لم تكن هناك أية ملامح للتغيير في الواقع السياسي العراقي لكي نصاب بالخيبة الآن من عدم حدوثه بالإنتخابات. اقصد بالتغيير: الإنقلاب، الإنقلاب الإنتخابي الديمقراطي وليس الإنقلاب العسكري والعياذ بالله تعالى، كفانا الله تعالى شرة وبؤسه. الإنقلاب بمعنى تغيير الطبقة السياسية، وبالتالي تبديل منهج إدارة الدولة والسعي لبناء المؤسسات المهنية الرصينة التي ترسخ قيم ومبادئ العدالة والمساواة وتأتي بمتطلبات رفع كفاءة الأداء وتطوير وسائل العمل وطرائق الإنتاج.
العملية السياسية لدينا قائمة على قواعد صلبة من القومية والطائفية والزعامة المقدسة دينياً واجتماعياً، وهي قواعد متينة، وثنية في هيلمانها، تمتد أفقيا وعمودياً في صلب المجتمع وغير قابلة للتغيير، على الأقل في المستقبل القريب بسبب أبعادها التاريخية والثقافية.
في العادة، إذا حدث التغيير فإن مثل هذه القواعد والأبعاد تتطلب وقتا طويلا وحدثاً استثنائيا غير مألوف لكي تتراجع وتختفي وتزول ظلالها السقيمة. الثورة الصناعية، على سبيل المثال، استغرقت ثلاثة قرون لكي تنتشل أوربا من سلطة الكنيسة والإقطاع والبرحوازية، وتنقِّيه من لوثة النعرات الطائفية والتعصب القومي والتمايز الطبقي البغيض، وما كان يمارس من قهر اجتماعي وطغيان سياسي وحروب طاحنة لم يألف التاريخ البشري مثيلاتها، وذلك قبل ان تتمكن قيم العمل ومُثُله التي فرضتها الثورة الصناعية كالإلتزام والنظام والانتماء واحترام الوقت والمنفعة المتبادلة والمصالح المشتركة والهموم الإنسانية التفاعلية، من ترسيخ الديمقراطية والعدالة والتقدم والسلام،
إلى أن يحدث ذلك سوف نظل نحن في “هناء وبحبوحة” العملية السياسة التي هي، قبل تحميل الإحتلال المسؤولية، (علماً انه يتحمل الوزر الأكبر منها قطعاً)، نتاج واقعنا المرير وثقافتنا الموبوءة وتراكم الإرث القمعي للأنظمة السياسية العرجاء العوجاء التي تناوبت على البلد منذ نشوء “شبه الدولة” العراقية قبل مئة سنة.
توقع التغيير الانقلابي المطلوب لم يكن إلا وهما يرتسم في مخيلاتنا كنوع من الأمل الكسير للخلاص من عذابات الوضع المؤساوي الذي نكابد تداعياته المهلكة منذ 2003.
مع ذلك لم تكن هذه الإنتخابات نسخة طبق الأصل من سابقاتها، التبدل والتغيير سنّة الحياة، أما الثبات ودوام الحال فللواحد الأحد جلّ في علاه. لا يمكن تبعا لذلك نفي التغيير، على الأقل في الوسائل والتوجهات جون النتائج ربما. لدينا، على كل حال، في هذه الإنتخابات وما يحيط بها، تغييران: الأول ظاهري، يتمثل في فوز الصدر، والثاني حقيقي، تفرضه المعادلة الإقليمية الجديدة.
فوز الصدر بحد ذاته ليس خرقا جماهيرياً ونصرا انتخابياً غير مسبوق، وإنما هو في واقع الأمر بروزٌ وأضواء عاكسة ، تعزى الى تفكك القوائم الإنتخابية وتنزق التحالفات السياسية. نعم ربما يحصل الصدر على عدد أكبر من المقاعد البرلمانية بسبب تحالفه مع الحزب الشيوعي وبعض القوى المدنية وهي إضافة إلى قاعدته الجماهيرية الثابتة، الا انه، أي التيار الصدري دائما كان الكتلة الأكبر في قوائم التحالف أو الإئتلاف الوطني، بل كان الطرف السياسي الأكبر عند النظر إلى الثقل التمثيلي البرلماني لكل الأحزاب على انفراد، وكان عليه، لا على غيره تتوقف تسمية ممثل التحالف الوطني لمنصب رئيس الوزراء، وكان، للأسف، يخضع في النهاية للضغط الإيراني على الدوام و تنهار ممانعته الفطرية كتيار معارض ومقام يعبر عن غليان الفقراء والمهمشين والمحرومين، المتكدسين في الأحياء المكتضة بالمعاناة والأحلام والآمال التي لا تحقق أبداً، في ضواحي العاصمة ومدن الوسط والجنوب .
الآن، ببساطة متناهية، اشبه باغتيال احلام المقهورين، يتوقع الكثيرون أن لا يأتي التقدم الحالي للتيار الصدري وحلفائه بجديد، فإما أن يستسلم كالعادة وإما ان يهمّش كما حدث مع أياد علاوي عام 2010، وينصرف، بعد ذلك لتنظيم المليونيات الأسبوعية كما هي العادة.
من جانب آخر، لو جمعنا مكونات تحالف دولة القانون وأعدنا تشكيل قائمته الإنتخابية لعام 2014 افتراضياً (الدعوة متوحداً، بدر، الفضيلة، مستقلون، ارادة…. ) لرأينا أن تحالف دولة القانون هو الفائز في هذه الإنتخابات كما هو الحال في انتخابات 2014، وبقوة دفع أكبر، أضافَتْه قائمتا النصر لحيدر العبادي والفتح للحشد الشعبي.
التغيير الثاني فعلي وكبير الا انه تغيير إقليمي في حقيقته، عراقي في شكله تأثره، يتمثل في رغبة إدارة ترامب وسعيها لتحجيم إيران (تحجيمها وليس قهرها) والحد من نفوذها المهيمن على المنطقة بعد أن أطلقت إدارة أوباما يدها فيها، اكثر من ذلك، تحالفت معها ميدانيا في الحرب على الأرهاب، خصوصا بعد إبرام الصفقة النووية ورفع العقوبات الإقتصادية التي وفرت لها عشرات، بل مئات المليارات من الدولارات، إما بإطلاق أرصدتها المجمدة مع الفوائد المتراكمة أو من خلال زيادة مبيعات النفط.
هذا التغيير سينعكس بشراسة على سعي كل طرف (أمريكا وايران لتشكيل حكومة تؤيده، أو على الأقل توفر له مناخا غير معادٍ في بغداد. لاحظوا كيف بدأت تتشكل ملامح الحلف الإيراني (المالكي – العامري) والحلف الآخر (العبادي – الصدر) الذي لا يمكن وصفه بالحلف الأمريكي حرفيا، ولكن يمكن القول بأنه بعد عربي الهوى، لا إيراني التوجه. أمريكي الدعم، مع استحالة النأي بالنفس كليا عن إيران.
سليماني ترك ساحات القتال مؤقتاً ونزل في المنطقة الخضراء ضيفا معززا مكرما، ومبعوث الرئيس الأمريكي الخاص، بريت ماكغورك بدأ رحالاته المكوكية ولقاءاته بترحابٍ وتسهيل.