17 نوفمبر، 2024 7:21 م
Search
Close this search box.

علم البلاغة : المعاني ـ البيان ـ البديع

علم البلاغة : المعاني ـ البيان ـ البديع

1 – تطور علم البديع إلى البلاغة
الحلقة الأولى
1 – مقدمة تاريخية :
عندما اضمحلت اللغة اليمانية بما فيها من شعر ونثر ، وقامت مقامها اللغة الحجازية بآدابها بعد سيطرة قريش بفصاحتها – ولا أقول سلامة لغتها -على ملتقى تجار العرب وساداتهم وصفوة رجالاتهم ، ولما نزل القرآن الكريم سحَرَهم إعجازه ، وعذوبة ألفاظه ، وما أن طلّ العصر الأموي حتى تعصبوا لأحزابه ، وأصبح الشعراء لسان أحواله ، وتقدم العصر العباسي بعد الفتوحات يهلهل بأعجامه من فرس وأهل هند وسند وأحباش وروم وأغريق وصقالبة ، ويغنّي بجواريه وقيناته ، وتـُترجم له اللغات الأجنبية ، لسان أعرق الأقوام السابقة ،لإثرائه بالفلسفة والطب والحكمة والحكايات والعلوم والفنون ، عقبى هذا الأختلاط ، تفنن الشعراء بأساليبهم ومعانيهم وصورهم وإيحاءاتهم ، وحاولوا زخرفة كلامهم – كعصرهم المزخرف – ذاتياً دون الاعتماد على منهجية الشعوب الأخرى بادئاً ، وإنما أفكار لشتات ، وأساليب لحياة وحياة ، أقول زخرفة العارف بعمق المعاني ، وجذور الإبداع اللغوي العربي سلامة وفصاحة ، وممن أبدع بالمجال الأخير حتى بدايات العصر العباسي الثاني ، بشار بن برد ، وابراهيم بن هرثمة ، وكلثوم بن عمرو العتابي ، ومسلم بن الوليد ، وأبي نؤاس ، وأبي العتاهية ، ودعبل الخزاعي ، و أبي تمام ، والبحتري ، وابن الرومي ، وابن المعتز .

الدكتور طه حسين (1889 م – 1973 م) يقول في مقالة باللغة الفرنسية قبل نيف وثمانين عاماً : إن كتاب (البديع ) لابن المعتز ( قتل وخلع من الخلافة في أول ليلته 297 هـ) العربي العريق به أثر بيّن للقسم الأول من الفصل الثالث لكتاب (خطابة) أرسطو الهيلينية ، فيما يخصّ بحثه في العبارة (1) .
ومن سخرية الأقدار أن ابن المعتز استشهد بأشعار شعراء العرب الذين تقدموه ، وغلبهم أبو تمام إلى ذهنه وعقله ، ولم ينسَ البحتري ودعبلاً ، ولم يكن يعرف الهيلينية ، ولا يناهضها
، وإنما وضع كتابه ليقيم الحجة على أن القدماء قبل المحدثين عرفوا البديع (البلاغة في عصرنا) ، فالدافع عربي بحت ، ولعل أول من نقل كتاب (خطابة ) أرسطو إلى العربية بشكل يعتمد عليه نوعما ، معاصره إسحاق بن حنين المتوفي بعده بسنتين أو ثلاث (298 ، 299 هـ) ،قد ظهر بعد تأليفه لـ (البديع) ، إذ انتهى منه معتزنا (274 هـ) ، والظاهرمن أوائل مؤلفاته، وأنه ألفه قبل أن يلم بثقافة أخرى سوى الثقافة العربية (2) ، إذ لم يبلغ عمره سبعة وعشرين عاماً ، وقد تأثرصاحب (البديع) بـ (قواعد شعر) أستاذه أبي العباس ثعلب (ت 291 هـ ) ، وأخذ من نثر (بيان وتبيين) الجاحظ، الذي توفي (255 هـ ) ، وصاحبنا لم يتجاوز ثماني سنوات من عمره ، ونقل عن (حماسة) أبي تمام ، وقد توفي 228 هـ ) قبل ولادته بعشرين عاماً تقريباً – نعم تأثر معاصره قدامة بن جعفر (ت 337 هـ / 948 م) كثيراً في أحد فصول نقده بـ (خطابة) أرسطو .

