حين ذاب الجليد، بعد عصور غلف فيها جوانب الارض، بقيت منه طبقة صلبة مستقرة في صحراء وبادية يسكنها العرب، ساح عن رملها، ولكنه لم يذب عن عقول ساكنيها، فتحرك جميع البشر منتشيا بالخلاص من الجمود، وكل منهم وجد طريقه الى المجد، الا العرب وجمالهم ونوقهم العصافير، مازالوا مقيدين الى كرة الثلج في العقول والارواح والقلوب، ولم تكن حركاتهم التي دوت بين حين واخر، سوى اهتزازات موضعية سرعان ما استقرت لتعود الى نقطة الجمود، ولكن الثلج مهما كان جليدا وجلدا ، لايمكنه الصمود اليوم، فها هي معاول الحداثة والعلم والتكنولوجيا، تهدم قدر ما تستطيع، وهاهو الاثير ينقل من هنا وهناك وخزات كالابر الصينية، لتهشيمه وايقاظ ما تحته، بعد ان كانت الزلازل والبراكين قد حركت الرمال المغبرة وغيرت من ملامح الصحراء الشيء الكثير، الزلزال الاكبر الذي حدث بفعل القنابل الاميريكية عام 2003، والذي مازلنا الى اليوم نعاني من اشعاعاته اليورانيومية، كان قد مهد الطريق لبراكين اخرى اطلقت حممها في تونس الخضراء ليصل دخانها الاسود وغبارها الثقيل باب المندب ودمشق واماكن اخرى من بادية العرب، وراح الرعاة وادلاء الصحارى الهائمون بسحر الثريا يتسائلون قبل غيرهم، عن تلك القيود التي تثقل حركتهم وعن تلك الازاحات التي غيرت معالم طرقهم، فبدأ السؤال .. بدأ السؤال اذن، لكننا في صحراء مرملة شاسعة وما من اجابة تفك الاشتباك بين الحقيقة والسراب…
كان الرعاة البدو، وادلاء الصحراء، قد رفضوا منذ وقت ليس بالقصير استخدام تقنية الجي بي اس، فتلك حرام بشرعهم، فالاثير على حد قولهم مليء بالشياطين التي ما ان وجدت طريقها الى القلوب استقرت فيها ونخرت تجاويفها، وهو على كل حال بدعة وكل بدعة ضلالة، وهم خائفون من ان يضلوا طريقهم الى الله، وكان نبي الصحراء قد امرهم ان يهتدوا بالثريا، لان الله هناك ينظر من الاعالي، مفترشا عرشا بعرض السماوات، يراقب كل حركة ويعد ويحصي كل همسة ولفتة، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وفهم الاعراب من هذا ان لاحاجة للتقنيات الجديدة وشيطنتها، فان شاء الله هدانا الى الطريق، وان شاء أضلنا وما نحن الا ضعاف رجّاف عبيد ، سلكنا طريق الركوع والسجود، وان نظرنا ذات غفلة الى اعلى فما ننطق الا بماشاء الله، وماشاء فعل وهو قادر وعلى كل شيءقدير،
كان نبي الصحراء قد تكلم في عشر، كما هو حال سابقيه، غير ان من ورثه، جعل لكل عُشرٍ اعشارا، فلم يعد هؤلاء الرعاة والادلاء متيقنين مما قال وقيل، الا كلمة قِيلت ولم تُقَل، فهموا منها وتيقنوا ان طريق الله يمر عبر ساقي امرأة، ومنذ ذلك الحين لم يشغلهم سوى النساء ، فجعلوا لهن سوقا، ولهن مزادا، ولهن شريعة، ولهن فتاوى ومسالك للامتاع والمؤانسة بين متعة ومسيار، وعليها كما نقل عن نبي الصحراء ان تعرض نفسها لمالكها ثلاثا في كل ليلة والا فان مصيرها جهنم، وكان ذات رحلة عبر رمال الاغادير تجمع فيها الاعراب العابرون للصلاة، فسال بدوي اشعث صاحبيه: كيف تعرض نفسها ياهذا؟.. قيل ان تخلع ماتلبس، وان تلتحف بلحافه، وان تلصق جسدها بجسده ثلاثا، فان ابى فلا جناح عليها، حتى جاء بدوي أصم، ليفتي ان هذا ما بقول نبي، وانما تلك هي اسرائيليات وضعت كي نتيه في الواح التفاسير والاحاديث، واني لاشهد لابي تمام حين قال: (فوالله لا أدري أأحلامُ نائمٍ ألمت بنا أم في الركب يوشع(*)..
بدأ السؤال اليوم، وتهتك ستر المحرمات، وهذا البدوي الذي تاه بين الرمال، ناجى ربه مرارا وتكرارا: يا إله يوشع، الم تحبس له الشمس وتوقف القمر، فاحبس ما بصدري، واهطل علي برحمتك، فما انا الا عبد تائه يبغي هدايتك، يالهي الم تر الكواسر تقترب مني، والوحوش تدانيني، والجوع والعطش قد اخذ ماخذه مني، ارسل إلي اشارة عبر الثريا او عبر جناحي طائر تائه مثلي، او سحابة عابرة في سمائي الموحشة، يا إله يوشع اوقف هذا الظلام، واملا الصحراء بالنور واهدني لصراط مستقيم، مرارا وتكرارا، كان هذا البدوي يقف في الصحراء وحيدا والى جانبه ناقته، يردد هذا الدعاء واثقا تارة، وباكيا مرتجفا مرعوبا اخرى، ولكنه كان كمن يتحدث في مقبرة، فلا الاموات تسمع ما يقول ولا من يناجيه بسامعه، وماعادت الثريا تتلألأ في السماء، وحوله تجمعت جيوش الوحوش الكواسر، وطوقته كثبان الرمال المتحركة فعرف جيدا بفعل خبرته وخبرة اجداده، انه آيل للضياع وان ما يقوم به ليس سوى دوران حول نقطة واحدة يغادرها في الصباح ويعود اليها مساءا..
هذا البدوي الضائع ، رغم كل مآلاته، ورغم كل ضياعه ومعاناته ومآسيه، لم تشغل باله سوى صورة امرأة شقراء، كان يعلقها على رقبة ناقته الصهباء وكل احلامه كانت اجتياز هذه الصحراء للوصول اليها، كل مبتغاه كان رضى الله وما من طريق الى رضاه الا عبر ساقيها..
*نبي الله يوشع الذي ورد في الروايات التوراتية ان الشمس والقمر وقفتا له وان الله سمع صوته