* اود اعلام القارئ بداية ، الى ان المادة كتب عام 1984 ، لذا ارجو مراعاة ظرفها الزماني في قراءة افكارها واطروحاتها ، والتحليلات والاستنتاجات التي خرجت بها .. ولاهمية الافكار الواردة فيها وعمق فائدتها في الاستفادة منها في كتابة تاريخ جزء من منطقة مازالت في فورة مضطربة من امرها ، ارتأيت ترجمتها ، اعماماً للفائدة ـــ المترجم
في كانون الثاني / 1979 ، اطاحت ثورة شعبية ، وخلال اقل من سنة من بدايتها ، بنظام الشاه محمد رضا بهلوي ، ملك ملوك الآريين . وبأختصار ، بعد ان تم نفي اية الله الخميني في سنة 1964 ، من قبل الشاه ، فأنه عاد الى طهران وأسس الجمهورية الاسلامية في ايران . وربما كانت هذه الاحداث واحدة من اكثر الاحداث العرضية أثارة في الربع الرابع من القرن العشرين . حيث انها أثرت ليس فقط على حياة الـ (36) مليون ايرانياً ، وانما أثرت ايضاً على السياسيين الأقليميين والدوليين .
وكانت الولايات المتحدة قد تأثرت بالثورة الايرانية اكثر من أي بلد آخر . فعلى المستوى السياسي كان قد اطيح بحليف موثوق وقوي جداً . وبعد مرور اقل من سنة على طرد الشاه ، كانت العلاقات الايرانية ـــ الامريكية قد تجهمت ، وتم احتلال السفارة الامريكية في طهران من قبل مجموعة من الطلاب الايرانيين ، وكان اكثر من خمسين امريكياً قد احتجزوا كرهائن . كذلك فأن زوال الشاه كانت له نتائج اقتصادية خطيرة بالنسبة للولايات المتحدة . فعلى مدى خمس وعشرين سنة تقريباً كانت ايران واحدة من المستوردين الرئيسيين للبضائع والخدمات الامريكية . ومنذ سنة 1955 ، الى سنة 1978 ، بلغت كلفت المبيعات العسكرية التي جرت مناقشتها بين طهران وواشنطن ما قيمته (21) مليون دولار . وقد شمل هذا المبلغ شراء بعض المعدات العسكرية المتطورة جداً من قبل حكومة الشاه . وقد صدرت الولايات المتحدة ايضاً كميات ضخمة من السلع الاستهلاكية والصناعية الى ايران . وتشمل الحبوب والرز والمواد الصيدلانية والسيارات وغيرها من المواد . وفي اواخر سنة 1977 ، وصفت وزارة التجارة في الولايات المتحدة فرص العمل التجاري في ايران بهذه العبارات : ان النمو الاقتصادي السريع قد خلق مناخاً تجارياً يتميز بالاتساع والمنافسة الشديدة ، والذي يمكن ان يستمر لسنوات عديدة قادمة . وقد احتل المجهزون في الولايات المتحدة موقع الصدارة في السوق الايرانية.. مع استمرار الفرص الممتازة جداً لبيع السلع والخدمات الرئيسية من الولايات المتحدة الى ايران .
وكانت ايران في زمن الشاه مصدراً رئيسياً للنفط الى العالم الغربي . ورغم ان الولايات المتحدة كانت تستلم نسبة 5.5% فقط من استهلاكها من النفط من ايران ، فان حلفاء واشنطن كانوا يستلمون جزءاً اكثر اهمية من احتياجاتهم من النفط من ايران . فعلى سبيل المثال ، فأن كلاً من اليابان والمانيا الغربية ( السابقة ) تستورد 17.6% و 13% من استهلاكها من النفط من ايران على التعاقب . في حين كان اعتماد العالم الغربي على النفط الايراني جوهرياً ومتميزاً بحد ذاته .
كان هناك بعداً آخر للعلاقات الايرانية ــ الامريكية ، مايزال قائماً . فبمرور السنين كان الشاه قد اصبح زعيماً قاتل من اجل تطوير منظمة الاقطار المصدرة للنفط (اوبك) . حيث كان يمثل القوة المعتدلة التي يمكن لواشنطن ان تعتمد عليها في استقرار اسعار نفط منظمة (اوبك) .
وعلى الرغم من العلاقات السياسية والاقتصادية المتسمة بالاتساع بين طهران وواشنطن في زمن الشاه ، فأن الولايات المتحدة لم تكن قد تهيأت للثورة الايرانية التي اسقطت نظام الشاه . ووفقاً للمعلومات المتيسرة جميعاً ، فأن الاطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي في ايران في وقت مبكر من سنة 1979 ، قد اوقعت ادارة كارتر في مباغتة تامة ، وقبل سنة من رحيل الشاه بالضبط ، كان كارتر قد اشار الى ايران انها :- جزيرة من الاستقرار في واحدة من اكثر المناطق اضطراباً في العالم .
وحتى بعد ان بدأ الأضطراب وقبل اشهر قلائل تماماً من طرد الشاه ، كانت هناك دراسة لوكالة الاستخبارات المركزية قد قررت ان ايران لم تكن في حالة ثورة ولا حتى في حالة اعداد للثورة . وقد نصح هذا التقرير السري للغاية الذي تم انجازه في شهر اب / 1978 ، البيت الابيض كما يلي :- ان اولئك الذين يمثلون المعارضة في ايران سواء كانوا ممن يستعملون العنف او ممن لا يستعملونه ، ليست لديهم القدرة لأن يكونوا اكثر من مشاغبين .. وهناك حالة من عدم الارتياح من ناحية سيطرة الشاه على العملية السياسية ، الا ان هذا الامر لا يهدد الحكومة .
وقد قال الادميرال ستانسفيلد تيرنر مدير وكالة الاستخبارات المركزية في شباط سنة 1979 :- الا ان الشيء الذي لم يتنبأ به الامريكان هو ان شخصاً منفرداً ، هو رجل دين عمره (78) سنة والذي كان في المنفى لمدة خمسة عشر عاماً ، يمكن ان يكون عاملاً مساعداً على جمع كل هذه القوات سوية ، مما جعلنا نواجه بركاناً ضخماً وثورة وطنية فعلية .
وتكشف دراسة تحاليل الاخبار المتنوعة ، ظاهرة مهمة جداً ، وهي :- ان الفشل في التنبؤ بالموقف الايراني قد تجاوز ادارة كارتر ، ليس فقط الآن ، وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية ، وقد وقعتا تحت تأثير المباغتة ، ولكن لأن الذين وقعوا تحت تأثير المباغتة ، كانوا ايضاً من رجال الكونغرس الأمريكي والجامعيين، والصحفيين ، ورجال الاعمال لفترة تزيد على العشر سنوات ، فقد كانت ايران تعد واحدة من اكثر الحكومات استقراراً في الشرق الاوسط . وكان هذا قد انعكس في قيام الامريكان ببيع ما قيمته بلايين الدولارات من المعدات العسكرية المتطورة جداً الى ايران وانتقال اعداد كبيرة من المؤسسات المالية في بيروت الى طهران بعد اندلاع الحرب الاهلية اللبنانية في سنة 1975 .
كيف يمكن للمرء ان يفسر المواقف الرسمية للولايات المتحدة تجاه السياسيين الايرانيين ، ومباغتة امريكا من خلال تعمق المشاعر المعادية للشاه والتقاطها لأنفاسها في ايران ؟
الحقيقة ان الكثيرين من الاشخاص في الولايات المتحدة بما فيهم وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية قد قدروا امكانية الشاه بأكثر من حقيقتها ، واعتبروا ان قدرته على مواجهة تحدي المعارضة ليست قدرة طارئة وانما حقيقية .
ومن المؤكد ان ذلك لم يكن سببه النقص في الامكانية المتعلقة ببيانات الاستخبارات . فقد كانت السفارة الامريكية في طهران خلال سنوات السبعينات قد زودت بمجموعة ذات خبرة عالية من موظفي الخدمة الخارجية ، وتشمل الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية ــ ريتشارد هيلمز ــ الذي عمل سفيراً لامريكا في ايران لسنوات عديدة .
