لأن (قتل الأب أكبر جريمة في التاريخ) كما يحذرّنا دستويفسكي، على لسان أحدى شخصيات روايته العظمى(الأخوة كرامازوف).. لذا يدعونا المفكر والناقد الأستاذعبد الرزاق عيد،الى (إدارة الظهر للأب السّياسي والتقافي والتراثي)..ومابين القوسين هو العنوان الذرائعي للكتاب. أما (ثريا النص) 🙁 هدم الهدم) فهي تحتوي شحنة صادمة.وإجناسيا هي نقد النقد، كما تتجاور مع ديالكتيكية : نفي النفي.
(*)
مهيمنة الكتاب : إدراك ضرورة (هاجس الحرية التي قمعها النظام الأبوي ،،البطركي،، العربي السياسي والاجتماعي والثقافي والتراثي/ 5) .. وإذا كان لكل كتابة وظيفتها فأن وظيفة هذا الكتاب : هي الكشف عن مسببات القطع المعرفي: وإذا كان النصف الثاني من القرن العشرين،قد مسرحته ثقافة الإعلام الإيديولوجي للسلطات العربية الدمائية لتنتج لنا بضاعة واحدة وتروّج لها وهي (عبادة الموت كتعبير عن استشعار العجز عن الفعل في الحياة ومن ثم اللوذ بالانتحار كوسيلة وحيدة للخلاص ../6) ..فأن المفكرالأستاذ عبد الرزاق عيد، يستعيد سردا معرفيا تنويرا مسالما آفلا :(ماقبل الخمسينيات،إنما هي عودة من أجل استلهام بطولة زمن النهضة والتنوير العربي ممثلة في روح البحث والأكتشاف الذي لاتعوقه أو تضعفه ثوابت أساطير الأولين../ 6) وسبب هذه الاستعادة أن النصف الأول من القرن العشرين هو الذي علّق الجرس وهو الذي كشفَ (القفا للأب السياسي والتراثي والثقافي بشجاعة شابة تظهر مدى الشيخوخة التي آل إليها عقل الأمة وهو يتطلع الى حسن الختام) وثمة رأي آخر يرى: (كانت الخمسينيات والستينيات صراعا لاهبا بين الثوابت والمتغيرات. لذلك كانت عصراً مزدوجا من الانفتاح الحقيقي والانغلاق الحقيقي..ولكن الحصيلة الختامية للصراع بين الانفتاح الثقافي، لم تكن خاسرة على طول الخط../ 186- غالي شكري- الخروج على النص) وهو إنفتاح ثقافي مشروط بمزاج الدولة، لذا يستدرك الناقد والمفكر غالي شكري :(لم يكن الاستقلال ممكناً إلاّ في أضيق الحدود السرية غالبا والعلنية نادراً، وبثمن باهظ في جميع الأحوال) وبسبب هذا القطع المعرفي وسياد التشدد الأصولي وتشظي اتصالية الدال والمدلول تحولت الشعارات المتداولة في الخطاب الثقافي (الى أسماء على غير مسمياتها، تحولت الى مطلقات خاوية، بعد أن آلت مشاريع التقدم والتحرر الى رجعيتها واستبدادها..ماجعل الأفكار الكبرى التي شهر َ المثقفون سلاح النقد من أجلها، تتحول الى سلاح عاجز، مفلول، يرتد على أصحابه، ولاينتج سوى ألغامه / علي حرب/ ص10/ أوهام النخبة أو نقد المثقف/ )..والسؤال هنا هو كم هي المسافة بين ذهنية التحريم وثقافة الفتنة ؟!*..أما القاص والكاتب العراقي محمد خضيّر فيرى(الخمسينات أعوام البهجة، لا لأنها أعوام احتضار الاقطاع، والانتخابات البرلمانية،وازدهار الطباعة والصحافة،وحفلات حضيري أبي عزيز الإذاعية أو لأنها سنوات دخول موديلات جديدة من السيارات.والسينما والسيرك ومعارض الرسم وسباق الدراجات الهوائية ومباريات كرة القدم…/ 73)..كل هذه الكثرة الخارجية التي تشير نحو متغيرات اقتصادية واجتماعية ليست السبب الكافي للبهجة. السبب يكمن في بهجة الأقدام الريفية ..(بلا سبب معين كانت المدينة تبدو بهيجة في أعين الطلاب القادمين القادمين من الأرياف القريبة، يكتشفون سبلا جديدة لأقدامهم النحيلة، ويتوغلون في شعابها المجهولة / محمد خضيّر – بصرياثا)..
(*)
إذن من خلال (هدم الهدم )نكون في نزهة إنبناء معرفي، ترغب بترحيلنا (من سجن الجهل الى فضاء المعرفة ../228- عيد / محمد عبده – إمام الحداثة والدستور)..وهذا الترحيل المعرفي هو وحده الذي يستكشف ويوّسع شروط وجودنا . فالمفكر عبد الرزاق عيد، يثّبت السؤال الأصل للمعرفيين الذي يتجادل مع بحوثهم، ويشتغل على تشظية السؤال، الى أسئلة تتوالد أثناء التناظر، والملفت للنظر أن أسئلة المفكر والنقد عبد الرزاق عيد لاتطوقها الأدبية، بل توّسع قوس وعيها نحو الحلم .
