عندما ينشب قرن الفتنة تأكل كل المقدسات ولآن ثقافة المعصوم والعصمة تشوبها تشوهات لدى البعض وهذا نابع عن أرباك في ثقافة التأسيس في العالم ألاسلامي جعلت صروح المصطلحات يقفز عليها من لايمتلك مؤهلات النضج الثقافي وهذا مانجده اليوم في تعليقات مراهقي السياسة وأتباع الهوى الطائفي المتخمين بفساد الرأي والرؤية .
لذلك لم أقل : أن الفتنة تأكل حتى المعصوم , وأنما قلت : تأكل كل المقدسات , ولآن المقدسات تملآ حياة الناس ولكنها أيضا تتفاوت حسب المدركات العقلية والسياقات التقليدية التي تصادر حركة العقل لصالح الموروث حتى وأن كان خطأ ” هذا ماوجدنا عليه أبائنا ” ومن أمثلة مصادرة ” المقدس ” ماصرحت به ألاية القرأنية المباركة ” قال ربي أهانن ” ؟
فنلاحظ أن الله الذي كرم بني أدم وأعطى كل شيئ خلقه ثم هدى ” وكرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر ” ” وما من دابة في ألارض ألا على الله رزقها ” لكن عندما تنشب الفتنة ويضيق ألانسان ذرعا بنفسه وبمن حوله ويصل الى طريق مسدود نتيجة تخبطه العشوائي الذي يوصله الى الخطأ القاتل : ” قال ربي أهانن ” .
ومثلما أن الله تعالى لايهين أحدا من عباده قبل ألاختبار وألامتحان ” ليبلوكم أيكم أحسن عملا ” فأن رسل الله وأتباعهم من عباد الله الصالحين كذلك لايهينون أحدا من الناس ” فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لآنفضوا من حولك ” .
نعم هناك أخطاء يقع بها بعض الصالحين من المؤمنين ولاتخرجهم عن خط ألاستقامة وألاعتدال وقد سماها القرأن الكريم ” ألا اللمم ” وهو الذنب الصغير .
وعلى ضوء هذه المعرفة يجري التفاهم وتمضي السجالات والحوارت فتخرج بنتائج أيجابية , وبعكسها يكون ألاحتقان وينمو سوء الظن فيقع ألاختلاف وتحل الفرقة ؟
والتقية من المفاهيم التي أصابها عسر الفهم لدى البعض فأنكروها وهي الداخلة في تكوينهم السلوكي ومنحاهم العقلي والنفسي بحيث لايمكن لآحد من الناس مهما كان معتقده من خلال حزمة المعتقدات الشائعة بين البشر بغض النظر عن الصحيح من غير الصحيح منها , فأن الجميع يتعاطى مع التقية كحاجة عقلية ونفسية يستعين بها على رسم موقفه ضمن مبررات تكتسب منطقا وجيها حتى وأن لم يسمها بالتقية , ولم يحظ بمن يصنفها له ضمن فهرسة قاموس اللغة والمصطلحات وهي من مهمة ” المعصوم ” في التأسيس المعرفي , ثم من مهمة العلماء والمحققين والباحثين في أستمرار المنهج المعرفي .
واليوم نجد التقية عمليا تمارس في بعض التظاهرات ألاحتجاجية في العراق , مثلما نجد المزاجية شديدة الحضور في بعض المواقف الرأسية في تلك التظاهرات , ودراستنا لهذه الظواهر تأتي في سياق ألاهتمام بتلك التظاهرات لآنها تمثل مايحدث في البيت العراقي خصوصا وأن الذي يحدث أصبح ملكا للآعلام وذاكرة الناس في كل مكان .
وهذا ألاهتمام يأخذ بعين ألاعتبار دراسة وأستقراء مايصدر من مواقف ويقرأ خلفية الحدث على ضوء مايقوم به المحتجون من هتافات , أناشيد , خطب , شعر , بيانات , شعارات .
أما التقية فلقد تجلت في تغيير بعض ألاحتجاجات هتافاتها وشعاراتها التي أطلقتها في بداية التظاهر وألاحتجاج وأخذت تعلن هتافات وشعارات أقل حدة من ألاولى وأبعد ظاهرا عن الطائفية , ولكن السياق التحليلي للموقف في تجلياته ألاولى هو مايتعهده علم النفس الذي يقول : أن مباشرة أي عمل أو موقف يختزن ماتراكم من تجارب وأنفعالات تكون هي المتصدرة لحركة اللسان ومطلع البيان على طريقة ” تكلموا تعرفوا والمرء مخبوء تحت لسانه ” ومايطرأ لاحقا من تصحيح لتلك الكلمات والبيانات يندرج تحت قاعدة التبريرات التي وصفتها ألاية القرأنية ” بل ألانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيرة ” فخشية المسؤولين عن تلك ألاحتجاجات من أتهامهم بالدعوة الى الطائفية مالوا الى غيرها من الهتافات والشعارات وهذا الميل وذلك التراجع مفيد ويجب أن ينظر اليه بأيجابية ولكنه يحتاج الى خطوات عملية تلغي صورة ألاتهام بالطائفية من خلال التحرك صوب مرجعيات الطرف ألاخر مع الحرص على المشاركة بصلاة الوحدة في كل المساجد التي يتواجد فيها أتباع المدارس الفقهية المعروفة بعناوينها المذهبية , والخلود الى حالة من الهدوء وتوحيد المطالب وضغط تفرعاتها , فأن التفرع والتكاثر في المطالب يضيع الهدف المنشود من تحققها , وحتى لايقال أن مواقف المسؤولين عن ألاحتجاجات وقعت في ممارسة التقية أضطرا را مما جعل مايصدر عنها ليس تقية وأنما هو مناورة مؤقتة تختزن في باطنها ماظهر منها في بداية ألاحتجاج وهو الذي سيظل ماثلا معها عندما تدخل في تفاصيل الحوارات التي لم تبدأ بعد بداية جادة وهذا مما يجعل من يعتقد بأن التغيير الذي طرأ على شعارات التظاهر وألاحتجاج لم يكن حقيقيا وأنما كان تكتيكا حالما يعاود الظهور مما يلغي كل رهانات التفاهم التي تفضي الى مصالحة وطنية حقيقية .
