17 نوفمبر، 2024 4:25 م
Search
Close this search box.

قصة حب مفخخة.. التوافقية الفكرية والمبنى الحكائي

قصة حب مفخخة.. التوافقية الفكرية والمبنى الحكائي

أهم ما ميز المجموعة القصصية ( قصة حب مفخخة )، الصادرة سنة 2018 عن دار سطور، هو وجود نسقين حكائيين متزامنين فيها، يعبران عن وجهتي نظر لكاتبين، يتقاطعان من حيث البناء التكويني والنفسي، ويلتقيان فكريا وفق رؤية اقتربت بدرجة يمكن أن يقال عنها ( رؤية مشتركة)، إن وجود القاصة حذام يوسف طاهر والقاص محمد عواد الخزاعي في عمل مشترك، حتم عليهما من ان يجدا مقتربات فكرية تنبثق عنها رؤية سردية، تقود إلى ما يمكن أن نطلق عليه في عالم السرد (بالتوافقية)، أي الوصول إلى توافقات في كيفية صياغة ورسم الشخصية القصصية المشتركة بينهما، والعوامل المؤثرة فيها، وطبيعة الأحداث التي تشكل المبنى الحكائي للنصوص، وكيفية وضع خواتيم تعادلية لها.. وهذا يتطلب تنازل كل منهما عن بعض متبنياته وخصوصيته كسارد، ويشتغل مع الآخر ضمن المشتركات وحلقات الالتقاء فقط، حتى تغدوا نصوصهم منسجمة مع نفسها، ولا تعاني من الإرباك أو التناقض.. إن المدرسة التوافقية أو التعادلية، هي منهج أيدلوجي سردي انتهجه بعض كتاب السرد في خمسينيات القرن الماضي، نتيجة المتغيرات السياسية والفكرية والاجتماعية التي حدثت في بعض بلداننا العربية، ومنها مصر حيث يعد توفيق الحكيم رائد هذه المدرسة، والتي حاول من خلالها التأقلم مع الوضع الجديد بعد ثورة 1952 في مصر، هذا التأقلم الذي اضطره للنزول من برجه العاجي والتنصل من نزعته الارستقراطية، التي نشأ عليها وإيجاد طرق سردية تنتهج الوسطية في صياغتها للأحداث، وفق رؤية تعتمد التوافق في صناعة الاحداث، لايوجد فيها غالب أو مغلوب، لمعظم الصراعات التقليدية القائمة آنذاك بين (الرأسمالية والبروليتاريا والمرأة والرجل والإقطاع والفلاحين)، وقد اتضح ذلك جليا في مسرحيتي ( ايزيس والصفقة).. في مجموعة قصة حب مفخخة نجد حضور واضح لسمة التوافقية، في صياغة الرؤى والافكار، وبالأخص في القصص الثلاث المشتركة.
تتألف المجموعة من ثلاث أقسام رئيسية وهي (القصص المشتركة، قصص حذام يوسف طاهر، قصص محمد عواد الخزاعي).