وبالاضافة الى ذلك ، فقد كان الطلاب الايرانيون على مدى يزيد على العشر سنوات في اوربا والولايات المتحدة يستخدمون انواع الاساليب لتنبيه العالم الخارجي الى الموقف السياسي الايراني . وبالتالي فأن وجود معارضة واسعة الانتشار لنظام الشاه كان ينبغي ان لا تكون غير متوقعة كلياً .
نحن نرفض التفسير المفرط في التبسيط لسياسة الولايات المتحدة وفق منطق ــ فشل الاستخبارات ــ وكما اشار احد تقارير الكونغرس الى ان مثل هذه الاتهامات تخفي عن اعيننا اهمية مواقف المستفيد في اية عملية انذارية . ففي حالة ايران نجد ان الركود الطويل الامد في مواقف الولايات المتحدة نحو امتناع الشاه عن جمع المعلومات الاستخبارية قد ادى الى تضاؤل رغبة صانعي السياسة في تحليل موقف الشاه ، والى صم آذان صانعي السياسة عن سماع الأنذار الضمني المتيسر من خلال المعلومات الاستخبارية الراهنة .
ان افتراضنا ، هو فشل سياسة الولايات المتحدة في ايران يمكن ان يرجع سببه الى آراء الامريكان المتعلقة بأقطار العالم الثالث عموماً ، والى وسائل واعراف جهاز السياسة الخارجية الامريكية .
وبأختصار فأن الفشل لم يكن حدثاً طارئاً ، فقد كان امر لا مناص منه ، حيث تكمن جذوره في اساس السياسة الخارجية للولايات المتحدة .
*علاقات الولايات المتحدة مع ايران خلال حكم الشاه
توضح اعادة دراسة علاقات الولايات المتحدة مع ايران تحت حكم الشاه وجود المواقف التي عزوناها الى مؤسسة صنع قرار السياسة الخارجية الامريكية ، كما تؤكد كيف ان مثل هذه الملاحظات تسهم في عدم وجود المرونة في ادارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة . وسنقوم في هذا المبحث من الكتاب بدراسة خلفية التورط الامريكي مع حكومة الشاهنشاه محمد رضا بهلوي ، ونتفحص السبب الذي من اجله نظر المسؤولين الامريكان الى حكومته على انها اقوى من معارضيها حتى في مواجهة الدلائل المتعاظمة على الاتجاه المعاكس لذلك ، وفي النهاية ، نقَيم كفاية الايضاحات التي سبق لنا بيانها بشأن فشل سياسة الولايات المتحدة في ايران .
لقد تحركت الولايات المتحدة بسرعة بعد الحرب العالمية الثانية لكي تحل محل النفوذ البريطاني في ايران من اجل ان تعزز الهدفين التوأمين في احتواء النفوذ السوفييتي في المنطقة والحصول على حصة للشركات الامريكية في انتاج النفط الايراني .
وفي سنة 1947 ، كان قد تم توقيع اتفاقية للمساعدات العسكرية لايران . وفي سنة 1950 ، بدأ تقديم كمية متواضعة من المساعدات الاقتصادية لها .
وفي سنة 1953 ، شاركت الولايات المتحدة في انقلاب عسكري لصالح الشاه ضد رئيس الوزراء محمد مصدق، القائد الوطني الشعبي ، وكان قد تم التخطيط لهذا الانقلاب من قبل آلن دالاس مدير المخابرات المركزية ، وجون فوستر دالاس وزير الخارجية ، وتم تنفيذها من قبل كيرمت روزفلت مقابل ثمن مقداره مليون دولار ، حيث ادت الى الاطاحة بحكومة مصدق .
لقد نسي الكثير من الامريكان التورط الامريكي الواسع في ايران في اوائل الخمسينات ونتائجه على السياسيين الايرانيين ، الا انه بالنسبة للكثير من الايرانيين ، فأن هذا التدخل قد ادى الى تدمير الحركة الوطنية من خلال تركيز السلطة في البلاط الملكي ، وازدياد النفوذ الامريكي في المجتمع الايراني . والواقع وكما جادل البعض ، فان تورط الولايات المتحدة في انقلاب سنة 1953 ، في طهران ، كان يشكل خلفية الثورة الايرانية في سنة 1978 ، والاساس المنطقي الذي تم الاستناد اليه لتبرير احتلال السفارة الامريكية في تشرين الثاني سنة 1979 . وفي هذا السياق فان القاء نظرة اكثر قرباً على التورط الامريكي في السياسة الايرانية في اوائل الخمسينات يعد امراً حاسماً .
ففي وقت مبكر من سنة 1951 ، كان البرلمان الايراني قد اقر مشروع قانون تأميم صناعة النفط الايراني ، وكان المشروع قد تمت المصادقة عليه من قبل الشاه الذي لم يكن له حق النقض . وبعد ذلك مباشرة اصبح مصمم مشروع قانون التأميم الدكتور محمد مصدق رئيساً للوزراء ، وبذلك صار مسؤولا عن تنفيذ سياسة التأميم.
كان الهدف الرئيس لمشروع قانون التأميم هو شركة النفط الانكلوايرانية التي تتولى تشغيل النفط الايراني في الجزء الجنوبي من البلد . وكان المالك الرئيسي لأسهم هذه الشركة هو الحكومة البريطانية ، التي تسيطر على (52%) من اسهمها . اما الاسهم الـ (48%) المتبقية فكانت تمتلكها شركات القطاع الخاص البريطانية . ووفقاً لبعض المحللين : فان شركة النفط الانكلوايرانية قد تصرفت بشكل يدعو الى تأميمها وذلك من خلال رفضها النظر في طلبات الايرانيين الحصول على نسبة من مبالع الضريبة تتناسب مع تلك التي تحصل عليها الحكومات الاخرى المنتجة للنفط في الشرق الاوسط في ذلك الوقت .
وفي بادئ الامر لم يأخذ البريطانيون موضوع التأميم على محمل الجد : حيث اعتقدوا أن ايران كانت خاضعة لشركة النفط الانكلوايرانية . وقد شعر الكثيرون ان تشغيل صناعة النفط الايرانية كان خارج نطاق ادراك بلد بدائي مثل ايران ، الى درجة ان الايرانيين سيعودون الى الشركة متوسلين يطلبون منها المساعدة بعد وقت قصير .
وعلى الرغم من ان الايرانيين قد عانوا من صعوبة تشغيل صناعتهم النفطية دون وجود البريطانيين ، الا انهم لم يعودوا اليهم يلتمسون العون . كما انهم كانوا يعانون من الصعوبات الاقتصادية ، ولكن الدافع الى التأميم بسبب الاعتبارات الاقتصادية كان جزئياً فقط . وبالنسبة للكثيرين من الايرانيين فان التأميم كان يعني ضمناً بداية استقلالهم السياسي . وكما بين الشاه في قوله اثناء مقابلة معه بعد مرور خمس وعشرين سنة تقريباً :- كنا نسمع ان شركة النفط كانت تصنع الدمى ، اذ ليس على الشعب الا أن يضرب قدميه بقوة دليل الطاعة لاوامر شركة النفط ، وبذلك فانها اصبحت بنظرنا نوعاً من الوحش المخيف تقريباً ، نوع من الحكومة داخل الحكومة الايرانية .
وبعد اشهر عدة من المباحثات الناجحة بين الحكومة البريطانية ومصدق ، اغلقت شركة النفط الانكلوايرانية اعمالها في ايران . وأوشك انتاج النفط الايراني على التوقف . وقد حاولت ايران تصدير النفط ولكن قلة من المشترين الاجانب كانوا راغبين في مواجهة التهديدات البريطانية ، حيث ان التماس شراء اية كميات من النفط كانوا يعتبرونه أمراً ضاراً بهم .
وفي الاشهر اللاحقة كان انتاج النفط قد انخفض انخفاضاً حاداً ، من (600000) برميل يومياً في سنة 1950 الى اقل من (300000) برميل في سنة 1952 . وكان لهذا الانخفاض في انتاج النفط نتائج قاسية على الاقتصاد الايراني . فقد انخفض الدخل القومي بنسبة (30%) وفقدت الحكومة (60%) من ريع التبادل الخارجي في التجارة .
