيِّاها نقف؟ من هي صاحبة الدور الأكبر في تكوينه والملهمة له؟ من التي عاشها بحق وانتمى لها بعمق؟ والأهم من ذلك بالنسبة لموضوعنا: أي الوجوه المشار إليها قد عاصرته وكنت شاهدا عليه؟ وكيف بدا لي الرفاعي فيه؟ لن أسمح لنفسي أن تتحدث عن الرفاعي ابن القرية، أو الرفاعي الجامعي، أو الطالب الحوزوي، أو السياسي الحزبي؛ ليس فقط لأنه الأعرف بها، ولأني لم أشهدها، بل ولأنها لم تكن جزءاً من صورته في اللحظة التي تعرفت فيها عليه. وبصراحة أقول: إن ذلك كان من حسن حظي وحظ الجيل الذي أنتمي إليه! وأشعر أن د. الرفاعي يتفق معي تماما في هذه النقطة، وسوف أوضح في الأسطر القادمة ما أعنيه بذلك.
إن الصورة التي عرفت الرفاعي بها لا تكاد تختلف كثيرا عن صورته التي هو عليها الآن، لقد ظهر فيها شيخا “أفندياً” وقورا وذا طلعة بهية، أستاذا متميزا في حلقات درسه، في فنون المنطق والفلسفة وعلمي الكلام وأصول الفقه، وفوق ذلك كله (هكذا شيئنا أن نراه) مثقفا تنويريا بمجلتيه “قضايا إسلامية” و”قضايا إسلامية معاصرة”، فتح بيته وقلبه للجميع في صورة فريدة من صور الكرم العربي الأصيل .. وهبنا أجمل الأوقات وأثراها وأشدها تحفيزا.
ولكن كيف بدأت قصة هذه الصورة في أذهاننا؟ كيف تشكلت؟ وما السياق الذي ولدت فيه؟ لا تتضح الحكاية ما لم يتم رسم أهم معالم المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي للعقد الأخير من القرن المنصرم، حيث ولدنا على ضفاف المنفى والبؤس والاغتراب الفكري العميق.
شاءت الأقدار أن نبصر النور في زمن أعتى الدكتاتوريات وأشدها همجية وتخلفا وانحطاطا، في زمن صعود الايديولوجيات الطوباوية، في زمن احتكار السلطة والاستئثار بالأموال، في زمن لا هم للقوى العالمية فيه إلا النفوذ في منطقتنا وتفتيتها والهيمنة عليها. وجدنا أنفسنا في منفى لم نختاره، لم نشارك في صنع مشروعه، ولم نكن حتى في فسحة التفكير فيه، فضلاً أن نكون من الدعاة إليه. أخذنا على حين غرة، فبتنا في جوقة لا تكاد تستوعب اللحن. قذفنا خارج زماننا فكرا وتعليما ونمطا للعيش، تحولنا لمجرد أعداد للمفاوضة والضغظ والابتزاز. وبالمقدار الذي نمت طموحات السياسي في نيل مبتغاه في تكريس ايديولوجيته المستمدة من الدين، نمت لدينا رغبة إعمال العقل وبناء الذات علميا .. بما هو متاح. لم يستطع هذا السياسي والايديولوجي والمنافح عن “مصالح” الإله أن يسلب منا ولعنا بالنور والحرية والتعليم. بل إن لمفارقاته في الفكر واستيعاب الحياة، وتناقضاته في السلوك مع المبادئ التي يبشر بها، الفضل الأكبر ـ ربما دون اكتراث منه ـ في إيقاد جذوة السؤال النقدي والمراجعة الجذرية الحاسمة.
كانت البداية الممكنة بالانتماء لمعاهد الدراسة الدينية في قم. لم يحل دون تحصيل المعرفة، أية معرفة تتوفر لنا، العمر، ولا الغربة المضاعفة بالهجرة خارج أسوار المخيمات لمدينة لا نعرف شيئا عنها، ولا المجهول، ولا الإفلاس، ولا أي شيء آخر. نمنا في العراء، على الأرصفة وتحت الجسور وفي الحدائق العامة. طوينا الأيام والليالي دون طعام ما خلا بعض لُقيمات من “نان سنكك” وحبات العنب أو الرقي. لم يفتَّ من عزيمتنا إن وجد الراءي في بعض ما نلبسه شبها بملابس المشردين. كانت الدراسة والمباحثة شغلنا الشاغل، والقراءة والنقاش دأبنا المتقد.
طيب! وما علاقة كل ذلك كله بعبد الجبار الرفاعي؟
الجواب: إنه بالصميم منه.