أولا: القصص المشتركة.
1- قصة حب مفخخة: النص يمثل تناص ومقاربة فكرية مع رواية (الدون خي شوت) للروائي الاسباني سيرفانتس، مع اختلاف في طبيعة الأحداث في كلا النصين .. الفتاة الفقيرة التي تصارع الكتل الكونكريتية في محاولة يائسة منها لإزاحتها عن مكانها، لأنها تقف عائقا ماديا ونفسيا بوجه معيشتها وأحلامها.. كانت لغة النص سهلة مرنة، وإيقاع سير الأحداث هادئا، مع طغيان للنزعة التشيخوفية الميالة إلى إظهار المعانات الإنسانية في ذروتها، وجود خال البطلة المقعد وولعه بالتحف بالرغم من فقره وعجزه، اضفى على النص طابعا حميميا ينزع إلى التأصيل الاجتماعي.. هناك إشكالية رافقت النص، وهي كثرة استخدام ضمير الغائب، فقد تكرر بصورة ملفتة للنظر، كما في العبارات الآتية (وهي تعبر الشارع، وهي مبتسمة، وهو يعزف،….) وكذلك تكرار المفردات ذاتها في الجمل المتتالية (تعبر، انتظار، السيارات، الانفجارات، أحلام، كتل،….) هذا التكرار يعد إسهابا يربك سياق النص وانسيابيته، ويعد اثقالا لبراءته.
2- قصة مظلة إسمنتية: تطرق هذا النص إلى علاقة إنسانية جميلة، بين رجل مرور وفتاة انتهت هذه العلاقة بخطوبتهما.. تعد هذه القصة من النصوص القلائل التي انتهت بنهاية سعيدة في المجموعة، استخدم فيها القاصين أسلوبا سرديا تقليديا مباشرا ( بداية وعقدة وحل)، واستعانا بإحدى أنواع العلائق السردية والتي أطلق عليها جيرار جنت ( العلاقة الايجابية النامية )، أي المنتجة.. كان النص خاليا من أي حدث محوري حقيقي، وحلت محله أنماط سببية ساهمت في خلق نهاية تشير إلى نشوء حدث وهو خطوبتهما، وهذا ما أشار إليه الناقد جيرالد برنس بقوله ( الحدث هو وجود سلسلة من الوقائع المتصلة التي تتسم بالدلالة تتلاحق من خلال بداية وعقدة وحل).. حملت خاتمة النص سمة المفاجئة والصدمة، على الرغم من وجود تمهيد لهذه الخاتمة قد سبقها، ولا مبرر لوجوده، وكان الأحرى ترك السياق الحكائي يأخذ مداه حتى يصل إلى ذروته ليفجر المفاجئة ( مثل كل يوم بدا بتنظيم الشارع مع زميل له، وهو يترقب إشارتها بالترحيب، ولكن هذه المرة إشارة فرح وإعلان لقصة حبهم توجت بخاتم خطوبة، ووسط ضحكات وتعليقات صديقاتها، تمر من جانب الشارع وتشير له بالخاتم).
3- قصة واد ابتسامة: تميزت ثيمات النصوص المشتركة الثلاث بوجود المرأة كركيزة أساسية لها، في هذا النص المرأة كانت فتاة مكافحة طيبة تحب الآخرين، تتهم فجأة بشرفها فيقودها هذا الاتهام إلى القتل على يد أهلها وعشيرتها.. شهد إيقاع النص تذبذب تلائم مع طبيعة الأحداث القائمة والمتسارعة فيه، التي خضعت لمتوالية سردية اعتمدت تقنية القفز الزمني ( عمل- اتهامات- حبس – قائمة ممنوعات- تهديد- قتل ) وهذا ما يطلق عليه اصطلاحا ( النسق التتابعي) أي تسير الأحداث ضمن تتابع زمني متسلسل ولا وجود لارتداد زمني فيها وفق النسق التقليدي.