مهما يكن دحض رأي الدكتور طه عن مظاهر التأثر كل من الدكتور شوقي ضيف قائلاً : لم يبين أي دليل على هذا التأثر (3) ، ويؤكد ما ذهبنا إليه الدكتور محمد عابد الجابري موجزاً : إذا كانت الفلسفة هي معجزة اليونان فإن علوم العربية معجزة العرب (4) ، والحق معه ، القرآن الكريم قبل الترجمة والمترجمين ، والروم واليونانيين ، معجزة الأولين والآخرين ” وقد رفض د. على الجندي : أن يكون الكتـاب متأثراً بالبيان اليوناني ( لو أن الجناس كان منقولاً عن اليونان، لعثرنا على أثر هذا النقل، ولو في مثال واحد على الأقل ) ، وأكـد ذلك قول د. حمادي حمود : أن الكتاب كان على أسس عربية صريحة وصحيحة في محاولة لإرساء علم البلاغة والنقد، وبهذا كان أول كتاب يتناول الأدب تناولاً فنياً. ” (5)
ومن الجدير ذكره أن الدكتور محمود الربداوي في (متخيره) ينوّه قد تناول أرسطو في (خطابته ) أربعة فنون بديعية ، وهي الآستعارة والجناس (يسميها أرسطو المشابهة ) والطباق ، ثم ردّ الإعجاز على الصدور ، أما الفن الخامس المذهب الكلامي ، أخذه عن الجاحظ، فهو فن عربي الأصل ، ويواصل الدكتور الربداوي قوله ” لا ينقص ابن المعتز فضله ، ذلك لأنه لم يأخذ عن أرسطو إلا التوجيه العام …” (6) .

2 – لقب البديع : تاريخاً ..لغةً ..اصطلاحاً:

لقب البديع ليس لقبًا مستحدثًا في عهد ابن المعتز – كما ذكرنا – ولكنه اسم لهذه الألوان الساحرة في الأسلوب، ولهذا الترف البياني في الأداة، من تشبيه واستعارة وتجنيس وتطبيق وسوى ذلك، سماه به مسلم بن الوليد ، وكان يُعرف قبل ذلك بـ (اللطيف) (7) ، ودرج على هذا اللقب من بعده من العلماء والأدباء ، هذا من حيث المصطلح البلاغي ، أمّا من الناحية اللغوية ، فأحيلك إلى (لسان) ابن منظور، فنقتطف ما يلائم موضوعنا راوياً :
المبتدع الذي يأتي أمرا على شبه لم يكن ابتدأه إياه . وفلان بدع في هذا الأمر أي أول لم يسبقه أحد . ويقال : ما هو مني ببدع وبديع ، قال الأحوص :
فخرت فانتمت فقلت : انظريني *** ليس جهل أتيته ببديع
وأبدع وابتدع وتبدع : أتى ببدعة ، قال الله – تعالى : ورهبانية ابتدعوها ، و قال رؤبة :
إن كنت لله التقي الأطوعا *** فليس وجه الحق أن تبدعا

والبديع من أسماء الله ، وقد ورد مرتين في القرآن الكريم بتمام لفظه :

” بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأْرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ” ( البقرة 117) ، وقوله تعالى : ” بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأْرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” (الأنعام 101) .