إذا صح في مناهج الفكر أن مداخل السؤال تفضي إلى تحديد طبيعة الأجوبة، فإنه من الصحيح أيضا أن اللحظة التي شهدنا فيها التعرف على شخصية الرفاعي، وما وجدناه عليه، وعنده، لم تحدد فقط طبيعة علاقتنا به، بل وطبيعة الدور الذي اضطلع به في تجربتنا، أو على الأقل شكل الصورة التي صاغتها أذهاننا عنه، والتي وصفتها في كلامي السالف. شخصياً أول مرة أتعرف فيها على الرفاعي كانت من خلال الاستماع لمحاضراته في “المنطق والفلسفة” المسجلة على أشرطة الصوت. لم أسمعها جميعا بنحو رتيب، بل كنت أعود إليها كلما أغلق عليَّ من أمرهما مسألة لأرى ما قاله فيها وشرحه لها. ثم اقتربت منه أكثر حين قرأت كتابه “متابعات ثقافية: مراجعات وقراءات نقدية في الثقافة الإسلامية” (مكتب الإعلام الإسلامي ـ 1993).
إلا أن اللحظة الحاسمة في دخول عالم الرفاعي كانت عام 1997، بعد أربع سنوات من صدور مجلته الأولى “قضايا إسلامية” التي مثلت أعظم منعطف في المشهد الثقافي العراقي الإسلامي، لا سيما في قم، وداخل أروقة الحوزة العلمية العربية، والعراقية بنحو أخص. بشأن المجلة يمكن القول إنها كانت مختلفة في كل شيء، من تصميم الغلاف، مرورا بالأسئلة والمحاور التي ناقشتها، وانتهاء بالكتَّاب المساهمين فيها، الذين لم يجتمعوا، وبهذا العدد، على أمر ما، في يوم من الأيام. وكم كانت خيبة الأمل عظيمة حين سمعنا في ذلك العام خبر توقف المجلة عن الصدور. قيل: إن ممولي المجلة ضاقوا ذرعا بسياسة الانفتاح على صفحاتها، واعتبروها تجاوزا للحدود “الحزبية”. لم أتأكد من صحة هذا القيل وغيره، وحتى بعد أن توثقت علاقتي بالرفاعي لم أحاول أن استفسر منه عن الأسباب.
إن أول اتصال لمجموعتنا (حينها كانت مقتصرة عليَّ وعلى الصديق سرمد الطائي، ثم انضم لنا لاحقا نبيل الحلفي وعبد اللطيف الحرز و … ) بالرفاعي كان إثر صدور العدد الأول من “قضايا إسلامية معاصرة”، ضمن مسعى للتعرف على أبرز الشخصيات العلمية والثقافية العربية ـ والعراقية بنحو خاص ـ التي وجدناها قريبة من اهتماماتنا وأسئلنا واتجاهنا الفكري الذي اخترناه عن سابق وعي وإصرار. اتصلنا به من هاتف عمومي من الشارع، بالقرب من مكتبة المرعشي النجفي، طلبت منه موعدا للقاء، وعرَّفت بأنفسنا بالقول: إننا مجموعة من الشباب العراقي المهتم بشؤون الثقافة والفكر. وفعلا زرناه في بيته، فوجدناه مرحِّبا دمثا، ومضيافا أصيلا. ولكن أكثر ما أعجبني فيه هو تواضعه الجم، وإفساحه المجال لنا للحديث بحرية بدون تعال أو أستاذية، أو غطرسة أو استخفاف، بل كأنداد!! يسألنا ويستمع لنا ويتعامل بمنتهى الجدية مع ما نبديه من آراء ووجهات نظر. هذا بالرغم من الفاصل بيننا في كل شيء؛ سنا وتجربة وعلما ومقاما اجتماعيا. هكذا كان الرفاعي منذ أول يوم عرفته، ولا زال، لم يتغير ولم يتبدل إطلاقا.
لو طلب مني التعريف بأبرز خصال “شخص” أبي محمد في بضع كلمات محددة لقلت إنه:
– رجل عربي مضياف بكل معنى الكلمة.
– عفيف اللسان، وقور الهيئة، ندي الروح.
– لا سبيل للعصبيات إلى قوله وفعله، سواء أكانت قومية أو طائفية أو سياسية أو ثقافية.
– محب للخير وساع بإخلاص في أعمال البر والتعاون والإحسان.
– مدمن للقراءة والتساؤل ونشر المعرفة (لا أعرف شخصا على علاقة بالرفاعي ليس مدينا له بنحو أو آخر في شؤون الكتاب .. فهو يُعير الكتاب ويعرّف به ويتحدث عن أفكاره وينوِّه بصاحبه … ).
– أبوي في تعاطيه مع الشباب فكرا وسلوكا، وعلى مدى أجيال .. ولا يزال.