ثانيا : قصص حذام يوسف طاهر

يعد أدب الحرب ردة فعل الإنسانية الأولى اتجاه القتل، والرسومات التي وجدت في كهوف الإنسان البدائي، تمثل أولى تجليات ردة الفعل هذه، ويصنفه بعض النقاد، بأنه عملية جلد للذات تمارسها الشعوب لتسلط الضوء على الماسي والنكبات التي تخلفها الحروب وتداعياتها، للحيلولة دون تكرارها.. ومن الملاحظ أن اغلب نصوص حذام يوسف طاهر، هي جزء من هذا الأدب المهم وسأتناول بعض تلك النصوص:
1- قصة أحلام الرماد: تصوير لزاوية مظلمة ومأساوية من مجزرة سبايكر التي حدثت في صيف 2014 في مدينة تكريت العراقية، حين أقدم الإرهاب على إعدام أكثر من 1700 جدني عراقي اعزل بدم بارد.. النص يمثل مشهد صامت، بطله جندي عاش تلك المحنة التي انتهت بمقتله.. حمل النص مجموعة تساؤلات جدلية طرحها ذلك الجندي، وهو في مسيره إلى حتفه، كان بالإمكان الاستعاضة عنها بسؤال واحد يحمل دلالتها جميعا.. اتصف النص بكونه واقعي ومتزامن لأن أحداثه قريبة من زمن الكتابة، وهذا يكسبه شيء من التفاعل والتعاطف من قبل المتلقي، كونه عاش زمن الحدث وتداعياته. 2- عبث: نص تهكمي يحمل شيء من السخرية والكوميديا السوداء، وضع في إطار حكائي، غلبت عليه صيغة التساؤلات التي حمل بعضها طابع فلسفي، يطرحها على نفسه جندي عراقي هارب من الخدمة العسكرية إبان النظام السابق، وهو يفكر في الانتحار للخلاص من سطوة النظام ومن حياته الاجتماعية البائسة، وهو يعيش محنة محاولة أمه إجباره على الزواج من ابنة عمه، وإلحاح حبيبته عليه بالزواج، ينتهي هذا الصراع الداخلي، بقراره الهرب إلى مناطق الاهوار في جنوب العراق، والعيش هناك بعيدا عن الجميع .. وجود الأسماء في النص أمر غير مجدي، ولا تحمل أي دلالة تخدم النص وقصديته.
3- هلوسات معاون طبي: يبدأ النص بسؤال يطرحه البطل على نفسه القلقة ( مالذي يمكنني تقديمه لهؤلاء ؟)، ثم يلي هذا السؤال عدة أسئلة أخرى، تبين بؤرة التأزم القائمة في النص، حين يقف البطل عاجزا أمام عدد كبير من جرحى الحرب في إحدى الحروب العبثية التي خاضها العراق في تاريخه المعاصر، النص يمثل مشهد اجتزأ من الواقع، لينقل ألينا صورة ذهنية، شكلها البطل للحظة التأزم التي يعيشها، وهذا ما يطلق عليه اصطلاحا ( قص الهذيان)، الذي يتميز بكون أفعاله غير حقيقية، أي غير مادية، وزمن القص فيه افتراضيا.

ثالثاً : قصص محمد عواد الخزاعي
كانت نصوص محمد عواد الخزاعي، تحمل ملامح قص (التشيؤ)، بحسب مصطلح القاصة ناتالي ساروت، وهذا النوع من القص يتميز بارتباط ابطال نصوصه بالأماكن والأشياء المحيطة بهم، حيث تشكل دلالات المكان تأثيرا كبيرا على نفسياتهم وحراكهم الاجتماعي، كما في قصص ( غربة، المومس، عرابيد الهور، أحلام في حقيبة، الدماء تصلي،…)..وساتناول بعض هذه النصوص:

1- قصة المسبحة: لحظة تداعي حر لرجل محبط أضاع مسبحته التي تمثل بقايا ارث أبيه.. ويمكن تعريف التداعي الحر ( ترك البطل يعبر عن نفسه بصيغة موندرامية، دون تكلف ودون الالتزام بأدوات القص، بداية وعقدة وحل).. تخلل هذا التداعي الحر عملية ارتداد للماضي القريب، تستحضر الحدث المحوري للنص، وهو فشله في الاحتفاظ بخطيبته، بعد ان صارحته بأنها تعيش على ذكرى رجل آخر، وتذكره انه أعطاها مسبحة أبيه لتستفتي فيها مستقبل علاقتهم.
2- المومس: قصة قصيرة جدا، مشهد صامت ينقله إلينا سارد خارجي، يصور فيه ليلة من ليالي مومس، تقف عند نافذة غرفتها بانتظار زبائنها.. كان القاص موفقا في نقل المشهد ودلالاته وانزياحاته النفسية، عبر عملية تكثيف، تجلت بوضوح في الخاتمة، التي اختزلت حياة هذه المرأة بكل ماسيها وإخفاقاتها ( انزوت الأرداف وضمرت النهود وحتى أصباغ المكياج أصبحت ثقلا على وجهها المتعب). 3- غربة : سارد ضمني، يحكي تفاصيل رحلته عن مدينته، بسبب الإحباط والهزيمة النفسية التي يعانيهما، يلتقي بمومس تشاركه رحلته إلى المجهول في عربة قطار، يقرران بعد حوار طويل بينهما، ان يعيشا معا.. تميز هذا النص بقدرة القاص على وضع حد ثقافي ومعرفي فاصل بين البطلين، تمثل بالفرق الواضح في مستوى اللغة التي تحدثا بها، أثناء حواراتهما، وهذا أمر يحسب له، كون هذا الأمر يعد مطب سرديا يقع فيه الكثير من الساردين حتى المتمرسين منهم:
– ماذا تقرا؟
– وهل تفهمين ما اقرأ؟
– لا.. ولكنه التطفل لطريق لا ينتهي إلا بعد ساعات.
– أنها رواية اسمها الساعة الخامسة والعشرون.