(*)
في كل هذا الجهد المعرفي، إلتقطت قراءتي المنتجة تراسلا مرآويا تفكريا : بين المفكر والناقد عبد الرزاق عيد وبين أنداده في الطريق والطريقة،ومن خلال هذا التراسل يتم تأثيل البنية التحاورية للكتاب ، فمفكرنا عيد، يحبّر أفكار رأسه من محبرة قلب الصوفي الذي يتساكن فيه/ معه .وضمن إتصالية التمايز والإختلاف فهو لايشبه سواه، وبشهادته (كان النهضويون العرب التنويريون،مسلمين ومسيحين، يدارون ويداورون تجاه علاقة الهوية بالتراث وبالآخر..216)..ثم يتلطف ويبرر تصرفهم بذريعة معرفية (..وذلك لتمرير الأنوار من ثقب ابرة،، الآخر،، العدو القابع في الداخل،، الجهل – الاستبداد – الفساد،،) ثم ينتقل الى وساخة الآخر وتحديدا الى((الظلام القابع في الداخل،، حيث الوضاعة والانحطاط والرقاعة،، يمكن أن يمتد ليطال الأحفاد، وأن يصل النكوص والتردي والانحطاط حدا من التسفيل يبلغ بهولاء الاحفاد أن يمنحوا الامام عبده والفيلسوف الريحاني وسام استحقاق الخيانة :بدرجة ،، جاسوس،، أو مرتبة،، عميل،، !؟/ 216)
(*)
الأسئلة تكرر إنتاجها وكذلك الإجابات ولا جديد، سوى منتج السؤال الذي يتصور الجديد المعرفي في خزائنه، وما يجري ينتسب لما قبل العقل الماركسي وبشهادة رأس البروليتاريا كارل ماركس أن معظم الفلاسفة فسروا العالم، ولم يسهموا بتغيره. لكن ماركس نفسه لم يكن ماركسيا وهنا قوة ماركس المتجددة فينا أما لحظتنا هذه فقد تحاصرت المعرفة بفضائيات المتفيقهين التي لاتحسن سوى العد الى الاثنين : الأمر والنهي . منذ القرن الرابع الهجري حيث قررنا تهجيرنا من عصرنا وتهجيرنا من تاريخنا لنمكث في لحظة البرزخ: بشهادة عبد الرزاق عيد في( ذهنية التحريم أم ثقافة الفتنة )..
(*)
في رأيّ كقارىء منتج أن أشكاليات العقل العربي: هي في دخوليته الى المستقبل بحنين جرح نرجسي جارف نحو التاريخ، حنين إستعادة مجد آفل،هذا الحنين جعل العقل العربي متمركزا على تلك اللحظات فقط، كأنه يتفكر المستقبل كإداة ثأر عن انحساره، وهكذا صار تاريخنا مرض لاشفاء منه إلاّ بالثأر، يتجاور معه مرضنا بالغرب المؤدي إلى عصاب جماعي – بشهادة الناقد والمفكر جورج طرابيشي الذي كرّس لهذه الموضوعة جهدا خاصا.إذن علينا أن نعي الآن (إن العالم يتجه اليوم أكثر فأكثر إلى أن يكون موحّد الحضارة، متعدد الثقافات.فبالأمس كانت هناك حضارات، وفي جملتها أو حتى في مقدمتها الحضارية الحضارة العربية الإسلامية.أما اليوم فلم يعد ثمة وجود ولا إمكانية وجود إلاّ لحضارة واحدة هي الحضارة العالمية، على حين أن صفة التعدد ماعاد يمكن إطلاقها إلا على الثقافات التي هي بالضرورة قومية / 174- جورج طرابيشي – المرض بالغرب).. وفي السياق نفسه،يتوقف مهدي عامل عميقا مؤكدا على ضرورة التميز بين الأزمنة في تراتبيتها الثلاثية (أن زمن الاقتصادي في البنية الاجتماعية الواحدة، غير زمن السياسي الذي هو بدوره مختلف عن زمن الثقافي ../224). وأهمية هذا التمايز هو الذي يعيننا على التصدي لمفهوم الذات كجوهر ففي هذا المفهوم ينطمس الاقتصادي والسياسي ولايمكث سوى الثقافي الذي يعني (في النص الحضارة كلها/226) والمفكر الشهيد مهدي عامل لايعترض على زمن الثقافي (والواقع أن المنهج المادي نفسه يسمح بالنظر في الظاهرة الثقافية، دون النظر في علاقاتها بالقاعدة المادية للبناء الاجتماعي../ 155) ثم يشدد المفكر مهدي عامل قائلا(بشرط أن يعرف ذلك النظر حدوده،فلا تستحيل الظاهرة الثقافية به كلا هو الكل الاجتماعي نفسه، ولا يستحيل الإبعاد المنهجي للقاعدة المادية من حقل النظر إلغاء فعليا لها من حقل الوجود الاجتماعي،فبإلغائها هذا، ينقلب ماكان عند الفكر، وبالفكر،مجرد حصر للهّم، حصراً للكل الاجتماعي نفسه في هذه البنية، أي في الأيدلوجي وحده ..)