وتحول مصدق نحو الولايات المتحدة على امل انها ستشتري النفط الايراني او انها قد تقدم المساعدة الاقتصادية الى ايران مما يساعد الحكومة في التغلب على خسارتها لعوائد النفط . وقد كتب مصدق في رسالة الى الرئيس ايزنهاور في شهر مايس سنة 1953 ما يلي :
تأمل الدولة الايرانية انها بمعونة الحكومة الامريكية ستتمكن من أزالة العقبات القائمة في طريق بيع النفط الايراني ، وانه اذا لم تكن الحكومة الامريكية قادرة على تحقيق ازالة مثل هذه العقبات ، فأن بامكانها ان تقدم مساعدة اقتصادية فاعلة لكي تمكن ايران من استغلال مواردها الاخرى ، فهذا البلد يمتلك موارد طبيعية اخرى غير النفط ، وان استغلال هذه الموارد سيعالج الصعوبات الحالية في البلد . وعلى اية حال فأن هذا الامر يعد مستحيلاً دون مساعدة اقتصادية .
وقد مضى شهر واحد قبل ان تخبر الولايات المتحدة ايران انها سوف تساعدها فهي سوف لا تشتري النفط الايراني ولا تقدم المساعدة الاقتصادية ، وكان السبب كما كتب الرئيس آيزنهاور الى مصدق في 29 حزيران 1953 :-
هناك شعور قوي لدى الولايات المتحدة ومتين لدى المواطنين الامريكان المتعاطفين مع ايران الى حد كبير ، والمؤيدين للشعب الايراني ، بأنه ليس من الانصاف بالنسبة لدافعي الضرائب ان تقوم حكومة الولايات المتحدة بمنح اية كمية لها اهميتها من المساعدة الاقتصادية الى ايران بعد الآن مادامت ايران تملك سبيل الحصول على الاموال التي تعود اليها من بيع نفطها ومنتوجاتها النفطية ، اذا ما تم التوصل الى اتفاق مقبول يتعلق بالتعويض والذي بواسطته سيتم استرداد قدر كبير من عملية التسويق على نطاق واسع . وبصورة مماثلة فأن الكثيرين من المواطنين الامريكان سيعارضون بشدة شراء حكومة الولايات المتحدة للنفط الايراني في حالة عدم وجود حل لمشكلة النفط .
وفي حين كان رد آيزنهاور قد أوجز بعض المبررات التي تقف خلف قراره ، فقد كانت هناك اعتبارات اخرى لم يتم التطرق اليها .
ان المنظور الامريكي عن حكومة ايران في هذا الوقت قد عكس الخوف المتنامي لواشنطن من سياسة التوسع السوفيتية . فقد تم الاتفاق في الولايات المتحدة على ان مصدق لم يكن شيوعياً ، ولكن الكثيرين من الموظفين الرسميين رفيعي المستوى في ادارة ايزنهاور شعروا ان اعتماد مصدق على دعم الحزب الشيوعي الايراني (تودة) له سيجعله في النهاية خاضعاً للاتحاد السوفيتي . وقد اعتقد البعض كذلك ان السوفييت كانوا يخططون للهيمنة على المشهد السياسي الايراني من خلال نشر نفس الاساليب التي جرى استخدامها في جيكوسلوفاكيا . وقد تم فرض هذا الاعتقاد حينما عين السوفييت في وقت مبكر سنة 1953 ، أناتولي لورنتيف ــ الرجل الذي كان العقل الموجه لهيمنة الشيوعيين على جيكوسلوفاكيا في سنة 1948 ـــ سفيراً جديداً في طهران .
وبقدر ما يتعلق الامر بالامريكان فان ايران كانت تنزلق ، حيث كان ينظر الى مصدق انه الذريعة لهيمنة الشيوعيين .
كان الرفض الامريكي لمساعدة ايران قد اكد الصعوبات الاقتصادية التي عاناها مصدق ، حيث بدأ يفقد التأييد بين بعض اوساط هذا الائتلاف المحلي المسمى بـ ( الجبهة الوطنية ) . ونيجة لذلك اصبح يخضع بشكل متزايد الى حزب ( تودة ) . وفي يوم 21 تموز نظم الحزب مظاهرة تآييدية لمصدق حيث حضر التجمع الحاشد حوالي (100000) شخصاً ووفقاً لـ آيزنهاور الذي قال : كانت التقارير الواردة تشير الى ان مصدق كان يتحرك اقرب فأقرب نحو الشيوعيين .. وقد ذكر احد التقارير ـــ انه كان يتطلع الى استلام (20) مليون دولاراً من الاتحاد السوفييتي ، الامر الذي سيحافظ على وضعه المالي سليماً للشهرين او الثلاثة اشهر القادمة .
كان قد تم القرار في واشنطن على ان مصدق يجب ان يزاح . حيث اعطي الضوء الاخضر للاستمرار بالعمل على ذلك خلال اجتماع عقد في دائرة وزير الخارجية دالاس في اواخر شهر حزيران . وكان المشاركون في هذا الاجتماع علاوة على الوزير هم : ألن دالاس مدير الاستخبارات المركزية وكيرمت روزفلت احد مسؤولي الاستخبارات المركزية وجارلس ويلسون وزير الدفاع ، ولوي هندرسون السفير الامريكي في ايران وعدد اخر من مسؤولي وزارة الخارجية الاخرين . وقد تقرر ان روزفلت ينبغي ان يرسل الى ايران لكي ينظم انقلاباً ضد مصدق . وقد قدمت وكالة الاستخبارات مبلغ مليون دولار بالعملة الايرانية .
وصل كيرمت روزفلت طهران في شهر تموز ، ثم زار الشاه يوم 1 / آب ، واخبره عن الخطة الامريكية لاسقاط مصدق . فأبتهج الشاه لذلك . ففي السنتين الاخيرتين اصبح الشاه تحت الضغط من اجل التخلي عن اكثر سلطاته . وفي وقت مبكر من سنة 1953 ، على سبيل المثال حاول مصدق ان يدفع مجلس الامة للموافقة على قانون بتنصيبه قائداً اعلى للجيش الايراني ، ليحل محل الشاه ولكن المجلس رفض ذلك . وبالاضافة الى ذلك فقد كانت هناك اشاعات في طهران تقول بأن مصدق كان يخطط للقضاء على الحكومة الامبراطورية في ايران ويحل محلها حكومة ذات نظام جمهوري . وهكذا ، فأن الشاه وجد الخطة الامريكية ما هي الا فرصة ممتازة له للتخلص من عدو قوي جداً .
ووعد روزفلت بمعاونته بصورة تامة : حيث وقع مرسوماً بعزل مصدق واستبداله بالجنرال فضل الله زاهدى . وفي ذات الوقت كان روزفلت قد اجرى اتصالات مع عدة وكلاء من الايرانيين ، ووزع مبلغ (100000) دولار تقريباً على جماعات من رافعي الاثقال وذوي العضلات الاقوياء وقطاع الطرق من الرياضيين .
وفي 19 آب سار عدة مئات من الرجال المنظمين مدفوعين بأموال وكالة الاستخبارات المركزية ومتوجهين في مسيرتهم نحو مسكن مصدق . وعلى امتداد الطريق شاركهم عدة مئات من المتطوعين . حيث اندفعوا عبر بوابة مسكن رئيس الوزراء . وهرب مصدق . وفي وقت متأخر بعد الظهر ، ظهر الجنرال زاهدى الذي كان مختبئاً منذ تعيينه رئيساً للوزراء ، وتولى السيطرة على الحكومة . اما الشاه الذي كان قد ترك البلاد قبل ذلك بأيام قليلة فانه عاد الى طهران . حيث تم احتجاز مصدق ومحاكمته وأدانته بالتمرد ضد الشاه وبعدة انتهاكات دستورية اخرى . وصدر الحكم عليه بالسجن مدة ثلاث سنوات . وبذلك انتهى عصر مصدق .
من الصعب تقييم الدور الذي لعبته وكالة الاستخبارات المركزية في الاطاحة بحكومة مصدق . وقد وصف جون روبنسون بيل كاتب السيرة الشخصية والتحليلة لـ جون فوستر دالاس الاطاحة برئيس الوزراء الايراني انها من ( فعل الله ) . ولكن الكثيرين من الوطنيين الايرانيين لا يؤيدون ذلك . فهم يعتقدون انه لولا تدخل الامريكان لكان تاريخ ايران مختلفاً عما هو عليه . فحتى لو سقطت حكومة مصدق ، فانه من المحتمل ان يتم استبداله بعضو اخر من الجبهة الوطنية ، وان الشاه الذي تخلى عن العرش قد لا يعود الى ايران ابداً .