والحق الكلام البديع ليس بجناسه وطباقه وتوريته ومقابلته ، يطوّعه الشاعر كيفما شاء للتماهي ، والتلاعب بالألفاظ لإبراز الذات ، ومقدرته اللغوية ، ولا كما قال الجواهري ” وخلّها حرّة تأتي بما تلدُ ” تماماً ، بمعنى أنَّ الشعر بمعانيه وصوره وتشكيله ، و للذات الشاعرة الملهمة النصيب الأكبر ، وللعقل الذكي النبه إتمام الآخر ، دون تعرج ملفت ، ولا نشاز مُفتـِّت ، لنرى ما ذهب إليه النقاد قديماً ، يقول قدامة بن جعفر عنه : ” وأكثر الشعراء المصيبين من القدماء والمحدثين قد غزوا هذا المغزى ورموا هذا المرمى، وإنما يحسن إذا اتفق له في البيت موضع يليق به، فإنه ليس في كل موضع يحسن، ولا على كل حال يصلح، ولا هو أيضاً إذا تواتر واتصل في الأبيات كلها بمحمود، فإن ذلك إذا كان، دل على تعمل وأبان عن تكلف …” (8) ، والآمدي في (موازنته) بين الطائيين – أبي تمام وتلميذه البحتري – فصل الأمر ، بادئاً بمسلم ، وأطال مع أبي تمام راوياً : …أن أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد، وأن أبا تمام تبعه فسلك في البديع مذهبه فتحير فيه،كأنهم يريدون إسرافه في طلب الطباق والتجنيس والاستعارات، وإسرافه في التماس هذه الأبواب وتوشيح شعره بها، حتى صار كثيرٌ مما أتى به من المعاني لا يعرف ولا يعلم غرضه فيها إلا مع الكد والفكر وطول التأمل، ومنه ما لا يعرف معناه إلا بالظن والحدس، ولو كان أخذ عفو هذه الأشياء ولم يوغل فيها، ولم يجاذب الألفاظ والمعاني مجاذبة ويقتسرها مكارهة، وتناول ما يسمح به خاطره وهو بجمامه غير متعب ولا مكدود…. لظننته كان يتقدم عند أهل العلم بالشعر أكثر الشعراء المتأخرين، وكان قليله حينئذٍ يقوم مقام كثير غيره؛ لما فيه من لطيف المعاني ومستغرب الألفاظ…” (9) .

3 – الاستطراد :
وعلينا بالمسلم ، فمن بديعه القديم ،الاستطراد – والآن هوأيضاً من أنواع علم البديع ،الذي هو فرع من علم البلاغة المتضمن علوم البيان والمعاني والبديع، والأستطراد : هو خروج المرسل أو المتكلم عن الموضوع الذي هو فيه إلى غرض آخر لسبب ما ، ثم يرجع لإتمام الكلام الأول ، قال العسكريّ : ” وهو أن يأخذ المتكلّم في معنى، فبينا يمرُّ فيه يأخذ في معنى آخر، وقد جعل الأوّل سببًا إليه.” (10)، وقال القزويني : ” وهو الانتقال من معنى إلى آخر متّصل به، لم يقصد بذكر الأوّل التوصلُ إلى ذكر الثاني …وقد يكون الثاني هو المقصود، فيذكر الأوّل قبله ليتوصّل إليه ” (11) ، وإليك استطراد مسلم بن الوليد ، وخروجه من الغزل إلى مدح يحيى بن جعفر :
أَجِدَّكِ ما تدرين أن ربّ ليلةٍ *** كأنّ دجاها من قرونك تُنْشرُ
لهوت بها حتّى تجلّت بغُرَّة *** كغُرّة يحيى حيــــن يُذكر جعفرُ
ولا ريب أنّ الاستطراد كان معروفاً منذ العصر الجاهلي ، فورد في شعر السموأل وزهير ، وفي صدر الإسلام جاء على لسان كعب ، وغيرهم من الشعراء ، ولكن الصريع أكثر منه وقصده بمهارة فنية ، ملفته في حسن التخلص من غرض إلى آخر ، بمعنى نقل الاستطراد من العفوية الجزلة إلى الصنعة السلسة ، وإليك :
إذا شئتما أن تسقياني مدامةً ***** فلا تقتلاها، كــــل ميتٍ محرمُ
خلطنا دماً من كرمةٍ بدمائنا ***** فأثر فــــي الألوان منا الدم الدمُ
ويقظى ثنيت النوم فيها بسكرةٍ ** لصهباء صرعاها من السكر نُوّمُ
فمن لامني في اللهو أو لام في الندى**أبا حسنٍ زيد الندى فهو ألومُ
دقق في البيت الأول كيف استعار القتل للمزاج ، والدم للكرمة، وأردفه بالدم الحقيقي ، فتولد الجناس التام ، ولا يفوت القارئ الكريم الجناس في البيت الثالث ، حتى ختم البيت الرابع بالاستطراد ، والانتقال من وصف الخمرة إلى المدح ، وإن كان لا تُخفى عليك خافية ، تستطيع من مفردات صدر البيت الأخير أن تكرر مع الشاعر قافيته ( ألومُ) ، وهذا هو (الإرصاد) الذي سماه علي بن هارون المنجم (تسهيمًا) ، وسماه ابن وكيع (المطمع ) .
ما كانت هذه الصنعة اللفظية ، والبديعية ، وإن شئت البلاغية في العصور التي سبقت المسلم الصريع .