(*)
في كتابه (هدم الهدم) يستعين المفكر والناقد عيد، بما يتقارب مع أطروحاته هو ويقدم قراءته هو لما يرون هم(فالمر لايقرأ إلاّ مايناسب شعوره الخاص/ روجيه باستيد)..خلية السرد الموقوته في هذا السفر المعرفي الثمين هي (هاجس الحرية التي قمعها النظام الأبوي،، البطركي،، العربي السياسي والاجتماعي والثقافي والتراثي ../ 9) وهذه الخلية تحلّق مثل طير الهامة ولن تهدأ إلاّ بعد أنّ تجعل هذا الأب / الأنا العليا (مطمورة تطمر بكل أمان وأطمئنان الاجابات المستقرة المستكينة وراء أسوار المقدس ) لكن المقدس ليس فقط هو المتعارف عليه فيما بيننا كدين ، فلهذا المقدس إنداد مثل : التراث، وحدة الأمة، وحدة البروليتاريا …إلخ وهذه المقدسات كانت بمنزلة رأس المال الرمزي، على مدى (أكثر من نصف قرن) بشهادة المؤلف. والسؤال هنا أليس في هذا الثأر المعرفي الذي يجسده المؤلف هنا : يقظة متأخرة ؟! هذه النبرة تذكرني بصرخة تروتسكي (كل شيء أو لاشيء) وهي صرخة تريد …ولكن لا تبني إلاّ بعد أن تجعل الارض قاعا صفصفا، فما سيقوم به مفكرنا الجريء هو (حراثة مفاهيم) تصل الى مستوى(تذويب الأجسام الصلبة وتحويلها ليس الى أثير فحسب بل الى بخار ../ 7).. وإذا كانت عبقرية ابن خلدون قد بأرت التاريخ حركيا بالتراجع عن نقطة البداية بتوقيت فجر الاسلام وصعودا الى قيام الامبراطورية الاسلامية الكبرى ومن منظوره القائل بالتراجع، رصد ابن خلدون حالة الشيخوخة الحضارية للدول الاسلامية وسمع لسان الكون ينادي ب(الخمول والإنقباض )..وهكذ ستنتصر في الإسلام جبهة (نمو الأقوال وعدم تغير الاحوال) وبشهادة المفكر عبد الرزاق عيد(ليتوج زمننا بالزعامة الثقافية ليوسف القرضاوي وأترابه وعصبته ../ 7- سدنة هياكل الوهم) ويرّكز عيد، على التشدد الأصولي في الإسلام الذي (يشغل جهازه الإيدلوجي القائم على الإنتقائية والاستنسابية والفرز بما يتلائم مع وعيه الطفلي الرغائبي، ومن ثم يلقي مالا يرغبه في سلة مهملات الذاكرة، وينعش متخيلاً فانتازيا عن عالم مرغوب مشتهى يتعايش في مروجه الذهبية الذئب والحمل في وئام حكايات الجدات ../ 40) أن العقل القياسي يرفض المشاركة الفاعلة، لأنه عقل منفعل مغلق بإحكام،وحتى يتسيد دائما تراه يتفوه من فوهات الرصاص،بالتعاضد مع أجهزة الدولة التي تتغاضى عن القتلة بتمويهات الديماغوجية ولايفهم الأدب كأدب بل كتاريخ مقدس، فرواية(أولاد حارتنا) التي نشرها نجيب محفوظ على حلقات في جريدة الأهرام في نهاية خمسينات القرن الماضي، والتي لم تنشر في مصر بل في بيروت، في منتصف الستينات، ستقوم جماعة تكفيرية بمحاولة أغتيال للروائي الكبير في آواخر القرن العشرين وهو الروائي العربي الأول الذي نال جائزة نوبل، وهكذا (صارت الرواية الحقيقية هي مصير الرواية..أنقلب الموضوع رأسا على عقب تحولت الرواية الى بطلة الرواية ../506/ مابعد ذهنية التحريم- صادق جلال العظم)…هنا يكون الإنزياح الأشد فتكا، فغلط اللاقراءة للنص من قبل المتشددين هو الذي أفتى بإقامة الحد ((الشرعي)) من قبل أصحاب القوامة !!
(*)
كقارىء منتج أعلن بحرقة قلب :عقبتان أمامنا : قراءتنا القارة للتاريخ وللدين. وكيفية تعاملنا مع لحظتنا المحتدمة . من هاتين العقبتين إنبجست المنظومات الأبوية الأستبدادية .حاول المفكر والناقد الأستاذ عبد الرزاق عيد : جهدا معرفيا عميقا في هذا الصدد، وفتح شهيتنا لإنتاج أسئلة وتأملات حول هذا المحور..
*عبد الرزاق عيد/ هدم الهدم/ دار الطليعة – بيروت/ ط1/ 2008