وبدلاً عن ذلك فان الشاه بدأ بعد الانقلاب بتركيز السلطة في بلاطه ، ليتخلص بذلك من خصومه المحليين ، ثم اصبح بشكل متزايد الحاكم الاوحد في البلاد . حيث قال بارى روبن ما يلي : لعدم وجود سيطرة البرلمان المقيدة ، ورئاسة الوزراء القوية ، فقد اتجهت ايران حالياً نحو دكتاتورية الفرد الواحد التي اعتمد عليها الشاه في الحفاظ على وجوده السياسي تجاه سلبية الفلاحين ونفوذ القوات المسلحة ، والسافاك ـــ المنظمة الحكومية للاستخبارات والامن ـــ ، ومنظمة الشرطة السرية .
تم تأسيس السافاك في سنة 1957 من قبل وكالة الاستخبارات المركزية بتوصية من الشاه . وكان قد تم تنظيمها كجهاز أمني مسؤول عن جمع المعلومات الاستخبارية المحلية والخارجية . ولكنها بمرور السنين تطورت اي السافاك الى جهاز كانت وظيفته الاساسية التعرف على خصوم الشاه والتخلص منهم . وقد تلقى ضباط السافاك تدريبهم المتقدم في واشنطن في اكاديمية الشرطة الدولية (IPA) وفي مدرسة الخدمة الدولية .
وكان عدد ضباط السافاك الذين يتلقون تدريبهم في الولايات المتحدة ، موضع جدال . الا انه وفقاً لاحدى وثائق وزارة الخارجية ، كان هناك 1979 ايرانياً تقريباً جرى تدريبهم في الولايات المتحدة في الفترة الواقعة بين سنة 1963 وسنة 1973 .
ولأجل ان تحقق السافاك اهدافها ، انها لم تتردد في استعمال الوسائل غير القانونية بما في ذلك الاكراه بالتهديد والرشوة والتعذيب والقتل . ومرة اخرى ان هناك ارقاماً متضاربة ، الا ان مصادر مطلعة قدرت ان عدداً يتراوح بين (000ر10و000ر15) شخصاً قد فقدوا حياتهم بأيدي شرطة الشاه بين سنة 1953 أي بين انقلاب سنة 1953 وطرد الشاه في سنة 1979 . ومن الصعب تثبيت اولئك الذي جرى تعذيبهم . ووفقاً لاحد التقديرات فان مالا يقل عن نصف مليون شخص قد تم ضربهم او جلدهم بالسياط او تعذيبهم من قبل السافاك.
وتم وصف صورة بشعة للتعذيب تحت حكم الشاه من قبل الشاعر والروائي الايراني رضا براهيني في مجلة الامة (Nation) في يوم 1 آذار 1980 . حيث كتب براهيني الذي كان هو نفسه قد سجن وعذب من قبل السافاك قائلا : لقد تم تعذيب اطفال بعمر ست سنوات من اجل ان يكشفوا عن هوية ضيوف ابويهم . انني اتحدث عن الرعب الذي رأيته بعيني أنا ، او الذي اخبرت به . كانت النساء تتعرضن للصدمات الكهربائية بواسطة قضبان توضع في مواضع خاصة من اجسامهن . حيث ظلت امرأة تصرخ في هلع في الزنزانة لفترة تزيد على العشر ساعات وهي تردد ـــ لقد جففت القضبان ثديّ اعطوني قدحاً من الحليب لاطعم طفلي ـــ وقد اخبرني احد حراس سجن كومايت ، ان جثة احد الشبان التي كان وزنها لا يزيد عن (60) باوند ، كانت مطروحة في حجرة التعذيب في الطابق الثاني من سجن كومايت . وكان قبل ذلك بلحظات قليلة موجوداً في زنزانتي .
وفي احدى المرات حملت الى غرفة التواليت جسم نصف محروق لاحد السجناء الذين خضعوا لما يحتمل تسميته بـ ـــ التطهير بالنار ـــ وقد كره بعد ذلك رائحة ومنظر الغذاء المحتوي على اللحم ، لانه يذكره براحة لحمه هو . كذلك اني قابلت عاملاً كان ملفوفاً بمادة تعذيب ..
لقد جرت مناقشة اتساع تورط وكالة الاستخبارات المركزية مع السافاك ومعاونتها بالتعذيب وبالانتهاكات الاخرى لحقوق الانسان في ايران ، على نطاق واسع في الولايات المتحدة في السنوات الاخيرة . ففي اواخر سنة 1976 اخبر الفريد اثرتون الذي كان آنذاك مساعداً لوزير الخارجية ، لجنة من الكونغرس انه لا يعتقد بوجود التعذيب في ايران ، على الرغم من انه يقر بوجود معاملة قاسية ، ولكن هناك اخرين لم يتفقوا معه .
كما اخبر جيسي ليف المحلل السياسي السابق في وكالة الاستخبارات المركزية والذي له اطلاع واسع بالشؤون الايرانية ، اخبر مجلة الامة (Nation) في اوائل سنة 1980 بما يلي : ان تصريح أثرتون لسنة 1976كان لا يتصف بالتعقل . لقد كنا مطلعين طبعاً على تعذيب السافاك وكانت معلوماتنا عامة . ونظراً لأن مقري كان في واشنطن فقد كنت اسمع على الدوام قصص الصراع عن تعذيب السافاك من الوكلاء العائدين .. وفي سنة 1972 حينما صدرت الكثير من الاقاويل من منظمة العفو الدولية والمصادر الاخرى بشأن تعذيب السافاك ، اردت ان استقي المعلومات واجمعها لتقديمها في مذكرة الى وكالة الاستخبارات المركزية حول الموضوع . وكنت قد اخبرت بأن لا اعد التقرير . وقد اكد ليف بمزيد من الادلة ان وكالة الاستخبارات المركزية قد نظمت عقد اجتماعات في طهران وفق اساليب تقنية للاستنطاق بشكل واسع .
حظيت ايران في زمن الشاه على علاقات ودية مع الولايات المتحدة . حيث شاركت طهران في حلف بغداد الذي ترعاه الولايات المتحدة وذلك في سنة 1955 كذلك انها وسعت روابطها الاقتصادية والسياسية مع اسرائيل ، وفي سنة 1959 كان هناك اتفاق تنفيذي بين الشاه والرئيس ايزنهاور قد اعطى واشنطن حق التدخل عسكرياً في ايران في حالة وقوع عدوان خارجي عليها .
ورغم ان المساعدات الاقتصادية والعسكرية التي تمنحها الولايات المتحدة الى ايران قد علقت في سنة 1967 بسبب الازدهار النفطي المتزايد في ايران ، فأن الولايات المتحدة واصلت تأمين المساعدة التقنية وبيع المعدات العسكرية الى حكومة الشاه بعد ذلك التاريخ . كذلك فان الولايات المتحدة وحلفائها من الدول المتقدمة بدأت تلعب دوراً مهماً في القطاع غير النفطي من الاقتصاد الايراني . وقد استأصلت تلك الثورة التي يطلق عليها اسم الثورة البيضاء والتي بدأها الشاه في اوائل الستينات ، الكيان الاقطاعي في الزراعة ، واسهمت القطاعات الصناعية الحضرية للاقتصاد الذي اصبحت الشركات متعددة الجنسية منهمكة به بشكل فعال . وعلى سبيل المثال ، في الفترة بين سنة 1966 وسنة 1975 استثمرت الاقطار الغربية المتقدمة ما يقرب من (300) مليون دولاراً في القطاع غير النفطي من الاقتصاد الايراني ، وبحلول سنة 1977 ، كان هناك اكثر من (000ر31) امريكي يعملون في مجالي الصناعة والتجارة الايرانية . كذلك اصبحت ايران سوقاً مهمة للصادرات الغربية ، حيث بلغت نسبتها (55%) من واردات البلد غير النفطية التي ترد من البلدان المتقدمة الثلاثة : المانيا واليابان ، والولايات المتحدة . ومع وجود التدهور في الموازنة التجارية الامريكية في اواخر السبعينات ، فان السوق الايرانية اصبحت متزايدة الاهمية بالنسبة للولايات المتحدة . وقد اشار احد مسؤولي وزارة الخارجية بما يلي : لقد اصبحت السوق الايرانية خطيرة نظراً لأن ايران تستخدم عوائدها النفطية الجديدة من أوربا واليابان للشراء من الولايات المتحدة . حيث انفقت ايران ما يقرب من مليوني دولار على السلع المشتراة من الولايات المتحدة مقابل مليون دولار انفقته الولايات المتحدة على النفط الايراني .