4 – تقسيم وترصبع:

وبعد أنْ جاء بشار بالبحور القصيرة الراقصة ، وجد مسلم فيها فسحة للولوج إلى إبدعات مشابهة لها ، أو مدخلاً لتوليد تقسيمات مسجعة راقصة من البحور الطويلة ، معتمداً على محسنات بديعية كالترصيع :
كأنه قمرٌ أو ضيغمٌ عصر*** أو حيّةٌ ذكر أو عارضٌ هطلُ
وقد أخذ المتنبي هذا المعنى ، والأسلوب ، فقال :
يا بدر يا بحر يا غمامة يا *** ليث الثرى يا حمام يا رجل (12)
وقال مسلم مرصعاً :
يورى بزندكَ أو يسعى بجدكَ *** أويفرى بحدك.. كل غير محدودِ
وسار أبو تمام على هذا النهج من التصنيع البديعي ، وأجاد قائلاً :
تجلى به رشدي، وأثرت به يدي، *** وفاض به ثمدي، وأروى به زندي
وقال أيضاً وأحسن ما شاء – على حد تعبير ابن رشيق – :
تدبير معتصم، بالله منتقم، *** لله مرتقب، في الله مرتغب (13)
فذلكة الأقوال : مسلم بن الوليد جدّد المحسنات البديعية مجازاً وإيقاعاً بدقة متناهية ، لا يجعلك تشعر بصناعته للطفه ، ونباهته ، وكان أكثر سعياً وجدّاً من أستاذه بشار ، وأطلق البديع على اللطيف ، وسلم الراية لأبي تمام الذي كان تلميذاً نجيباً ماهراً.

5 – ابن المعتز وكتاب (البديع ) وما تضمن:

ابن المعتز (ت 296 هـ / 908 م) ، وضع كتابه (البديع) ، وصدّره بقوله:
“…وقد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدناه في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ليعلم أن بشارا ومسلما وأبا نواس ومن تقيلهم وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم فأعرب عنه ودل عليه ” (14) ، ثم عدد أبوابه الخمسة المتعارف عليها في العصر الذي سبقه ، أي عصر روّاده ، وهي :
الاستعارة، والمطابقة، والتجنيس ، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها، والمذهب الكلامي، الذي أخده عن الجاحظ ( ت 255 هـ) ، وقد عرّف وقسّم ومثـّل لكل باب ، ولكنه خلط بين العلوم حسب مفهومنا المعاصر للبلاغة ، فذكربـ (بديعه) التشبيه والاستعارة وهما من علم البيان العربي، وجاء بالكناية ، وأراد معناها اللغوي، لا المعنى الاصطلاحي الضيق في يومنا ، فبديعه الماضي ، بلاغتنا الحاضرة ببيانها الرفيع من استعارة ومجاز وتشبيه و كنايه … إضافة لبديعه من (بديع ) معاصر تضمن الجناس والطباق والمقابلة…، وتقلب هذا الاسم (البديع) إلى ( نقد الشعر) في عرف قدامة بن جعفر ( ت 337 هـ ) ، وإلى (صنعتي الشعر والنثر) في (كتاب الصناعتين ) لأبي هلال العسكري ( ت 395 هـ) ، وأطلق عليه ابن وهب في كتابه (البرهان في وجوه البيان) ، وضياء الدين ابن الأثير ( ت 637 هـ) في كتابه ( المثل السائر …) اسم البيان ، كما يذكر بدوي طبانة في (علم بيانه) (15 ) ، لأنهم يرون البيان هو المعبر عن فصيح الكلام ، والحديث الشريف ” إنّ من البيان لسحرا” قد يشفع لهم.
وأردف عبد الله ابن المعتز بعد الأبواب الخمسة ثلاثة عشر فناً من فنون البلاغة ، دعاها محاسن الكلام وهي : (الالتفات، الاعتراض، الرجوع، حسن الخروج، تأكيد المدح بما يشبه الذم، تجاهل العارف ، الهزل الذي يراد به الجد، حسن التضمين، التعريض والكناية، الإفراط في الصفة، حسن التشبيه، لزوم ما لا يلزم، حسن الابتداء.) (16) ، وأضاف إليها قدامة بن جعفر ثلاثة عشر نوعا هي : التصريع، المقابلة ، المساواة، الإيغال، الاستطراف، صحة التقسيم، صحة التفسير، المبالغة -وهي غير اللغو عند قدامة- الإشارة ” الإيجاز”، التمثيل، التتميم، الترصيع – وهو أن تكون أجزاء البيت مسجوعة – التوشيح .
فوصل البديع في عهد قدامة (ت 337 هـ ) إلى ثلاثين نوعا، ثم تتبع الناس هذه الألوان، فجمع أبو هلال منها في الصناعتين سبعة وثلاثين نوعًا، منها 29 نوعً ذكرها أبو هلال في باب أنواع البديع، ومنها التشبيه الذي ذكره في باب مستقل غير الباب الذي عقده للبديع وإن كان لا يشير إلى أنه من البديع، فيكون الجميع ثلاثين نوعا يضاف إليها سبعة من زياداته ؛ وهي: التشطير، المحاورة، الاستشهاد، المضاعفة “التورية”، التطريز، التلطف، المشتق .
ثم جمع ابن رشيق ( ت 463 هـ) من ألوان البديع مثلما جمع أبو هلال وأضاف إليها في (عمدته) خمسة وستين بابًا في بحث الشعر، ) ، و الحقيقة تلاهما شرف الدين الشاشي فبلغ بها أكثر من ذلك، ثم تكلم فيها ابن أبي الأصبع المصري ( م 654 هـ” فأوصلها إلى التسعين في كتابه الجيد “تحرير التحبير في علم البديع”، ثم صنف ابن منقذ كتابه “التفريع في البديع” جمع فيه خمسة وتسعين نوعا، ثم جاء صفي الدين الحلي ( م750هـ) فجمع 140 نوعًا في بديعيته في مدح الرسول التي سماها “الكافية البديعية” وشرحها بنفسه ثم حذا الناس حذوه ونظموا كثيرًا من البديعيات. وأما السكاكي فذكر تسعة وعشرين نوعًا من البديع، وقد ذكر صاحب التلخيص من البديع المعنوي ثلاثين نوعا ومن اللفظي سبعة، وقد أَلَمَّ بتطور البديع في اختصار كثير من الباحثين .(17)
وقد ظل مفهوم البديع مفهوما شاملا متسعا لجميع فنون البلاغة المختلفة، شأنه شأن مفهوم البيان، حتى نهاية القرن الخامس الهجري، فصاحبنا ابن المعتز وقدامة بن جعفر وأبو هلال العسكري والباقلاني وابن رشيق كلهم يستعملون مصطلح البديع للدلالة في الغالب على فنون البلاغة .
ولكن من الجدير ذكره أنّ عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـ) ، قد حدد علمي ( المعاني ) و( البيان) في ( دلائل الإعجاز ) و ( أسرار بلاغته) ، وأردفه الزمخشري ( ت 538 هـ ) ، فميز بين العلمين بوضوح في ( كشافه عن حقائق التنزيل …) ، ومن هنا يعدّهما الدكتور شوقي ضيف في ( تطور وتاريخ بلاغته) ، أنهما نهاية عصر الإبداع البلاغي ، وبعدهما جاء عصر الجمود البلاغي . (18) ، والحق أن الجرجاني أبدع أيما إبداع في ( أسرار بلاغته) ، و( بدائل الإعجاز) ، فوصل القمة فيهما !
ولم تتضح معالم البديع كما نعرفه اليوم أي كمصطلح يدل على مجموعة من الظواهر البلاغية المحددة والتى تفيد تحسين الكلام، إلا مع الخطيب القزويني الذي صاغ تعريفا لعلم البديع في كتاب الإيضاح بناء على ما سطره السكاكي في مفتاح العلوم حينما فرغ من علمي المعاني والبيان فأورد ما سماه (وجوه تحسين الكلام” التي ترجع إلى محسنات لفظية وأخرى معنوية، يقول الخطيب القزويني: ” علم البديع وهو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة، وهذه الوجوه ضربان : ضرب يرجع إلى المعنى ، وضرب يرجع إلى اللفظ. “(19)
إذاً علم البديع بتسميته السابقة لا بشموليته الواسعة ، أصبح فرعاً من علم البلاغة المعاصرالذي يعني بحسن البيان و قوة تأثيره – كما في المعجم الوسيط – ، و تعني الوصول الى المعنى بكلام بليغ ، و يجب فيها مطابقة و مشابهة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته ،ومقتضى الحال هو أن يكون الكلام مطابقاً للحالة أو الموقف التي يتحدث فيه . قال الحطيئة :
تحنّنْ عليّ هداك المليك *** فان لكل مقام ٍ مقالا
وقال الجاحظ في ( حيوانه) ، والعسكري في ( صناعتيه) : إن خير الكلام ما كان مطابقاً لمقتضى الحال ، و إن لكل مقام ٍ مقالا .(20)
وقديماً عرف البلاغة كلّ من العسكري والرماني والآمدي والقزويني والسكاكي ،و الجرجاني والزمخشري وغيرهم ، ونأخذ قول أبي هلال العسكري : ” البلاغة كلّ ما تبلغ به المعنى قلب السامع ، فتمكنه في نفسه ، كتمكنه في نفسك ، مع صورة مقبوله ، ومعرض حسن .” (21)
وينقل الثعالبي في ( منتحله) أبيات البحتري ( ت 284 هـ) عن البلاغة :