وتحليلنا هذا يعتمد على خلفيات مايجري لدى ألاطراف المشتركة في التظاهر وألاحتجاج والذين أختصروا مطالبهم سرا بالموافقة من قبل المالكي على أقامة أقليم للسنة وهذا يصب في المخطط التوراتي ألامريكي لتقسيم العراق والمنطقة وكل ماقيل من شعارات ومطالب تندرج تحت مفهوم التقية بصورته المغلوطة , ثم على مستوى من ينتمي للعشائر أو من يعمل في مجالس المحافظات ومجلس النواب ومن يعمل في الوزارات والمحافظات ومن ينتمي الى طيف ألاحزاب المشاركة في الحكم والتي لم تشارك في الحكومة , فالمواقع عبر ألانترنيت أصبحت منطلقات تكشف هوية من يمثلها ولم تعد هناك طلاسم وألغاز يحار بها الناس كما كان في الماضي , والمطلع على هذه ومايجري فيها ومايكتب يكشف بوضوح صحة رأي من يقول : أن التغيير الذي طرأ على بعض الشعارات ألاحتجاجية هو ينحو منحى التقية مجازا وأن لم يجسد التقية مفهوما عمليا لآن بعض القائمين في ألاحتجاجات لايؤمنون بالتقية , وبعضهم لايعرفها وأن كان يمارسها كحالة أنسانية تستحضرها الهرمونات , ومدركات العقل البشري .
أما المزاجية فيمكن أستخلاصها دون بخس حق من الممارسين لها وذلك من خلال المواقف هذا المفصل الحساس لايعني أننا ندافع عن الحكومة ونحن من كتبنا عن أخطائها ولكن هناك فرق بين بيان أخطاء الحكومة بعيدا عن العامل الشخصي والخارجي , وبين ألغاء الوطن وتمزيق هويته , فألاول واجب وطني وأخلاقي على الكاتب , والثاني خيانة للوطن وخروج عن خط ألاخلاق لمن يتورط به .
فألاحتجاجات منذ اللحظة ألاولى لم تسلم من ألاتهام بالمزاجية عندما حددت أنطلاقتها بناء على أعتقال مجموعة بناء على توصية قضائية وبعيدا عن صحتها وعدم صحتها ألا أن وقوعها بأنتسابات قضائية كان يقتضي التريث وأتباع السبل والوسائل القانونية لجلاء الموقف , ثم أن ربطه بقضية شخص أدين قضائيا وتمرد على الهوية الوطنية من خلال أستعانته بمن هو متورط بعمل عدائي ضد العراق , تجعل المزاجية غير بعيدة عن مثل تلك المقارنة التي تشوبها كثير من الشوائب .
والمزاجية أختصرت مواقف المتحدثين بأسم بعض العشائر وبمن قيل عنه أنه متحدث بأسم المحتجين عندما زارهم وفد من عشائر الوسط والجنوب طالبين منهم أن ينتدبوا عنهم من يمثلهم لقابلوا رئيس الحكومة الذي أستجاب للمطالب المشروعة , فكان جواب من يمثل بعض العشائر ومن يتحدث بأسم المحتجين : أننا لانثق بالمالكي , وعليه أن يستقيل ؟
وهذا المنطق مهما يخفي ورائه من أسباب ألا أنه محكوم بالمزاجية لآنه لم ينظر الى أفق أوسع يفتح الطريق أمام من يريد دفع الفتنة , وحتى لو كان رئيس الحكومة غير صادق في طلبه كما يدعي من أطلق ذلك الموقف ألا أنه كان ألاحرى بألاخوة الذين أطلقوا تلك التصريحات أن يتقبلوا فكرة اللقاء ليلقوا الحجة على رئيس الحكومة عندما لايفي بمطالبهم؟
ويجعلوا من الشعب حكما وعندها سيكون للرأي العام موقفا تستعين به ألاحتجاجات لصالح الوحدة الوطنية وأجراء ألاصلاحات التي هي مطلب عراقي مجمع عليه لكن بشرط أستبعاد الطائفية والمزاجية من لغة الحوار , فالمزاجي غير حواري والطائفي متقاطع مع الجميع
والتظاهرات عند الطرف ألاخر لايمكن تفهمها من قبل المزاجي مثلما لايمكن تقبلها من قبل الطائفي , وهؤلاء جميعا يخشى من وجودهما في الجانبين , لذلك على الطرفين تحييد وأبعاد هؤلاء عن ساحتيهما حتى يتمكن العقلاء من تقريب وجهات النظر التي سوف لن تكون مستحيلة بل هي في دائرة ألامكان وكان الله في عون ألانسان .
رئيس مركز الدراسات وألابحاث الوطنية
[email protected]