وفي مجال المبيعات العسكرية من الولايات المتحدة الى ايران فان الحد الفاصل الحقيقي كان (عقيدة نكسون)التي تعتمد على القوات العسكرية لحلفاء امريكا في انحاء العالم لاحتواء التوسع الشيوعي . وقد استثنت ادارة نكسون ايران باعتبارها الحليف العسكري الاكثر اهمية بالنسبة لامريكا ، في الخليج العربي حيث تبنت سياسة السماح ببيع الاسلحة المتطورة جداً الى حكومة الشاه بعد سنة 1970 . وحينما تزايدت عوائد النفط الايراني بشكل مثير بعد حظر النفط سنة 1973 أن حجم المشتريات العسكرية الايرانية قد أزداد بشكل حاد ، ففي الفترة بين سنة 1971 و 1977 ، اصدرت ايران اوامرها بشراء المعدات العسكرية من الولايات المتحدة بما مجموعه اكثر من (8ر11) بليون دولار . وقد انعكس تعهد الشاه بالحفاظ على امكانية عسكرية قوية على حقيقة ان نفقات الدفاع قدرت بنسبة (30%) من مجموع النفقات المركزية للحكومة او (17%) من مجمل الانتاج المحلي .
كانت الكوابح الظاهرية بالنسبة للولايات المتحدة من وجود جيش ايراني قوي قد ثبت عملياً في اوائل السبعينات حينما تدخلت القوات الايرانية في سلطنة عمان المجاورة لدعم الحكومة التي تساندها الولايات المتحدة في ذلك البلد في وجه الاضطرابات المحلية . والحقيقة ان حكومة الولايات المتحدة كانت تنظر الى قوات الشاه العسكرية انها بديل للقوات الامريكية في حماية تموين النفط الحيوي للغرب . وقد ادت الفوائد الواضحة للولايات المتحدة من الحفاظ على علاقة عمل وثيقة مع حكومة الشاه بشكل حتمي الى جهد منتظم للتقليل من اهمية التقارير السلبية التي ترد عن ايران ضمن مؤسسة السياسة الخارجية . حيث كتب احد موظفي وزارة الخارجية بعد الثورة ما يلي : ان السفارة ، ووزارة الخارجية والمجموعة العسكرية للولايات المتحدة ، وجماعة الاستخبارات سرعان ما أدركوا انه ليس هناك من احد في البيت الابيض قد اراد حقاً اية معلومات سلبية عن ايران الشاه ، وعن استقرارها او تنامي قوتها العسكرية . ومن الناحية الثانية فأن التقارير الرسمية على مدى سنوات الستينات والسبعينات قد جاءت بصورة متعاقبة لتؤكد الاستقرار الظاهر والرخاء الاقتصادي لأيران .
لقد بدى برنامج ايران للتطور الاقتصادي وفق منطق مقاييس واشنطن ، انه يحقق نتائج متميزة . ورغم هذا المنطق فأنه لم تكن كل الفئات او الاقاليم قد نالت نصيبها من النمو الاقتصادي بالتساوي ، الا انه اكد على ان هدف سلالة بهلوي كان تحقيق المساواة في فوائد التطوير . وكان قد تم تشخيص اتجاه برامج الحكومة بانها تعمل باتجاه نشر فوائد التطوير . وعلى اية حال أن الدراسات الخيرة توضح ان تفاوت الدخل قد توسع في ايران خلال الستينات والسبعينات . ولذلك وفقاً لما قاله (Nikki R. Keddie) رغم ان تفاوت الدخل في ايران فان الدخل قد أزداد ، وكانت هذه الزيادة مثيرة بوجه خاص بعد سنة 1974 ، حينما ارتفعت ايرادات النفط ارتفاعاً شديداً بعد الزيادة الكبيرة في الاسعار .
وقد رافق اتساع التفاوت في الدخل تضخم مالي خطير ، ونقص في الاسكان وزيادة في القمع وتركيز في السلطة . وفي آذار سنة 1975 تم حل الاحزاب السياسية الايرانية وتشكيل حزب جديد باسم ( راستا خيز) . وقد رأس هذا الحزب رئيس الوزراء امير عباس هويدى . وفي سنة 1977 أن التخطيط الاقتصادي الردئ وانخفاض عوائد النفط قد خلق ركوداً اقتصادياً في ايران . وارتفعت البطالة وخاصة بين العمال وغير الماهرين.
ونظراً لزيادة الظروف الاقتصادية سوءاً ، فقد تنامت المعارضة ضد الشاه ، ابتداءً بين الطبقات الفقيرة ثم انتشرت اخر الامر الى جميع شرائح السكان الايرانيين . وقد عزى البعض توقيت الثورة الايرانية الى تأثير سياسة حقوق الانسان التي اتبعها الرئيس كارتر . ووفقاً لهذا المنظور فان حملة كارتر الخاصة بحقوق الانسان التي اعلنت في شهر كانون الاول سنة 1977 ، والتي كان مضمونها ان البلدان المدانة بانتهاك حقوق الانسان ينبغي ان تحرم من الاسلحة والمساعدات الامريكية، قد اعطت الجرأة الى المنشقين الايرانيين للتعبير عن معارضتهم للحكومة علناً . وفي حين نجد ان هذا الجدال قد يكون صحيحاً في جزء منه فأنه ليس هناك شك في ان معارضة الشاه قد تظهر على حين غرة ، مادامت حكومة الشاه تفتقر الى اكثر المقومات جوهرية في الاستقرار وهي الشرعية .
وفي اوائل سنة 1978 كانت هناك مظاهرات شغب كبيرة في ايران ، حيث شملت واحدة في ( قم ) في شهر كانون الثاني ، وواحدة في ( تبريز ) بعدها بأسابيع قلائل ، وقد تضمنت بعض هذه المظاهرات صدامات بين القوات العسكرية والمتظاهرين . ورغم هذه المؤشرات ، على اية حال ، والى وقت متأخر حتى صيف 1978، لم يكن الامريكان يصدقون ان حكومة الشاه كانت معرضة الى أي خطر . ولنتذكر ان تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الذي تم اكماله في شهر آب قد تضمن ان ايران لم تكن في حالة ثورة او حتى في حالة سبق الثورة . وهكذا فانه حتى في الايام الاولى من الانهيار كانت ادارة كارتر تسند حكومة الشاه كما انها رفضت فتح باب الاتصال مع جماعات المعارضة ، التي كانت في هذا الوقت قد التفت حول الخميني . حيث قال الرئيس كارتر :- لا يدور أي شك في ذهني في ان الشاه يستحق اسنادنا المطلق . ذلك ليس لأن الشاه كان حليفاً مخلصاً وموثوقاً للولايات المتحدة لسنوات عديدة حسب ، بل لانه ظل القائد الذي عقدنا عليه أمانا في ان نرى حكومته مستقرة ومصلحة . وقد تم تنظيمها وديمومتها في ايران . يضاف الى ذلك ان الكثيرين من الامريكان بما فيهم مستشار الامن القومي كارتر ، زيغنيو برجنسكي ، قد اعتقدوا ان الشاه ينبغي ان يستعمل قوته العسكرية لقمع الثورة . كذلك كان هناك دليل ما يوحي بأن ادارة كارتر قد درست حتى تدبير انقلاب عسكري ضد الثورة .
