لا ندري ان كنّا نشهد الأيام العشر الأواخر من مسار الازمة السورية ، واننا سنفطر على مدفع الرئيس بوتين معلنا انتهاء الصراع في سوريا ، ام ان المتغيرات السريعة في المواقع والأدوار تجعل ما نشاهده سرابا في رمضاء يباب. وفي كلا الحالتين ، المنتصر الرئيسي بوتين والمنهزم الرئيسي هو الشعب السوري ، من وقف منه مع الرئيس الاسد أو من وقف ضدّه أو من فضّل الهروب مرغما من حريق الصراع ولهيبه لكي يحتمي في اغتراب قاتل لاجئا أو مشردا أو ميتا في خارج وطنه أو في داخله .
لم ينتصر بوتين في سوريا فقط ، وأنما انتصر اقليميا ودوليا ، فهو ، في الوقت الذي تشن فيه الولايات المتحدة والغرب حربا دبلوماسية من العيار الثقيل ضدّه ، وحده الذي يملك الآن قرار سوريا . وسيجتمع بالرئيسين اردوغان وروحاني في انقره في الرابع من هذا الشهر لكي يقول لهما ان اللمسات الاخيرة لأكبر واخطر المعارك قد بدأت . انها معركة انهاء الصراع في سوريا والتهيؤ للحل السياسي ولمرحلة البناء واعادة الاعمار ، بيد ان بصره يتوجه صوب الغرب قائلا له حربكم الدبلوماسية مجرد زوبعة في فنجان ، ولاشيء يمكنكم فعله في الشرق الاوسط ، وفي جوار روسيا وفي شرق آسيا البعيد ، من دوني .
وهؤلاء الثلاثة ومعهم ترامب يتقاسمون المعزوفة الجنائزية للرمال المتحركة السورية، الاّ ان قائدها وضابط ايقاعها هو الرئيس بوتين . سوريا المفيدة تحت سيطرة الرئيس الأسد مدعوما من الرئيس بوتين والمرشد خامنئي بقوته الضاربة حزب الله ، ولكن لاصوت فيها يعلو على صوت الأقتحامي بوتين . الشمال السوري غرب الفرات تحت نفوذ القوات التركية وتابعه الجيش السوري الحر في منطقة عفرين ، اضافة الى الحركات الاسلامية المتطرفة التي حاربت النظام في سوريا طوال السنوات الماضية ، والتي اجبرت على ترك المناطق التي كانت تسيطر عيها بموجب اتفاقات ما كانت لتتم من دون بوتين ، لتستقر في محافظة ادلب ، والقرار في هذه المنطقة بيد الرئيس أردوغان. في الشمال الشرقي ابتداءا من منبج غرب الفرات ولغاية الألتقاء بالحدود العراقية بما فيها الرقّة والقامشلي والحسكة وقسم من دير الزور ، تسيطر قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردي المدعومة من قبل الولايات المتحدة ، والقرار هنا للرئيس ترامب.
سيجتمع الثلاثة في أنقره تحت ضغط الاستحاقات الامنية ، في وقت تتسارع فيه الاحداث . ايران تعتبر معركتها في سوريا دفاعا عن امنها الوطني ، ولولا وجودها هناك لكانت تقاتل الان داخل العمق الايراني ، على اقل تقدير هذا ما يقوله مسؤولون كبار في ايران ، وهي تترقب الآن ما في شباكها من صيد في ظل تفاقم ازمتها بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الايراني متخوفة من ان يكون صيدها هواءا في شبك. تركيا تعتبر اي وجود لكيان كردي على حدودها الجنوبية يشكل خطرا وجوديا لها . روسيا تعزز انتصاراتها ، فبفضل وجودها المستميت في سوريا ، عززت موقفها الدولي كقوّة كبرى منذ بدأ بوتين هذا الشوط بعد استعادة شبه جزيرة القرم وتدخله الجريئ في اوكرانيا . الغرب بدأ يستعيد وعيه ويسترجع ذاكرته بعد انتصارات بوتين في سوريا . انّه هاتريك بوتين في الملعب الدولي .
في ظل هذه الجغرافية المتحركة وغير المستقرة يفاجئنا الرئيس الامريكي ترامب باعلان نيّته في سحب قوّاته من سوريا في القريب العاجل ليزيد الأمور التباسا وتعقيدا ، وليأتي الرئيس الفرنسي ليضيف للمشهد غموضا سرياليا باندفاعه في دعم قوات سوريا الديمقراطية ، ولا احد يمكن ان يتكهن ، أو دعونا نقول يصدّق ، كيف يمكن للسيد ايمانويل ماكرون ان يمضي في اندفاعه اذا ما قررت الولايات المتحدة الانسحاب فعلا من سوريا !!
الرئيس اردوغان وحده في موقف متردد لا يحسد عليه . مطلوب منه أولا اقناع الرئيسين بوتين وروحاني بأهمّية اندفاع قوّاته نحو منبج كما كان الحال في عفرين ، وسوف يتفهمان موقفه اذا ما تعهد بعودة هذه المناطق في النهاية الى الرئيس السوري . اذن هو في هذه الحالة كمن يقاتل نيابة عن الرئيس الأسد . وهو ، اي اردوغان ، لا يغفل ان كلا من روسيا وايران يطمح الى خلخلة حلف الناتو بصراع الكبار فيه من خلال وضع تركيا في مواجهة مع الولايات المتحدة . هذا فضلا عن ان كل من روسيا وايران له مصلحة في نهاية المطاف في اضعاف الكورد ، فكلا البلدين فيه جاليات كردية كبيرة .عندما ينظر الرئيس اردوغان الى المشهد بابعاده الثلاثة ومن زواياه المختلفة يجد نفسه واقعا بين خيارين احلاهما مرّ ، فهو لا يريد مواجهة الولايات المتحدة وجها لوجه ، ولا يستطيع القبول بوجود كيان كردي في جنوب بلاده ، وكلا الأمرين لايمكن هضمه . لاشكّ في ان الرئيس اردوغان يصلّي من اجل ان يسحب ترامب قواته من سوريا كما تحدّث بذلك ، ولكن من ذا الذي يضمن مزاج الرئيس ترامب ، فلربما يخرج غدا بتصريح اخر يقلب الموازين في جغرافية أقلّ ما يقال فيها ان أستقرارها قلق.
عود على بدء ، هل نشهد الآن العشر الأواخر من مسار الأزمة السورية !! !