أما الرفاعي الباحث والأستاذ، فإن خير مدخل له معرفة حضوره كتدريسي محترف في عوالم المنطق والفلسفة والكلام وأصول الفقه داخل قاعات الدراسة في المعاهد الدينية، وهو الأمر الذي تشهد عليه أجيال من الطلاب الذي حضروا درواته تلك وتتلمذوا عليه. وإذا كان “الشيخ” أبي محمد الرفاعي من طليعة أساتذة الدرس الفلسفي في “قم”، فإنه أول من كتب تاريخ هذه الدرس في حوزة النجف، هذا التاريخ الذي لا زال مغمورا بالرغم من غناه وعمقه وثرائه الكبير.
يضاف إلى صفات “الرفاعي الباحث” هذه، صفة أخرى أجد من الضروري الإشارة إليها والتنويه بها، وهي صفة الباحث “الببلوغرافي” المتمرس. ولا يأتي تأكيدي على تلك الصفة نتيجة لخفائها وجهل متابعي الرفاعي بها، بل لشدة ما بذله من جهود جبارة في سبيلها، ولما تعرض له ـ في المقابل ـ من اجحاف وانكار وغمط لقيمتها وجدواها .. وقد أوضح الرفاعي نفسه ذلك بمرارة في حوار أجرته معه مجلة “مرآة الكتب” (وهي نشرة ببلوغرافية تعنى بالكتاب العربي المنشور في إيران كان يصدرها في قم الصديق محمود الغريفي) عام 1997. وقتها أعلن الرفاعي تركه الببلوغرافيا إلى غير عودة احتجاجا على تلك الآراء الجائرة. إني أرى أن خير مناسبة للرد على تلك الآراء هو لحظة تكريم الرفاعي اليوم. لقد فات هؤلاء أهمية تلك الأعمال الموسوعية الضخمة (معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت (12 جزءا)، موسوعة مصادر النظام الإسلامي (10 أجزاء)، (معجم الدراسات القرآنية)، (معجم المطبوعات العربية في إيران) … ).
لا يمكنني في هذه العاجلة بيان أهمية هذه المعاجم على نحو مفصل، أكتفي بالتذكير أن أي عمل فكري يعتزم دراسة (صورة النبي أو أهل البيت في المخيال الشيعي ـ أو الإسلامي عامة ـ عبر العصور) أو بحث (مصادر ومناهج التأليف .. ) في هذا الحقل من تاريخ العقل الإسلامي، أو غير ذلك الكثير من الدراسات المنتظرة والتي نحن بأمس الحاجة إليها، فإنه لا غنى له من الاطلاع على (معجم ما كتب .. ) والوقوف على المعلومات الغزيرة التي احتواها. وكذا الحال بشأن (موسوعة مصادر .. ) فإنها مصدر هامة جدا لمن أراد الوقوف على تطورات العقل الإسلامي المعاصر، وأساليب دراسته لإشكاليات الحياة الجديدة التي أفرزتها الحضارة الغربية، ومصادر استيعابه لهذه الحضارة، وطيبعة فهمه لها ولمبادئها ومفاهيمها، ومناهجه في الرد عليها … وذلك كله من خلال مراجعة ما كتبه الإسلاميون أنفسهم. أما (معجم المطبوعات … ) فإن من أهم ميزاته أنه كشف وجها آخر لإيران يختلف عن الصورة النمطية (المذهبية والسياسية) التي رسخت في أذهان بعضنا، ويمد جسورا للتقارب بين عقول مثقفي الشعوب الإسلامية يخلقه الكتاب ونشره وتحقيقه، وليس السياسة وأجنتها المريبة. ولقد كان للرفاعي جهد جليل في تشييد هذه الجسور عبر هذا المعجم، بمصاف العديد من الترجمات التي قدمها (منفردا وبالاشتراك) لعناوين غاية في الأهمية في تشكيل الثقافة الإيرانية المعاصرة.
ليس في نيتي أن أحوِّل هذه “الشهادة” إلى دراسة عن حياة الرفاعي وفكره وأعماله، ولو فعلت ذلك لخرجت عن الخطة التي رسمتها لها، لكنّي أرغب أن لا تكون مجردة “دعوى”، لا يدعمها شاهد، ولا يبررها دليل. أردتها أن تكون “شهادة” على سيرة فكرية لباحث وليس مجرد شهادة على شخصه، لا سيما وأن علاقتي بالرفاعي بدأت ونمت وترسخت بالتواصل مع تلك السيرة وليس مع شخصه، بالرغم من توقيري الشديد واحترامي الفائق لشخصه، إلا إنني أرى أن المهم في حياة الباحثين ليست شخوصهم وإنما شخصياتهم، هذا إذا فهمنا من الكلمة الأخيرة خصوص ما يميزهم عن الآخرين فكرا وعلما وثقافة.