وفي وقت متأخر من الانهيار اصبح واضحاً للشاه ان نظامه كان في خطر حقيقي ، ولا املاً منه في انقاذ عرشه دون ان يدرك اتساع المعارضة ضد حكومته ، فانه قد عين رئيساً جديداً للوزراء هو شاهبور بختيار العضو المعتدل في الجبهة الوطنية . وفي يوم 16 كانون الثاني ترك الشاه ايران متوجهاً الى مصر . وبرحيله انتهى عصر البهلوية في ايران .
وقد عاد خميني الى ايران يوم 1 / شباط / 1979 بعد ان قضى تحت حكم الشاه سنوات عديدة في المنفى . وبعد ايام قليلة من عودته عين مهدي بازركان رئيساً فعلياً للوزراء . وبعد صدام خطير بين انصار خميني وقوات بختيار يومي 10 و 11 شباط ، انتقلت السلطة بشكل فاعل الى خميني وبازركان . وتخلى بختيار واعضاء المجلس ( البرلمان الايراني ) عن الحكم . وبذلك بدأ عهد خميني .
ورغم توصية السفارة الامريكية بمعارضة دعوة الشاه الى الولايات المتحدة ، فأن ادارة كارتر قد سمحت له بالدخول في شهر تشرين الاول سنة 1979 . وكان تبرير ذلك ان الشاه كان مريضاً بشكل خطير وانه بحاجة الى علاج طبي على الرغم من ان هذا التبرير ربما كان ذريعة لقبوله . ووفقاً لما قاله الرئيس كارتر فان الشاه: قد أراد المجيء الى الولايات المتحدة باعتبارها المكان الذي يمتلك فيه انصار متحمسين . ومن ضمن هؤلاء الانصار : هنري كيسنجر وديفيد روكفلر وبرجنسكي .
لقد ادت رحلة الشاه الى الولايات المتحدة الى قيام عدة مظاهرات رئيسية ضد الامريكان في انحاء ايران . وفي يوم 4 تشرين الثاني 1979 تم احتلال السفارة الامريكية في طهران بواسطة (3000) تقريباً من الطلاب المقاتلين ، حيث قاموا باحتجاز اكثر من خمسين شخصاً من موظفي السفارة كرهائن . ورغم ان الرهائن قد اطلق سراحهم في وقت مبكر من سنة 1981 ، الاّ ان هذا الحدث قد اعطى مؤشراً على افول عصر الامريكان في ايران ، حيث تم قطع العلاقات الدبلوماسية معها ، كما تم طرد جميع الامريكان من ايران ، وتوقفت التجارة والعلاقات الاقتصادية . حيث اصبحت ايران التي كانت ذات يوم واحداً من اكثر الحلفاء اعتماداً ، مركزاً مناوئاً للساسة الامريكية في المنطقة .
*أخيراً …
بماذا نعلل هذا التحول في موقف الامريكان في ايران ؟ وبماذا نعلل فشل صانعي القرار الامريكان في التنبؤ الصحيح باتجاه السياسيين الايرانيين وبعدم امكان اجتناب الثورة الايرانية ؟
وفقاً للمعلومات المتاحة ان عدم القدرة على التنبؤ باحتمال قيام ثورة في ايران قد تفشى في جميع قطاعات الحكومة الامريكية خلال سنوات السبعينات ، وذلك وفقاً لتقرير اللجنة البرلمانية المختارة من المعلومات الاستخبارية التي تم التوصل اليها في وقت مبكر من سنة 1979 والذي جاء فيه ما يلي : نظراً لأن سياسة الولايات المتحدة في الخليج العربي اصبحت اكثر اعتماداً على الشاه ، فان مخاطر جرح مشاعر الشاه من خلال الحوار مع المعارضة قد اصبحت اقل تقبلاً . ولم يحدث ان تم تقديم اية تقارير استخبارية لوكالة الاستخبارات المركزية تستند الى مصادر من ضمن المعارضة الدينية خلال فترة السنتين التي انتهت في شهر تشرين الثاني 1977 ، كما ان التقارير السياسية للسفارة التي استندت على الاتصالات مع المعارضة كانت نادرة وتنم عن الازدراء احياناً .
ووفقاً لهذا التفسير لفشل سياسة الولايات المتحدة في ايران ، فان الترابط الوثيق بين واشنطن والشاه قد حدد من الفرص المتاحة للموظفين الرسميين في الولايات المتحدة لسماع الايرانيين الذين يعارضون الشاه ، وقد ادت هذه الوسيلة الى جعل ايران مشابهة لمجتمع مغلق من وجهة نظر الولايات المتحدة مع مجموعة سرية ايضاً من السياسيين الايرانيين ذوي العزيمة الخائرة . وكانت نتيجة ذلك ايجاد سلسلة من التقييمات الايجابية للاستقرار الايراني خلال السبعينات تم انجازها من قبل الفروع المختلفة لمؤسسات السياسة الخارجية والاستخبارات ..
وعلى سبيل المثال فان تقريراً خاصاً بالكونغرس في سنة 1970 حول ايران قد اكد نجاح برامج التطور الاقتصادي وتوصل الى ان بعثة الدراسة تعتقد ان ايران قد ادت عملاً ممتازاً في تطوير وخلق اقتصاد سليم ونظام اجتماعي قابل للنمو . وقد استمرت وجهة النظر هذه تبدو صحيحة حتى عشية يوم الثورة ، على اساس ان كارتر قد وصف ايران قبل سنة تماماً من الاطاحة بالشاه على انها جزيرة من الاستقرار في واحدة من اكثر المناطق اضطراباً في العالم .
لقد ادى سقوط الشاه في شهر كانون الثاني سنة 1979 الى اعادة النظر في السياسة الخارجية الامريكية للتعرف على الاسباب التي من اجلها كانت وجهات نظر الولايات المتحدة عن الظروف السياسية الايرانية المتعارضة تماماً مع الظروف الواقعية داخل البلد . ففي بادئ الامر كان فشل سياسة الولايات المتحدة في ايران يعزى الى فشل الاستخبارات الذي حال دون قيام صانعي السياسة الذين يتخذون من واشنطن مقراً لهم . بتقييم الموقف الحقيقي في ايران في الفترة التي انتهت بقيام الثورة . ولكن التركيز تحول تدريجياً الى الاهمية الخاصة المفترضة لايران التي ادت بموظفي واشنطن تقوية العلاقات مع البلد بصرف النظر عن السياسات الاقليمية لحكومته . وعلى اية حال فقد كان موقفنا الذي اتخذناه هو انه لم يكن أي من هذه التفسيرات يذهب بعيداً بما فيه الكفاية للتعرف على الجذور التي ادت الى وضع السياسة الامريكية نحو ايران .
ان جذور الفشل الامريكي في ايران يمكن ان يعزى الى عدد من الاعتراضات الخاطئة الخاصة بالعلاقات بين المتغيرات الاقتصادية والسياسية . والامر الاكثر تحديداً هو ان صانعي السياسة الامريكان كانوا يميلون الى توضيح مشاكل الاستقرار السياسي في ضوء التطور الاقتصادي غير الوافي .
وقد ادى ذلك ايضاً الى الاهمال الجزئي او الكلي للاعتبارات السياسية ضمن بلدان العالم الثالث مع اعطاء الافضلية الى التركيز على التحديث الاقتصادي ، باعتباره العنصر الجوهري الحاسم في الاستقرار . وكان الحد الذي نجد فيه ان اهتماماً بالتطور السياسي المجرد قد أسيء فهمه ، فقد تمت مساواة النظام الاجتماعي مع التطور السياسي . وهكذا قد اعتبرت حكومة الشاه مستقرة حتى بعد شهور عدة من التحديات الخطيرة والسبب في ذلك انه وفقاً للمقاييس الاقتصادية الامريكية ، فان مجمل الظروف الاقتصادية الايرانية كانت قد تحسنت فعلاً في ظل حكم الشاه . ولذلك فقد اعتقد الكثيرون من الامريكان ان ايران كانت قد تطورت سياسياً كذلك . فقد كانوا يميلون الى مساواة النظام الاجتماعي الذي تم فرضه بواسطة قوة الشرطة السرية الفعالة مع اكتساب الشرعية من قبل نظام الشاه . وقد انعكست مثل وجهات النظر هذه بوضوح في تقرير تم تقديمه الى مجلس النواب من قبل مجموعة من الكونغرس قامت بزيارة ايران في سنة 1970. وبعد عرض التقرير للنجاح الذي احرزته المشاريع الاقتصادية الايرانية فان الوثيقة قد توصلت الى ان لدى الشاه مخططاً لنظام اكثر ديمقراطية في الحكومة ، وان الدستور النهائي الذي يتضمن سياقات اكثر ديمقراطية سوف يكمل مسيرة النجاح المطرد لايران .