في نظامٍ من البلاغة مـ ***ا شكَّ امرؤٌ أنه نظام فريدِ
ومعانٍ لو فصلتها القوافي **هجَّنت شعر جروَلٍ ولبيدِ
حزن مستعمل الكلام اختياراً *** وتجنبنَ ظلمة التعقيدِ
وركبنَ اللفظ القريب فأدركـ ***نَ به غاية المراد البعيدِ (22)

ويذهب الشيخ بهاء الدين العاملي ( ت 1031 هـ ) في ( أسرار بلاغته) إلى البلاغة تختص بالمعاني، والفصاحة تختص بالألفاظ ، والإيجاز يختص بهما ثم يورد تعريفا لعبد الحميد الكاتب – كاتب مروان الحمار ، آخر خلفاء الأمويين – وقوله ( البلاغة ما فهمته العامة ، ورضيته الخاصة) ، وقول صحار العبدي – خطيب مفوه ، ت 40 هـ – ،إنّ البلاغة : (أنْ لا تُبطيء ، ولا تخطيء) ، أمّا ابن المقفع ، فيراها هي : (التي إذا سمعها الجاهل ، ظنّ أنه يحسن مثلها ، وسميت بلاغة لأن المتكلم يبلغ بها الكثير من الغرض في القليل من المعاني)
والفصاحة حدّها : التخلص من التعقيد والتنافر ، وضعف التأليف ، لأنه يقال : تفظ فصيح ، ومعنى بليغ) .
كما ترى كل التعاريف التي أوردها الشيخ البهائي قديمة ، لا تنسجم وتطور علم البلاغة ،
بل يولي اهتماما خاصاً بالإيجاز ، وما هو إلا جزء من فرع لعلم المعاني ، فيقول عنه : ( والإيجاز هو تقليل اللفظ وتكثير المعنى ، وهو على قسمين ، إيجاز قصر ، وإيجاز حذف .) (23)
و يتضمن (علم البلاغة) في عصرنا الحاضر:

1 – (علم المعاني) : وهو العلم بما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى الذي يريده المتكلم كي يفهمه السامع بلا خلل وانحراف .
2 – (علم البيان) : وهو العلم بما يحترز به عن التعقيد المعنوي، كي لا يكون الكلام غير واضح الدلالة على المعنى المراد .
3 – ( علم البديع) وهو العلم بجهات تحسين الكلام.
ونتوقف في هذه الحلقة عند هذا الحد ّالممتد ، وإنّ غداً لناظره قريبُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع ترجمة هذه المقالة في مقدمة نقد النثر لقادمة بن جعفر تح الدكتور طه حسين وعبد الحميد العبادي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر (1940) .
(2) (البديع) : ابن المعتز – تقديم هاني الطنبور – ص 57 – 58 – الفصل الثالث .
(3) ( البلاغة : تطور وتاريخ ) : د . شوقي ضيف – ص 70 – دار المعارف – 1965 م – القاهرة .
(4) (تكوين العقل العربي ) : د . محمد عابد الجابري – ص 80 – 2002 م – ط 8 – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت .
(5) (البديع ) : ابن المعتز – الموسوعة الحرة .
http://ar.wikipedia.org/wiki/
(التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره للقرن السادس) : حمادي حمادي – منشورات الجامعة التونسية – تونس، الطبعة الأولى، 1982م .
(6) (المتخير من كتب النقد العربي): د . محمود الربداوي- ص 130 – ط 1 – 1981 م – مؤسسة الرسالة – بيروت .
(7) (البديع في البديع ) : ابن المعتز ص – 1 / 19 – 1 / 51 – دار الجيل – ط1 – 1990 م .
– عن معاهد التنصيص ( 2 / 10)
(8 ) ( نقد الشعر ) : قدامة بن جعفر – 1 / 6 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(9) ( الموازنة ….) : الآمدي – 1 /33 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(11) (كتاب الصناعتين) : أبو هلال العسكري – ا / 121 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(12) (المنصف للسارق والمسروق منه) : ابن وكيع التنيسي – 1 / 110 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(13) ( العمدة …) : ابن رشيق – 1 / 119 – الوراق – الموسوعة الشاملة .

(14) البديع في البديع : ابن المعتز – 1/ 1 – الوراق – الموسوعة الشاملة . وراجع الفن ومذاهبه في الشعر العربي : د. شوقي ضيف – ص 179 – ط 11 – دار المعارف .
(15 ) البيان العربي : د. بدوي طبانة د.بدوي طبانه – ط 2 1377 هـ / 1958 م – مكتبة الأنجلو المصرية – مصر.
(16) البديع في البديع : عبد الله ابن المعتز – ج 1 ص 22 – م. س . .
(17) ج 1 ص 45 م . ن . وراجع : علوم البلاغة البيان ، المعاني، البديع : أحمد بن مصطفى المراغي المتوفي 1371 هـ ص 381 – المكتبة الشاملة .
(18) البلاغة تطور وتاريخ : شوقي ضيف – ط 9 – دار المعارف – القاهرة .
(19) الإيضاح في علوم البلاغة : جلال الدين أبو عبدالله محمد بن سعدالدين بن عمر القزويني – ص 317 – دار إحياء العلوم – ط 4 1998م – بيروت .
(20) ينظر للجاحظ ( البيان ج1 ص 93 ) ، (الحيوان ج 3 ص 369 ) ، وراجع لأبي هلال العسكري ( كتاب الصناعتين ص 21 ، 27).
(21 ) كتاب الصناعتين : أبو الهلال العسكري – 1 / 4 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(22) المنتحل : أبو منصور الثعالبي الثعالبي – 1 / 1 -الباب الأول في الخط والكتابة والبلاغة نظماً – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(23) أسرار البلاغة : بهاء الدين العاملي – تحقيق د. محمود التونجي – ص 19 ، 23 – دمشق – بلا .

أحدث المقالات