أحسب أنني لا أجانب الصواب إذا ما قلت إن خير من يمثل الإنطلاقة الحقيقة لمشروع الرفاعي الفكري هو مجلتيه “قضايا إسلامية” و”قضايا إسلامية معاصرة”، فعلى مستوى شخصي بوسعي القول إنهما كانا جزءا لا يتجزء من الهوية العربية والعراقية لشباب الجالية العراقية في المهجر، ليس في إيران فقط وإنما في أوربا وأستراليا وغيرهما أيضا. لقد رأى فيهما (لا سيَّما الثانية) الكثيرون عودة حقيقة للمنابع الأصيلة للهوية، وارتباطا بالبيئة الثقافية للعالم العربي وإشكالياتها وأعلامها.
وعلى مستوى آخر، مستوى الرفاعي نفسه، فإنها كانت مستودعه لجميع الأسئلة التي أراد إثارتها، والحض على التفكير بها، ومناقشتها، معتمدا سياسة ذكية تجنبه المواجهة والصدام، وهي سياسة ذات شقين: الأولى الحوار وطرح الأسئلة، والثانية فتحه لمحور “وجهان وقضية”. وقد نجح في ذلك أيّما نجاح!
أعود لأختم هذه السطور بإلفات عناية محبي الرفاعي ومتابعيه، والمهتمين بتطور مواقفه الفكرية من الاشكاليات المعاصرة التي يحفل بها واقعنا، إلى أهمية قراءة كتابه الأخير “إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين”، ففي هذا الكتاب (وهو مجموعة من حوارات أجريت معه، وأوراق قدَّمها في مناسبات عدة في السنوات اللاحقة على عام 2003م) يتضح بنحو لا لبس فيه انحيازه للتحديث والقراءة النقدية للتراث، كما ويدعو فيه بشكل صريح لـ (الاستعانة بمعطيات العلوم والمعارف الحديثة، والتفكير بواسطة كل ما هو متاح في عصرنا، للتحدث عن الإله) والتراث. مع نقد مباشر لمشاريع ومفاهيم لها راواج كبير ـ ومنذ عقود ـ في الأوساط الإسلامية، لا سيما السياسية منها، كمفهوم الهوية وأسلمة المعرفة ولاهوت التحرير والدولة الدينية .. وغيرها. قد تبدو هذه المواقف والآراء جديدة، لا بل ومثيرة، على من لا يعرف عن الرفاعي أكثر من صورته كـ”إسلامي سياسي” سابق، أو كـ “أستاذ خبير بمتون التراث”، ولكنها ستبدو متوقعة من كاتب كرّس شطرا واسعا من حياته لمتابعة إشكاليات الفكر المعاصر، ورأس مجلة من أثرى المجلات الناطقة بالعربية. أما بالنسبة لي، فإن الأمر أبسط من ذلك بمراتب؛ إذ لا يعدو أكثر من مجرد مسألة “توقيت” فحسب.
سأجعل نهاية هذه الشهادة المتواضعة اقتباسا أجده يمثل صلب الرؤية التي ينبناها كتاب “الإنقاذ”، وهي تفصح عن روح كبيرة نحن أحوج ما نكون لها في زمننا هذا، زمن الفوضى والعصبيات والسياسات الانتهازية … يقول الرفاعي فيه:
“إن البشرية اليوم بأمس الحاجة الى تعزيز النزعة الإنسانية، عبر استيعاب الحياة الروحية الخصبة في الدين، وإحياء التجارب الإيمانية المتنوعة، تلك التجارب التي تمنح أصحابها رؤيا، يصبح فيها العالم ساطعا، شفيفا، ممتلئا بالمعنى. يتخلّق فيها الإنسان بأخلاق الله، وتغدو صفات الله مؤشرات وغايات عظمى لمخلوقاته، يجب أن يكدح الجميع للتماهي معها، والانخراط في مدياتها الرحبة”. “إن أدلجة الدين والتشديد على دنيويته يفضي إلى تفريغه من مضمونه الروحي، ويستغرقه في مجالات بعيدة عن العوالم الجوانية الباطنية للإنسان، وبدلاً من أن يعمل على تطهير الباطن، وترسيخ النزعة الإنسانية والمعنوية، وتربية الذوق الفني، ومنح العواطف رقة وشفافية، بدلاً من ذلك يتحول الدين إلى وسيلة للكراهية، وأداة للاحتراب والصراع”. “ولكي تبقى جذوة الإيمان متقدة في الأرواح ينبغي أن يتجاوز الإيمان ما تراكم من شروح وتأويلات عبر التاريخ، ويكون إيماناً نقدياً، فالإيمان النقدي هو الذي يتيح لصاحبه مواكبة إيقاع الحياة، والإصغاء إلى الواقع، وما يضج به العالم من استفهامات لا حدود لها. وهو الذي يكسر النرجسية الدينية، والمنطق العقائدي الأحادي”.
حفظ الله أبا محمد، وأطال في عمره، وزاده تألّقا وإبداعا وإيمانا نقديا