ولا يوجد هناك اي مؤشر في اي مكان من التقرير على ان المتطلبات الاساسية السياسية قد جرى اخذها بنظر الاعتبار للوصول الى هذه النتيجة المتفائلة . وهكذا انه حتى الدراسة الخاصة لانماط السلوك السياسي للايرانيين يمكن ان تكشف ان البلد لم يكن يمتلك حتى اكثر النظم بدائية والتي تصاحب عادة الديمقراطية السياسية المستقرة بشأن المنطقة كانت متمركزة ودينية . كما ان الاحزاب السياسية كانت مقيدة وشكلية تماماً ، وان الهياكل المنظمة التي تجمع اصحاب النفوذ وتحدد الترابط بينهم لم تكن موجودة . وكان العامل السياسي الوحيد الذي اشار اليه التقرير هو النظام .
وهكذا أن قدرة الشاه في الحفاظ على النظام بصورة مطلقة في ايران من خلال استعمال الشرطة السرية والآلة العسكرية الحديثة بنطاق واسع كان امراً متوقعاً من قبل الحكومة الامريكية كأثبات للقدرة السياسية لنظامه . لقد اعد الشاه بلاده للديمقراطية من خلال القمع المنظم حتى بواسطة اكثر الاساليب بدائية في التنظيم السياسي الشعبي . حيث اوضح الطرد النهائي للشاه ان نظامه لم يكن مستقراً ، ولم يكن باستطاعته ان يكون مستقراً ، وذلك لانه على الرغم من مرور سبع وثلاثين سنة على وجوده في الحكم فانه لم يكن قادراً على اضفاء الشرعية على حكمه . اذ بدون وجود الشرعية حتى المكاسب الاقتصادية المثيرة للاعجاب في ايران تحت حكم الشاه ليس بامكانها ان تمنح نظامه الاستقرار مع عدم الاشارة الى حقيقة ان هذه المكاسب الاقتصادية لم تتمتع بها سوى اقلية مختارة .
والواقع كانت هناك مبادئ نظرية قليلة في المنشورات الصادرة بشأن التطور السياسي للتأييد ، اما الافتراض الامريكي في اعطاء الاولوية الى التطور الاقتصادي او مساواة النظام بالاستقرار السياسي . ومن الجهة المعاكسة فان دراستنا للاعمال الرئيسية في السياسات المقارنة تقودنا الى نتائج مختلفة تماماً .
وقد نبدأ في ايضاح المسألة من خلال ادراك ما جادل به ( سيمور مارتن ليبست ) قائلاً : ان استقرار اية دولة ديمقراطية معينة يعتمد ليس فقط على التطور الاقتصادي وانما يعتمد ايضا على فاعلية وشرعية النظام السياسي لتلك الدولة . وتعني الفاعلية الاداء الحقيقي بتلك الدرجة من الاتساع التي تحقق الوظائف الاساسية للحكومة وفق ما تراه اغلبية السكان .
وتتضمن الشرعية طاقة النظام على خلق وأدامة المصداقية على ان القوانين وانماط السلوك السياسية هي الاكثر ملائمة للمجتمع .
ويواصل ( ليبست ) الاشارة الى ان الدول الناشئة تعاني في اغلب الاحيان من ازمات تتعلق بالشرعية حين انتقالها من المرحلة التقليدية الى مرحلة التطور . ومن دون الخوض بشكل عميق جداً في مسألة العناصر المكونة للتقليدية او للتطور على وجه الدقة فأننا لا يمكن ان نتفق رغم ذلك مع ( ليبست ) في ان أزمة الشرعية تتحدث في الغالب نتيجة للعملية غير الكفؤة في جعل العلاقات السياسية الجديدة تكتسب الصفة الحكومية . وقد ادى به هذا الامر الى الاستنتاج بأن … أحد المصادر الرئيسية للشرعية يكمن في استمرارية القوانين الاندماجية التقليدية المهمة اثناء الفترة الانتقالية التي تصدر فيها قوانين جديدة . وهكذا فأن الشرعية هي ليست خاصية طوعية للانظمة التي تفرض النظام والنمو الاقتصادي . ولذلك فأن تركيز الامريكان على ان النظام والتطور الاقتصادي يعدان عاملان اساسيان للاستقرار السياسي انما يفتقر الى طبيعة الرضا والتآثير التي يتصف بها الاستقرار الحقيقي . كذلك فان التركيز يتجاهل حقيقة ان الانظمة الفاشستية التي تشوه ( القوانين التكاملية التقليدية المهمة ) اثناء ممارستها لسلطتها او اثناء مواصلتها للتطور فالحالتين معاً انما تزيد من ذات الظروف التي تساند عدم الاستقرار السياسي .
وببساطة فان الانظمة الفاشستية ليست مرفوضة بصورة طوعية بسبب كونها تستخدم القسر والاكراه ، ذلك لان جميع الانظمة السياسية تقريباً تعتمد الى حد ما على استخدام التهديدات بالاكراه على اقل تقدير لاجل الابقاء على نفسها . ولكن الامر الذي يجعل الانظمة الفاشستية مثل تلك الموجودة في ( فيتنام ، ايران ، ونيكاراغوا المشكوك في بقائها هو درجة اعتمادها بشكل استثنائي على القسر والاكراه من اجل تعطيل المطالب الاساسية القانونية وصولاً الى ديمومة الاستقرار السياسي . ووفقاً لما أشار اليه ( ديفيد أبتر ) فان انواع الانظمة تختلف ( بين امور اخرى ) في ضوء اعتمادها النسبي على اعمالها القسرية ، وعلى الاعلام كعنصر اساسي في سيطرتها : ( تستخدم العناصر السياسية المختلفة مزيجاً مختلفاً من اعمال الاكراه والاعلام في محاولتها الحفاظ على سلطتها ، وتحقيق الاستقرار وزيادة فعاليتها . وقد واصل جداله على ان الانظمة السياسية النامية تحتاج الى ان توازن بين الاكراه والاعلام ، ولكن ذلك ينبغي ان يقترن بتناقص متواصل في اعمال الاكراه وتزايد متواصل في الاعلام والحقائق كلما اصبحت قدرة النظام على العمل بفاعلية اكثر في زيادة طرح الحقائق .
ان الدليل القوي على ان الشاه قد اصبح يعتمد بصورة متزايدة على القسر والاكراه من اجل الحفاظ على سلطته بعد مرور سنوات على وجوده في الحكم لابد وان يشير الى انه لم يكن يزيد من مستوى التطور السياسي الفاعل . فهناك اتفاق اجماعي تقريباً في المنشورات الصادرة على انه بغض النظر عن شرعية الحكومة فان العامل الحاسم الاكثر اهمية في جعلها قابلة للبقاء والتطور هو مستواها في جعل المؤسسات الحكومية تكتسب الصفة السياسية . وفقاً لما صرح به ساموئيل هنتنغتون بتعبير بالغ الايجاز : ( التعقيد يولد الاستقرار ) .
ان الانظمة الفاشستية تكون في الواقع عادة حكومات فردية ( اوتوقراطية ) ، وهي بهذا الشكل تكون من الناحية العملية بسيطة وقاسية تماماً ، ولذلك فانها تكون غير مستقرة من اساسها . وفي سعيها لمساعدة الانظمة الفاشستية في تطوير اقتصادياتها كعنصر اساسي للاستقرار، فان الولايات المتحدة قد ساعدت في الحقيقة على زيادة عدم الاستقرار السياسي . ان التطور الاقتصادي يستقطب القطاعات الهامشية والتقليدية السابقة في المجتمع والتي لابد وانها ستندمج حينئذ لتصبح جزءاً من النظام السياسي القائم . وكما اوضح ( هنتنغتون ) فان التحديث ( الذي يفهم على انه التعبئة الاجتماعية ) الذي يستطيع في غياب تسييس المؤسسات الحكومية ان يتسع للمصلحة الشعبية المتزايدة في الحكومة يؤدي الى الخداع السياسي . ولكن المشكلة بالنسبة لقائد له اسلوبه الخاص في التحديث والذي يحاول ان يطور اقتصاده بشكل حازم وموثوق هي انه لكي يحقق الاستقرار السياسي يجب عليه ان يخلق مؤسسات سياسية تقلل من نفوذه الشخصي . ( ويحتاج الفرد المتوقع قيامه ببناء هذه المؤسسات الى النفوذ الشخصي لكي يستطيع انشاؤها ، الا انه لا يستطيع ذلك من دون ان يتخلى عن نفوذه الشخصي ) .