4- قصة عرابيد الهور: نص ينقلنا الى أجواء الهور لكن برؤية مغايرة عن المألوف ..أي رؤية مغايرة لما تحمله الذاكرة الجمعية لهذه المنطقة الجميلة والغنية بمياهها وخضرتها، فطبيعة الحدث الرئيسي قد حولت هذا المكان الجميل من (اليف) الى مكان ( معادي).. يحكي النص مأساة جندي هارب من الخدمة العسكرية إبان النظام السابق، وهذه الثيمة مقاربة لقصة حذام يوسف (عبث)، يلقى القبض على هذا الجندي ويعدم رميا بالرصاص في منطقة سكناه وهي الهور.. كان العنوان يمثل نصا موازيا للمتن من حيث الدلالة، كون (العربيد) وهو الأفعى، حيوان تميزت به هذه البيئة العذراء، واستحضاره بهذه الطريقة بأن يكون شاهدا وحيدا على مقتل البطل، هي إشارة لتجذر البطل بهذه البيئة، ورمزية مثيولوجية للخلود.. كان مستوى الخطاب فوق مستوى المتكلم، والتي تشير أحداث النص على انه كان رجل ريفي بسيط، لكن اللغة التي تحدث بها، كانت متقدمة نخبوية، تحمل طابع خطابي ثوري واعي، لا يتلائم مع الوجه العام لمثل هكذا شخصية، وكان بالإمكان خفض مستوى اللغة قليلا، أو الإشارة إلى أن هذا النوع من اللغة العالية المستوى، كانت تعبر عن لسان حال الموقف الذي يمر به البطل.. علما أن القاص قام بالتنويه في بداية النص، الى ان البطل هو من كان يتحدث:
(أوهم عقله انه يحلم يهذي يعوي ألما يصرخ بالهور هل قئتني؟). ثم نجده في نهاية النص، قد أشار إلى أن هذه اللغة المتقدمة كانت تمثل تعبيرا لغويا للقاص نفسه، عن المشهد المأساوي الذي عاشه البطل:
( هذا ماقالته عيناه الغائرتان بعذابات فجره الدامي).

الخاتمة:

أود الإشارة، إلى أن المجموعة القصصية (قصة حب مفخخة)، للقاصين.. حذام يوسف طاهر، و محمد عواد الخزاعي، قد تضمنت ثلاثة انواع من الشخصيات القصصية المختلفة:
1- شخصيات القصص الثلاث المشتركة: كانت حالمة، عاشقة، مسالمة، متفائلة، بالرغم من أن اغلبها كان يعيش حياة بائسة صعبة، واًلت مصائرها إلى نهايات مأساوية.. ( شخصيات رومانطيقية). 2- شخصيات قصص حذام يوسف طاهر: مشاكسة، جدلية، تعمد على إثارة بؤر التأزم، عبر طرحها للأسئلة المتكررة ( شخصيات ديناميكية قلقة).
3- شخصيات قصص محمد عواد الخزاعي: مثقفة.. لكنها مهزومة نفسيا، ومحبطة، تعاني استلابا قسيرا، وغربة روحية ( شخصيات مؤدلجة مبدئية).

أحدث المقالات