من خلال ما سبق ما قدمناه لحد الآن فأننا قد نتوصل الى ان الشرعية وتسييس المؤسسات الحكومية هما المقومان الاساسيان للاستقرار السياسي . وتستنبط الشرعية من التوافق بين الاهداف الاجتماعية للنظام والوسائل اللازمة لتحقيق تلك الاهداف ، وبين القيم الثقافية لقطاع واسع من المجتمع . ويمكن فقط في المجتمع الذي تكون قيمته المهيمنة الوحيدة هي التطور الاقتصادي السريع ان يحصل نظام الحكم على الشرعية المبنية بصورة مجردة على اساس منجزاته التطويرية . ولكن التطور من اجل التطور لوحده يميل الى ان يكون غريباً بوجه خاص ، وباخلاقية الطبقة المتوسطة من الناس ، ولذلك فانه قد يظهر بمظهر اقل شمولية في انقاذهم افترضته واشنطن . ويعني تسييس الدوائر الحكومية بدون خلق تنظيمات وقنوات وسياقات رسمية وغير رسمية تستطيع دمج الافراد وتوحيدهم ضمن واقع اجتماعي مركب واسع جداً . ويمكن فقط في المجتمع الذي تأخذ تشعباته التامة في التفاعلات الاجتماعية مكانها ضمن ترتيب اقتصادي موضوع بصورة مقيدة ان ينتج التطور الاقتصادي بحد ذاته التسييس الضروري اللازم للاستقرار السياسي . وعلى اية حال فان القوى الفكرية والدينية التي اطاحت بالانظمة الفاشستية التي تساندها الولايات المتحدة قد كشفت عن وجود قيم اخرى الى جانب التطور الاقتصادي في العالم الثالث . وهكذا فان الأقليات الحاكمة العاملة على التطوير والتي كان ينظر اليها على انها تلاقي درجة كبيرة من الاستحسان من الخارج ، هي ليست دوماً موضع تقدير من قبل اولئك الذين يعانون من سياساتها .
ويقودنا هذا الى ان نأخذ بنظر الاعتبار التطابق بين القيم الحكومية وانماط السلطة من جهة ، وبين القيم وانماط السلطة لقطاع واسع من المجتمع من الجهة الاخرى . وقد ارتأى ( هارى ايكستاين ) ان ( اية حكومة سوف تنزع الى ان تكون مستقرة اذا كان نمط سلطتها متطابقاً مع الانماط الاخرى للسلطة في المجتمع الذي هي جزء منه ) . وبعكس ذلك فأن ( الحكومات ستكون غير مستقرة …. اذا كان نمط سلطة الحكومة معزول عن المجتمع ) . ويمكننا التعبير عن ذلك بطريقة اخرى وهي ان التعارض بين انماط السلطة في المجتمع ، شأنه شأن أي تعارض بين الانماط الاجتماعية انما يعد مصدراً واضحاً للتوتر ، الذي يقود الى اختلال القيم والمثل الاجتماعية ومنه الى اختلال السلوك الذي من المحتمل ان يكون مدمراً لاستقرار أي نمط من انماط العمل الذي تقوم به الحكومة . وفيما يتعلق باغراضنا الراهنة فأننا قد نفسر هذا القول انه يعني ليس بامكان أي قدر من التطور الاقتصادي او اي فرض للنظام بالقوة ان يولد الاستقرار السياسي حينما تكون قيم الحكومة وانماط السلطة على خلاف مع تلك القيم والانماط القائمة في المجتمع . ولذلك فأن اكبر قدر من الاهمية في تقييم قدرة البقاء بالنسبة لأي نظام يجب ان يعطي الى مدى صحة الطريقة التي يقوم بها ذلك النظام بتعزيز طموحات حضارته الاساسية او على الاقل القوى السائدة في تلك الحضارة . وهكذا فان اعادة النظر في العلاقات الامريكية مع اي عضو من اعضاء الانظمة الفاشستية التي تدعمها الولايات المتحدة ابتداءاً من كوريا الجنوبية الى الفلبين ومن نيكاراغوا الى ايران ، ستوضح لنا ببساطة ان صانعي السياسة قد فاتهم الالتفات الى هذه المتطلبات الاساسية المعقدة من خلال اعطائهم الاولوية الى الافكار السهلة والتدبير والاكثر مباشرة في أستتباب النظام والتطور الاقتصادي .
ويمكننا ان نلخص بحثنا الانتقادي للسياسة الخارجية الامريكية تجاه ايران بأن ، نتفق بالرأي مع ( روبرت موريون ماكلفر ) الذي لاحظ ما يلي منذ اكثر من اربعين سنة مضت :
( تقوم الدكتاتورية بحل مشكلة الحكومة من خلال معالجتها لنصف المشكلة ، حيث ان المشكلة الدائمية للحكومة هي القيام بالتوفيق بين الحريات الاساسية وبين ، استتباب النظام بصورة جوهرية . وغالباً ما يمكن ان يتم ذلك بصورة مباشرة وفورية من خلال التضحية بالحريات . وتعد الديمقراطية المبدأ الوحيد الذي يسعى حقيقة الى المعالجة الاجمالية للمشكلة ) .
وفي الانشغال التام للامريكان في أستتباب النظام فانه قد فاتتهم التعقيدات ، الاكثر عمقاً للمجتمع المدني والمتطلبات الاساسية للاستقرار . وربما ان المشكلة قد حولت الى الحكم بان موظفي السياسة الخارجية وموظفي الخدمة الخارجية مهتمون اساساً بحماية وتطوير المصالح الامريكية في الخارج وليس بمسألة التطور السياسي باعتبارها مسألة منفصلة ومتميزة . وقد يكون من الاسهل في الحقيقة التعامل مع قادة اقوياء في البلدان الاجنبية على المدى القريب ، بدلاً من مواجهة الواجب الصعب في تنظيم المصالح الامريكية وجعلها تتلاءم مع وضع حكومات تكون احياناً منهكة في عملية تحول سياسي مشوش ( بالنسبة للامريكان ) . الا انه على المدى البعيد فقد يصبح امراً ملزماً ان يحصل صانعوا السياسة في الولايات المتحدة عليها ممكن ادراك وتفهم اكثر تطوراً لنشاطات التطور في العالم الثالث ، وخاصة في مواجهة الوعي المتصاعد في الخارج.
تعد السياسة الامريكية تجاه ايران نموذجاً منفرداً ضمن مخطط اكبر يمثل دعم الولايات المتحدة للنهج الفاشستي ( الحكم الفردي ) في انحاء العالم الثالث . وان مثل هذا الدعم يتم تقديمه من خلال خيار مدروس نظراً لأن الامريكان قد اعطوا الى العوامل الاقتصادية بصورة تقليدية اهتماماً اكبر مما اعطوه الى المتغيرات السياسية في تقييمهم لتطور العالم الثالث ـــ طالما بقي النظام معادياً للشيوعية . حيث تم قبول نظام الحكم الفاشستي بسبب انه من وجهة نظر الامريكان بامكانه ان يسهل عملية التطوير الاقتصادي وان يدخل في صفوف الدول الديمقراطية .
وهكذا فان السياسة الامريكية تجاه ايران لم تكن قضية معزولة . فان دعم الحكومات الفاشستية يعد جزءاً لا يتجزأ من السياسة الخارجية للولايات المتحدة .
*المادة ، الفصل الثاني من كتاب :
Melvin Gurtov, Ray Maghroori – Roots of Failure : United States Policy in the Third World , Westport, CT, Greenwood press, 1984